لماذا كل هذا التفكك في بنية المجتمع العراقي؟
    السبت 27 أغسطس / آب 2016 - 11:05
    جواد وادي
    كاتب وشاعر ومترجم مقيم في المغرب
    منذ نعومة أضفارنا، وتحديدا منذ وعينا على الاضطرابات المتلاحقة في العراق، حيث كنا حينها نتلمس ما يحدث بعفوية الأطفال، ولكن بإحساس غريب لا نعرف تفسيرا له، ولم تكن لدينا القدرة لإدراك فوضى ما يدور من مماحكات واقتتال بكل الأسلحة، من التلاسن المتواصل والعنيف والتهجم لكل طرف على الطرف الآخر بعدوانية طاغية، إلى الحقد والرغبة في المحو، وغيرها من الضغائن التي نمت وترعرت بدواخلنا ولم يسلم منها كائنٌ من كان، وكأن الآخر يترصد الفتك بمن حوله بإحساس مريب، ناسين أننا نعيش ونتساكن ونقترب بعضنا من البعض الآخر، من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر ومن شارع لشارع ومن بيت لبيت حتى أنتقل العداء، بوعي أو دونه للأسرة الواحدة، فتناحر الأخوة، حتى وصل الاختلاف حتى الكراهية والبغض، وكل هذه الظواهر المخيفة والتي كانت أساس الهدم للشخصية العراقية التي قد لا نلاحظها بذات الحدة والصيغ الغريبة لدى شعوب وأمم أخرى، حتى بالنسبة للدول العربية التي تتقارب وتشترك بالكثير من أساليب العيش وطرق التفكير ووسائل التلقين، تربويا ودينيا ومجتمعيا، وغيرها من زرع جذور التربية المغلوطة التي بُنيت عليها الشخصية العربية والإسلامية بشكل عام، والعراقية على وجه التحديد، بغرس جذور فتنة بغيضة، ولا نعرف سببا لتفرد العراقيين بكونهم الأكثر شحنا وتراكما للأحقاد التي تظل، إما حبيسة لحظات الخوف، أو تحييدها ولو لوقت، حتى تحين لحظات الانقضاض، قد يكون السبب ما عاشه الوضع السياسي من غليانٍ دائم، سيما في حقبة البعث المقبور، فعادت حياتنا كمن تغلي على بركان مهيأ للتفجر في أية هدّة لعينة، ومما زاد الطين "غيصا" كما يطلق الأحبة المغاربة على بلل الطين، أن "حكماء القوم" ممن يمتلكون بُعد نظر وقراءة مغايرة عن الإنسان البسيط، لما يدور وما يختبئ وما يضمر، لم يجنّدوا ما يحتكمون عليه من وعي وفهم وادراك ودراسة لتفاصيل كل هذا الاشتباك، ولم يتوقعوا ولو للحظة أن الوضع مهدد بالتفجر، وأن النار الخامدة ما أن يقترب منها من ينوي اشعالها، ستتحول الى حريق هائل يلتهم الأخضر واليابس، لهذا تغلبت النوازع الذاتية بكل مناحيها، من فهم ضيق وفجّ للواقع، إلى التحسس من الآخر الذي لا يقترب منه فكرا وقناعة وتطبيلا، وتضخيم الشخصية التي تنتمي لفئة دون غيرها، واعتبارها صاحبة السبق والحق والريادة والمواقف السليمة والشرعية، وما دونها هي الخارجة عن الطريق السوي الذي تظنه الوحيد والأوحد الواجب اتباعه دون قيد ولا شرط وحتى دون اعتراض، تماما كما موجود في الفهم الديني لدى ملل ونحل الإسلام، أن هناك إحدى وسبعين فرقة، منها سبعون فرقة منحرفة عن الطريق ومآلها إلى النار، وواحدة فقط هي الناجية.
    من هنا، تنامى الحقد وبدأ يكبر مع مرور الوقت كلما كبر الانسان عمرا، وليس فكرا وعقلا، وهنا تكمن المعضلة، تعمّقت الكراهية أكثر، طبعا بتغذية متواصلة وخبيثة ومخطط لها ممن يريد إبقاء مثل هكذا أسلحة مدمرة قابلة للتفجر في كل وقت وحين وفتيل الاشتعال بأيديها، مع تكريس حالات التخلف والتبعية والحؤول دون حدوث لأي تنوير فكري وتربوي من شأنه أن يمنح منّ تكلست عقله واعتادت على التلقي المتخلف، اعتماد على النزوع الحسي والعواطف غير المهذبة وتحريك الوجدان الجمعي المغلف بالغيبيات والخرافات وكل ما من شأنه إبقاء حالة التردي الفكري كما هي، بل والسعي الحثيث لتعميق هذه الحالات، وخزات فكر مغاير، وبداية النبش عن المسكوت عنه، مما سيخلق حالة انتفاض غير مرغوب فيها، وبالتالي اسقاط المشروع الذي من خلاله، إذا ما بقي صامدا بوجه "البدع الجديدة" من شأنها أن تدخله النار، وبقيت المراهنة على تكريس التراجع ورصد حالة "المؤمن" المسحوب من عنقه والمشدود بحبل الممنوعات قائمة عبر حقب الزمن المر والمكابدة المتواصلة.
    ها نحن اليوم، ونقصد هنا، كل من يسعى لتمزيق هذه القشرة المخيفة التي تحولت وتزداد يوما بعد آخر إلى حالات من التردي والتراجع والظلامية المخيفة، محاطة بأسيّجة اسمنتية من الممنوعات، لتتحول الى زنازين خطيرة يحشر فيها الناس الذين باتوا مثل آلات شطرنجية يتم التلاعب بها، ليصعب بالتالي الفكاك منها وامتلاك قدرة الانقضاض عليها وتهشيمها، وهذا ما يريد ويسعى ويجاهد اليه وبه سدنة التخلف والظلامية وتغييّب الفكر وإشاعة الخرافات والغيبيات التي تحول الانسان إلى أداة لتنفيذ المآرب، بطرق لا تخطر ببال الأبالسة، وحاشى للأبالسة أن تكون بهذا المستوى الخطير من اعدام الناس وإبقائهم وقوفا وهم أموات.
    لعل القارئ الفطن يلاحظ أننا جمعنا كل حالات التسيب البشري الغريب في قفة واحدة، وخلطنا الديني بالسياسي بكل تفاصيلهما، ولكن في الحقيقة هناك من الربط القوي بين هذين المكونين الهامين والخطيرين، شكّلا كل البلاوي والخيبات والتراجع والتفكك وكل صيغ الفساد والانحلال الخلقي وغياب الضمير وفقدان روح المواطنة وغيرها من التوصيفات التي تعتبر معاول هدم حقيقي للإنسان والمجتمع، وقبل هذا وذاك للإنسان الذي يعتبر بنظر وسعي ونضال الأحرار، هو القيمة الحقيقة والاستثمار المربح للمستقبل الواعد لبناء الأوطان والإنسان. 
    لقد توصلت من أصدقاء متابعين لما أكتب بعتب كبير، أحيانا مغلف بلوم، بتوقفي عن الكتابة، وها هي الفرصة لتوضيح هذا الأمر وباختصار شديد.
    ذلك أنني وخلال مئات المقالات التي تناولتُ فيها ظواهر وحالات ومثالب مجتمعية واقصاء الناس عن المسرح اليومي لما يحدث، وصلت لحالة اللامعقول والبعيد عن الفهم للعقل السوي، نُشرت في منابر ورقية ومواقع الكترونية عديدة دون جدوى، بل الأكثر من ذلك أن الحالات تزداد وتستفحل أكثر، وآخذة في التناسل والولادات المخيفة، علما أن الهدف الأساس هو حث القارئ، وخصوصا ذلك المتضرر بقوة من مساوئ ما يعيش ويتألم ويعاني من صيغ عيش وصلت الى المحو الحقيقي، ولكننا لا نلاحظ أي حراك أو مسعى لتحريك الجانب الإنساني للدفاع عن كرامة البشر وقيمة الوجود الذي وصل الى حالة العدم وللأسف الشديد، من هنا يتبين لا جدوى أن تحرق أعصابك لكتابة مقال لا يقدم ولا يؤخر وكأنك تصرخ وتستنجد الناس وأنت في وادٍ قصي.
    إذن لماذا نكتب ونشحذ أقلامنا ونتأمل بالحلول وإمكانية الخروج من النفق الذي يستفحل ظلامه يوما بعد آخر، والهوة تزداد وتتعمق وصلافة السياسي واستهتاره وإدارة ظهره لصرخات المعذبين تتنامى بطريقة فضّة ومتوحشة، ولا من سبيل لحراك يشفي الغليل ولو لحين، سوى أولئك الأحرار المنتمين للحراك المدني والشرائح الوطنية الحقيقية التي تسعى منفردة وللأسف بتخفيف العبء عن كاهل المسحوقين ولو بالشعارات، دونما استجابة حقيقية ممن يتسيّد سلطة القرار، حتى تعمّقت الهوة بين ساسة البلد ومواطنيه من المتضررين والمعدمين والمغضوب عليهم، الأمر الذي يفاقم من حدة الألم والمعاناة وكثرة الأسئلة المقلقلة والمحيرة ونحن على بعد آلاف الأميال، عن هذا الصمت المطبق وكأن الناس على جانب من الرضى والقبول بما يحدث، لتتعايش جنبا إلى جنب مع سراقها وفاسديها. 
    تناسلت الأحزاب وتكاثرت بعد التغيير المبارك بشكل غريب، ومع ذلك استبشرنا وبحذر، خيرا أن العراق مقبل على حالة صحية، بمثابة تمرد مشروع لنظام شمولي قمعي، ذهب غير مأسوف عليه، كانت له اليد الطولى لكل الأمراض التي ذهبنا إليها آنفا، ولكننا نفاجأ مع مرور الوقت أن أحزابا وكتلا وطوائف نهضت من تحت ركام القمع البعثي لتتسلم المشهد بعدوانية أضاعت بهجة العراقيين بالخلاص من البعثيين، لتبتلي بطوابير من وحوش سياسية وبلطجية ومليشيات وطارئين وجهلة وأنصاف أميين ومزورين وفاسدين ولصوص محترفين وكل من عافته الحياة، ليشكلوا المشهد الجديد والمخرَّب أصلا بتكالب غريب وسعي محموم للنهب وسرقة المال العام وإشاعة الفساد واعتباره حالة صحية بنظرهم، وبالتالي إفقار العراق وتركه يتخبط في كوارثه دونما سعي وطني للوقوف على خرابه ومحاولة إعادة بنائه واسعاد الانسان العراقي المظلوم على مر عصور المحن.  
    رائحة الفساد النتنة وحجم الصفقات المخيفة تطفو وتزداد يوميا من لدن الكتل والأحزاب والطوائف والمكونات بشخوصها وفرسانها وأسمائها المعروفة للقاصي والداني، والناس "لا حس ولا نفَس"، وما يزيدنا ألما وحيرة ان المتضررين والجياع يطلّون علينا بشكواهم وتذمرهم وصراخهم عبر التظاهرات أو وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بما يحدث لهم من طرف أناس لا يبعدون عن متناولهم أمتار، ولكن لا حياة لمن تنادي.
    ما أحوجنا أن نتذكّر ونستحضر قول إمام الحق علي بن أبي طالب (ع) الذي هو بُراء من هذه الثلة الفاسدة من شيعته كما يدّعون، ومن يستشهد به في كل وقت وحين وجيوبه ملأى بالمال الحرام، "لو كان الفقر رجلا لقتلته" كلام له من المعاني البليغة ما يدفع الفقراء والمسحوقين إلى التهام اللصوص وناهبي المال العام وسارقي لقمة الجياع عن بكرة أبيهم، دونما رحمة أو شفقة بهم.
    ولكن ما الذي يحدث وماذا حصل للناس؟
    هذا هو السؤال المؤرق والذي لم نعثر له على جوابٍ شافٍ...
    ولله في خلقه شؤون
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media