عبوسي ... واليهود
    السبت 24 سبتمبر / أيلول 2016 - 15:47
    د. مدحت محمود
    مازلت اتذكر تلك النظرات الحائرة التي تبادلتها مع ابنتي رند حينما دخلنا مكتب مديرة المدرسة الثانوية الكندية التي طلبت مقابلتنا سوية في ذلك اليوم البارد من أواخر  أكتوبر عام ٢٠٠٦.
     كان ذلك بعد وصولنا الى كندا بفترة وجيزة وتقديمنا وثائق الدراسة وشهادة النقل الدراسي لرند التي كانت في مرحلة الدراسة الثانوية في الإمارات لذا ارادت تلك المديرة ان تلتقي بنا للتعرف على امكانياتها اولا في اللغة الانكليزية وكذلك لاستقراء رغبتها المستقبلية في نوع الدراسة الجامعية التي تطمح رند فيها... كنت أصغي بعمق للحوار الدائر امامي والذي دام اكثر من نصف ساعة ،  وبين حين وآخر كانت المديرة تسألني سؤالا مقتضبا عن اهتمامات رند في طفولتها والاشياء التي تحبها او لا ترغب فيها... الى ان أنهت المديرة ذلك اللقاء قائلة انها قد رسمت صورة تقريبية لما يمكن ان يكون عليه مستقبلها الدراسي الذي ستتميز فيه .. غير انها استدركت قائلة ان رأيها هذا هو تشاوري فقط وليس ملزم أبدا حيث ان القرار الأخير يعود لرند في نهاية الامر... ودور المدرسة سينحصر في نوع الدروس التي ستأخذها تهيئةً لذلك المستقبل الدراسي الجامعي . ثم استوت المديرة في جلستها وعدلت من وضع نظارتها الطبية  ثم وجهت لي الحديث كما يفعل القاضي حين ينطق بقرار المحكمة  قائلة " أنا اعلم انك وزوجتك في مجال الطب كما وأنك  تنحدر من عائلة طبية  وقد تتمنى في قرارة  نفسك ان تحذو رند حذوك ولكني اعتقد انها ستبرع اكثر في مجال القانون والمحاماة" .  وجهت نظري نحو رند فوجدت شبح ابتسامة يتراقص على وجهها فعلمت فورا ان تلك المربية القديرة قد سبرت أغوارها ودرست شخصيتها في نصف ساعة فقط !!!... ما اروع ان تكون محترفا في مهنتك فلا تنطق الا صوابا ولا تضيع وقت مراجعيك فتبدو أمامهم كأهبل بامتياز . 

    ان دراسة القانون والمحاماة تستغرق ثماني سنوات في كندا والولايات المتحدة والمنافسة شديدة جداً للقبول فيها حيث ينبغي عليك ان تنال شهادة البكالوريوس الجامعية في احد الاختصاصات اولا قبل ان تؤدي امتحان القبول المعقد لدراسة القانون فإن حالفك الحظ بالقبول فسوف تقضي أربعة سنوات في دراسة القانون ...لذا فقد استشرنا بعض المعارف ممن سبقونا في كندا حول دراسة القانون فأكد الجميع على صعوبتها بل ان البعض قال لنا ان اليهود يسيطرون تماما على هذه المهنة وأنهم  يضعون عادةً  عراقيل عديدة بوجه قبول العرب والمسلمين . تذكرت حينذاك القول العراقي الشائع عن الشيء الذي ينغص حياة الانسان بين الحين  والآخر  فيقال له "يطلع لي بالمرگة" ​(اي المرقة)​
    ... حيث بدا لي ان اليهود يطلعون لنا بالمرگة حتى في القبول بالكليات .

    كأن مديرة المدرسة آنفة الذكر كانت تشاهد قبل عشر سنوات مستقبل ابنتي في البلورة المسحورة التي تنبأ بالمستقبل... مضت الأيام فنالت رند شهادة البكالوريوس اولا من جامعة يورك ثم اجتازت امتحان القبول في دراسة القانون وتم قبولها في جامعتين فاختارت جامعة أوتاوا ... واليوم اكتب مقالي هذا بعد ان حضرت قبل شهر مع بقية عائلتي حفلة تخرجها من كلية القانون... واتصلت بي صباح هذا اليوم تنبأني باجتيازها امتحان نقابة المحامين الكندية.

    كم علقنا من إخفاقاتنا على شماعة اليهود... كم اتهمناهم  زورا ببلاوي نحن سببها ... نتهمهم بأنهم هم الذين يذكون نار الطائفية التي أشعلت  بلدنا.. وبأنهم سبب لصوصية حكام العراق... وبأنهم سبب فساد رجال الدين لدينا .. بل وربما هم سبب الغبار والحر الخانق الذي يكتنف العراق صيفاً !!! ...

     كل ذلك ونحن لا نقوى على توجيه إصبع اتهام  واحد نحونا او ننحي باللائمة على جبال التخلف التي تكتم انفاسنا و تجعلنا نئن من وطئتها .. لا نجرأ على مراجعة الموروث الديني الذي  بقي على حاله منذ ١٤ قرنا... لا افهم السبب حقا لماذا كلما يلتقي عراقيون ويدور الحديث عن اليهود العراقيين على اقل تقدير يبادر الجميع الى تذكر قصص سمعوها عن آبائهم او اجدادهم وهي كلها تشير الى أمانتهم وعفتهم في معاملاتهم التجارية والى وفائهم وحبهم للعراق بل انهم ما زالوا يغنون اجمل الأغاني العراقية في أعراسهم في اسرائيل... مبعث عجبي انه لماذا  يذكر العراقيون مواطنيهم السابقين من اليهود  بكل خير... في حين ان وعاظنا يسبونهم في المساجد في كل خطبة جمعة ويكيلون لهم التهم في انهم سبب مصائبنا ورزايانا وينذروهم بالويل والثبور .

    في احدى حلقات المسلسل التلفزيوني الخالد تحت موسى الحلاق غضب مدرس الصف في مدرسة محو الأمية على المراقب حين اتهم عبوسي بأنه سبب الشغب  في الصف قائلاً  "هل من المعقول ان كل هذه الفوضى العارمة سببها عبوسي فقط؟؟".... فأيد الحاج راضي كلام المعلم قائلاً " أصلاً عبوسي كان غايب اليوم عن الصف".

     لا أظن ان عبوسي واليهود هم سبب كل اللغاوي والقرف والكآبة التي تلون أيامنا ... كما انهما لا  يطلعان لنا في المرگة ويفسدان طعمها.... لان هناك خلل جسيم في مرگتنا بالأساس وهي تحتاج الى طباخ ماهر يعيد النظر في محتوياتها وطريقة طبخها.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media