قول:(في نسبية مفهومي الجنة والنار)
    الأثنين 26 سبتمبر / أيلول 2016 - 20:01
    آية الله الشيخ إياد الركابي
    •    ماذا نعني بالنسبية هنا في بحثنا هذا ؟ ،
    •     نعني بها : [ ...ذلك الشيء الذي يكون بلحاظ ما يمكن تصوره من جهة كل فرد ] ، - وذلك المعنى يتفاوت درجة وقيمة وفاعلية بحسب الوضع والمعرفة وجهة الإستخدام - ، وفي الواقع إنه من خلال مفهوم النسبية هذا يسهل علينا التعرف على معاني الألفاظ ودلالتها وبيان مصطلحاتها ومفاهيمها ، فمثلاً مفهومي - الجنة والنار - يكونان كذلك من حيث درجة فهمنا وتصورنا لهما ، ونعني بذلك إنهما لفظين أو قل مصطلحين وردا في نصوص الكتاب المجيد للدلالة على معنى [ السعادة والشقاء ] ، و السعادة والشقاء معنيان مرتبطان بما يتبادر للذهن عنهما وبما يشعر بهما المرء ويحس .
    •    - والجنة والنار : ليسا مكانيين ماديين للعيش كما يتصور البعض ، بل هما مكانيين تصوريين يحس بهما ويشعر فقط في العالم الآخر ، وقد وردا في الكتاب المجيد بهذا المعنى على نحو الحقيقة التصورية ، ولكي نفهمهما و بحسب ما عندنا من أدوات وعناصر تركيبة إيضاحية وردا في هذه الصياغة اللفظية التي نقرئها في الكتاب المجيد [ لكي تناسب أفهامنا ] ، - وبين الدنيا والآخرة تشابه وإختلاف من وجه - فهما عالميين متساويين في الماهية ومختلفين في الطبيعة ، - ، و التساوي المقصود في الماهية يعني كون مفهوم الجنة في الدنيا هو نفسه مفهوم الجنة في الآخرة ، ولكن الإختلاف بينهما يكون في الطبيعة ، أعني إن طبيعة الجنة في الدنيا غير طبيعة الجنة في الآخرة ، - فالجنة في الآخرة – عبارة عن معنى السعادة في مفهومها التصوري ، الذي يشعر به المرء ويحس فقط ، هي إذن شعور وإحساس تجريدي تخيلي وليس مادي ، وهذا الإعتبار يحصل للمرء في حالتي الموت والنوم العميق ( الأحلام مثالاً ) ، 
      ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60]
    •     ونفس الشعور والإحساس يكون في معنى - النار في الآخرة – والتي هي عبارة عن العذاب الشديد أو الألم الشديد وبتعبير الفلاسفة ( الشقاء ) ، فما يُقال عن الجنة والنار في الآخرة هو مجرد شعور وإحساس بهما .
    •    وقد دل صريح الكتاب المجيد على ذلك ، ولهذا نرفض قول بعض أهل الكلام في كون الجنة والنار - مخلوقة أو قديمة - بما يوحي التجسيم وما تعنيه المادة من التركيب ، ذلك لأن لفظ – الجنة - أستخدم في الكتاب المجيد للدالة على السعادة والنعيم الذي يشعر به المرء شعوراً روحياً ، كما يحصل للمرء حين النوم من أحلام ورؤى ، ، إذن فنحن حينما نرفض كون الجنة والنار مخلوقان أو قديمتان نرفض في الواقع إعتبارهما ماديتان ، وبالعودة لتعريفنا المتقدم يتبين إن ماهية الجنة في الكتاب المجيد واحدة في الدنيا والآخرة ، وهذه الوحدة أراد النص تعميمها في ذهن المتلقي والسامع ، و إنما الإختلاف في طبيعتها وفي كيفية الإحساس بها ، وذلك ما نفهمه من قولنا بالشعور والإحساس بها .
    •    ولفظ - الجنة - في الكتاب المجيد جاء في صيغة تعريف بأشياء مادية ملموسة من نخيل وأعناب ورمان وغيرها ، وهذه الصيغة التعريفية ليست إفتراضية وإنما جاءت بلسان حال فهم المتلقي للفظ ولمعناه ، قال تعالى : - أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب - آل عمران 133 ، والكلام في النص يذكر لنا أشياء مادية نلمسها ونحسها ونشعر بالسعادة من خلالها ، وهذه الأشياء المذكورة ليست أشياءً مخفية أو غير معلومة ، وفي ذلك يتضح معنى رفضنا للترادف اللفظي الذي نقول به في الكتاب المجيد ، وبنفس السياق يأتي قوله تعالى : - ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله - الكهف 39 ، وهو كلام عما هو مُشاهد ومرئي واللفظ ورد في سياق المعنى ، كذلك قال تعالى : - كمثل جنة بربوة أصابها وابل .. - البقرة 265 ، إذن فالمعنى المتحدث عنه في الدنيا يكون بلحاظ ما يحس به المرء أو يشعر به شعوراً مادياً ، ولكن الكلام عن الإحساس في نفس هذه الأشياء في الآخرة يكون لا مادياً بل إنه مجرد شعور وإحساس ، ومن هنا يكون تعريفنا للجنة الموعودة : [ بإنها ذلك الشيء الذي يدل على السعادة ] ، وأما النار في الآخرة فهي : [ كل شيء يدل على الشقاء والعذاب والألم ] ووجودهما في الآخرة تصوري - .
    و لكن ماهي العناصر التي تُعرف الجنة والنار  ؟ ، في الكتاب المجيد تكون العناصر المُعبرة عن الجنة والنار - أشياء مادية - من نخيل وعنب ولبن وعسل وخمروخشب وحجارة ولهب وغيرها من التعبيرات ، وهذه التعابير مأخوذة من مفردات عالم الدنيا ، أي إنها مفردات تشكل للإنسان وفي تصوره الإفتراضي معنى السعادة والشقاء ، وهذه المفردات في العالم الآخر وبلحاظ مفهومي - السعادة والشقاء - لا تعدو أن تكون هذه المفردات بمثابة - الفكرة المجردة - التي تحصل للإنسان من خلال الشعور والإحساس الروحي ، تحصل له كنتيجة لعمله في عالم الدنيا ، والعلاقة بين ( الإنسان وبين الجنة والنار ) هي علاقة طردية بحسب درجة الفعل والعمل في الدنيا وطبيعته ، وهذا التقرير إعتباري بحسب درجة تصور دلالة المفهوم ومايؤدي إليه ، و الدلالة التصورية : في المنطق العام ليست مطلقة والشعور والإحساس بها هو الدليل الدال عليها ، فإن قيل : إن الشعور والإحساس متعلقه في عالم الدنيا مادي بلحاظ مفهوم المادة ، ولكنه ليس كذلك في عالم الآخرة .
    •    قلنا : إن المتعلق هنا هو الشعور بالسعادة والشقاء على نحو مجرد ، و السعادة والشقاء هما مفهومان نسبيان وفهمنا لهما بحسب مالدينا من قياسات منطقية وعقلية ، فمثلاً تحصيل السعادة في العلاقة الزوجية : هو مفهوم نسبي يختلف بحسب شعور كل واحد منا به هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فالمشاعر تجريدية تختلف بحسب طبيعة عالم الآخرة ، - أعني طبيعة الشعور وطبيعة الإحساس - ، ففي قوله تعالى : - كذلك وزوجناهم بحور عين – الدخان 54 ، يظهر في الخطاب ما يشكله الشعور بالزواج وطبيعته من خلال فهمنا في عالم الدنيا ، لذلك ورد اللفظ - زوجناهم - إذ الزواج أعم من النكاح وإدخال مفردة - الحور العين - ليتناسب مع مقام الإستمرار والدوام ، وقد وردت هذه اللفظة في الطور 20 ، والواقعة 22 ، و الرحمن 72 التي جاءت مضمرة من دون ذكر لفظ - عين - كما في قوله تعالى : - حور مقصورات في الخيام - .
    •    و - الحور العين - هي صفة مشبهة تدل على ثبات الحال من تحقق السعادة والمتعة واللذة للإنسان ، والإنسان هو مطلق عنوان الذكر والأنثى ، و الكتاب المجيد حين وضع هذا اللفظ وضعه لمعناه الدال عليه من غير تكلف و زيادة أونقصان ، وحيثما تكون السعادة في موضع تكون الجنة هناك ، ولادليل في الكتاب دال على إخراج اللفظ من معناه كما في قوله تعالى : - ولدان مخلدون - الواقعة 17 ، للدلالة على دوام السعادة .
    •    وكما في جملة - زين للناس حب الشهوات ... آل عمران 14 ، الدالة على ما توفره تلك الشهوات من متعة وسعادة بالنسبة للإنسان ، وهذا ما يحصل للإنسان في الآخرة ولكن بطبيعة مختلفة .
    •    والسؤال : هل - الجنة والنار – لهما وجود فعلي موضوعي ؟ أم إنهما مجرد إفتراض ذهني ؟ .
    •    والجواب : وردت صيغة لفظ - الجنة والنار - في الكتاب المجيد كتعبير لما يحصل للإنسان من سعادة وشقاء جراء عمله في الدنيا ، وهو تعبير تقديري وقد أستخدم النص فيه وسائل إيضاح لتقريب الذهن للمعنى المُراد ، وهذا بحسب ما يفهمه الإنسان ويحس به ويشعر من أدوات وعناصر في السعادة والشقاء ، ولهذا فالجنة والنار ليست من الحقايق المادية بل هما من الشؤون الذهنية المفترضة التي يفهمها العقل من خلال الإحساس والشعور المجرد ، وبما إن ماهية الدنيا تشبه ماهية الآخرة لذلك وردت صيغ التعريف والإيضاح بهذا النحو ليس إلاَّ ، لكن الإختلاف في طبيعة ذلك هو الذي يجعلنا نقول بالعالم الإفتراضي الذهني التخيلي المجرد ، ثم إنه ليس هناك ثمة عالم وسطي بين الدنيا والآخرة ، ولهذا فبمجرد موت الإنسان تكون جنته وناره وبحسب وضعه .
    وأما القول : بإمكانية رؤية الله للصالحين من عباده ، فهذا قول مردود ولا يعتد به ، وذلك لأن الله ليس مادة حتى يمكن تصوره الجسماني ، وعالم الآخرة كذلك ليس عالماً مادياً ، والرؤية الروحية لله في أية صورة ومنظر لا نقرها ولا دليل عليها ، ثم إن الله حين تحدث عن أفعاله في الدنيا ، تحدث بصيغة البناء للمجهول ، وأعني بذلك إنه تحدث عن نتيجة الفعل وليس عن الفعل نفسه ، ولا عن الكيفية التي يتم بها الفعل ، وهذا ما نلاحظه حتى في زمن التجربة مع إبراهيم النبي في موضوعة : - ربي أرني كيف تحيي الموتى .. - وكذلك مع موسى النبي حين قال له : - ربي أرني أنظر إليك ... ، فالله تحدث عن نتيجة ما يفعله وليس عن فعله وكيفية ذلك ، ولم يتحدث عن رؤيته ، ولكنه دعاه ليرى نتيجة الفعل حين جعل الجبل دكا وخر موسى صعقا ، وهذا الشيء ينطبق على كل ما فعله الله ، فالذي نرآه هو نتيجة الفعل وليس الفعل نفسه ، هذا في الدنيا ، والأمر في الآخرة مشابه له فالله يتحدث عن السعادة وعن الشقاء كنتيجة فعل يحصل للإنسان .
    •    وأما ماذهب إليه بعض أهل الكلام في تفسير قوله تعالى : - وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة – القيامة 22 ، 23 ، فالكلام ليس عن النظر بمعنى الرؤية العيانية والمشاهدة ، إنما الكلام عن النظر فيما يحصل للمرء جراء ما يفعله في الدنيا ، وجراء ما يلتزم به من تعاليم الرب وما كان يريده ، والنص أستخدم لفظ الرب دون الإله للدلالة على المعنى ، ووهم رؤية الله منشأه وهم تصور عالم الآخرة كوجود موضوعي ، وهذا ليس حقيقي بدليل ما قدمنا ، إذ ليس هناك ثمة مشاهدة أو رؤية لله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والكلام في دلالة النص 22 من القيامة لما تكون عليه السعادة التي يحصل عليها المرء جراء ما فعله إمتثالاً لتعاليم الرب ووصاياه .

    •    آية الله الشيخ إياد الركابي   
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media