مجتمعات وجامعات!!
    الجمعة 30 سبتمبر / أيلول 2016 - 04:56
    د. صادق السامرائي
    العلاقة ما بين الجامعات والمجتمعات حيوية ومتبادلة وذات قيمة حضارية تطورية إرتقائية وتنويرية على جميع المستويات , والتقدم العلمي والمعاصرة تتناسب طرديا مع عدد الجامعات ومستويات التعليم فيها , وذلك يكون في المجتمعات التي تقدمت , لأنها أدركت أهمية وضرورة وحتمية إستقلال الجامعات , لكي تمنح الحرية للأفكار وإنطلاق ما في العقول من الطاقات والقدرات الإبداعية.
    أما في المجتمعات التي تأخرت فأن الجامعات لا تتمتع بالإستقلالية , وإنما تتدخل في أدق تفاصيلها الأهواء السياسية والحزبية والفئوية , مما حولها إلى مؤسسات عديمة الفائدة والدور , وفاقدة لقدرات بناء المجتمعات المنورة بالمعارف والعلوم وحرية التفكير وقيمة العقل في الحياة , أي أنها فشلت في بناء المجتمعات التي تستخدم عقلها في التفاعلات والتقيمات والتقديرات , وإنما أسهمت في تعزيز الأهواء والإنفعالات وحجبت العقل عن الحياة.
    وكان من رواد الدعوة لإستقلال الجامعات في الوطن العربي , عميد الأدب العربي المرحوم طه حسين , الذي جاهد بقوة وإصرار على أن تكون الجامعة مؤسسة مستقلة تماما , وأن يكون التعليم كالماء والهواء , ولم يتواصل أحد من بعده بهذه الدعوة الجوهرية اللازمة للتقدم والرقاء , ولهذا بقيت الجامعات في مجتمعاتنا كافة أسيرة أنظمة الحكم والكراسي , التي تريدها أن تكون وفقا لما يسوّغ سلوكيات الكراسي وقرارات الحكام , أي أن الجامعات تحولت إلى منابر لوعاظ الكراسي والحكام أو , للترغيب بما يقومون به ويقررونه.
    وذات مرة وبعد غزو العراق ببضعة أسابيع حضرت محاضرة لأستاذ جامعي تحدث فيها عن كتاب له وسط جمع غفير من المستمعين , وقد نسف بحديثه ما جرى للعراق وأثبت بأنه سلوك خطير , وأن كل ما نسمعه من تبريرات أكاذيب , وأن الهدف الأول والأخير هو وضع اليد على منابع النفط , وراح يفسر الأحداث التي حصلت في العراق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم على أنها بسبب النفط , كتغيير الأنظمة والحروب والمشاكل الداخلية وغيرها الكثير من التطورات , وأجزم بأن الذي يحصل لا علاقة له بأي شيئ آخر سوى النفط وهدف آخر , وكانت المحاضرة ذات جرأة وتفنيد صريح وقوي للحرب التي وقعت على العراق.
    وبعد المحاضرة سألنا رئيس القسم  لماذا لا تكون هذه المحاصرة في وسائل الإعلام , فأجاب , بأنها الجامعة وهي مؤسسة مستقلة , وما نقوله في الجامعة لا يمكن قوله في وسائل الإعلام , فللجامعة حرمتها المعرفية وقدسيتها الفكرية والعلمية , لكن المحاضر قد ألقى محاضرته على ما يقرب من نصف ألف مستمع , وهذا يعني أنه قد تفاعل مع عقول في المجتمع وعليها أن تتواصل وتتفاعل في التوعية والتنوير.
    وفي جامعاتنا لا يمكننا قول الحقيقة وفقا لمنطق معرفي علمي , ومهارات إقناعية جدلية ذات قيمة تحفيزية وتثقيفية , وإنما الخوف هو الذي يحكم ويتحكم بحالة الصيرورة القائمة , حتى لتحولت الجامعات في بعض الدول إلى مواطن لنشر الأفكار البهتانية والتضليلية , وللدجل والدعوات الفئوية وكأنها ميادين لتنظيمات سياسية وتحزبية ونشاطات خارجة عن القانون والقيم والأخلاق , فلا حرمة للجامعة ولا للأستاذ الجامعي , ولا معنى للجامعة إلا بمدى تواطئها مع النظام الحاكم وتعبيرها عن وجهات نظره , بل وأن تكون مناهجها متوافقة مع ما يريده ويهدف إليه.
    وبهذا فأن كثرة الجامعات في هذه المجتمعات لا يساهم في التقدم والتحضر , وإنما في زيادة مساحة التجهيل وإلغاء دور العقل والتطبيل للتبعية والإذعانية , فما قيمة العقل في مجتمعات تدين بالتبعية لهذا وذاك من ذوي الرؤوس العفنة والنفوس السيئة والسلوكيات المنحرفة , ووفقا لذلك فأن أخلاقيات هذه المجتمعات تتردى , وقدرتها على التواصل المعاصر تضعف وتنعدم , وتتحول إلى مطية للآخرين أيا كانوا ومن اين جاؤوا.
    ولن تقوم قائمة لمجتمعات لا تؤمن بالعقل وتمنع أو تحرم إستقلال الجامعات , وتحسبها سوحا للصراعات السياسية والفئوية والتحزبية الضارة بالحياة.
    فهل ستكوّن الجامعات مجتمعات؟!!
    د-صادق السامرائي


    sadiqalsamarrai@gmail.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media