الموت غرقاً فى رشيد.. بين التعنيف والإنصاف
    الجمعة 30 سبتمبر / أيلول 2016 - 05:18
    عادل نعمان
    كاتب وإعلامي مصري
    يفيق الأب من غيبوبته على سرير المستشفى المتهالك بعد إنقاذه من الغرق، يتحسس بيديه رقبته التى تشبثت بها زوجته آخر لحظات البقاء، يلملم بقايا قميصه الممزّق، عيناه تتساءلان عن مصير اليدين اللتين أحاطتا برقبته، وبقايا القميص الذى أمسك به وحيده، يربت أحد المرافقين على كتفه، يدنو منه، يا عزيزى: عن اليدين اللتين تركتا رقبتك، لحقتا ببقايا قميصك عندما نزعه وحيدك لحظة غرقه فى أعماق البحر. اللحظات الأخيرة التى يتذكرها كانت تحيطه بيديها، وكان طفله المسكين يمسك بقميصه الذى غاصت أكمامه معه فى الأعماق، كانت هذه اللحظة الأخيرة للثلاثة، أفاق منها ولم يفيقا، لو كان الأمر بيده لاختار مصيرهما، وارتاح معهما طوال العمر وسافرا معاً، ليس مهماً محطة الوصول. نحن يا صاحبى ليس لنا خيار فى البداية أو النهاية، وليس لك خيار حين تخور قواك وتغيب، أو حين ينقذك عابر وتعود. كم كان يتمنى الموت معهما، فربما كان مصيرهم معاً نجاة من لوم نفسه وتأنيبها ما بقى له من العمر، ونجاة من عقوبة سيواجهها من دولة لا تقدّر حزنه أو حاجته أو يأسه من صلاح الحال الذى دفعه إلى رحلة المصير المشئوم، و نجاة من تعنيف الناس الذين يحمّلونه فى محنته ما لا يطيق، ومن التأنيب ما يثقل عليه، ومن العتاب ما يزيد حزنه وكربه. الناس فى بلادى لا يرحمون أقرانهم فى مصائبهم، ولا يعدلون الميزان إذا حكموا، ويستعجلون الرأى دون قراءة، ولا يتركون خلق الله إلى حال سبيلهم حين يمشون أو يركبون أو يحملون حمارهم فى أسفارهم ويمضون. الناس فى بلادى بين مفرط فى الأمل ومفرط فى اليأس، بين مفرط فى الرجاء ومفرط فى العزاء، بين مُغالٍ فى المديح ومغالٍ فى الذم، بين مغالٍ فى الثناء ومغالٍ فى الهجاء، بين مسرف فى الإشادة ومسرف فى الإهانة، بين مفرط فى التمجيد ومفرط فى الازدراء، بين متجاوز فى التعظيم ومتجاوز فى التحقير، بين متجاوز فى التمجيد وجائر فى التبديد، حتى فى الحب والكره يغالون دون إنصاف. الواحد عندنا إما أن يمسك الأمر حتى يكاد أن يخنقه، أو يطلقه حتى يكاد أن يفقده، فلا توازن ولا تروٍّ ولا عدل فى الحكم، يهوى بسوطه دون رحمة ولا شفقة على من أخطأ، ويعفى نفسه من العقاب إذا أساء، ويحاسب من يخطئ حساب الملكين ولا يحاسب نفسه إذا وجب عليه حسابها، ويهيل التراب على من أساء إليه، وينسى أنها ربما رد على إساءته. إذا حدّثت أحدهم فهو العبقرى الذى لا يخطئ القرار، ويصيب دائماً الهدف، ومحصن ضد الفشل، ويرى غير ما يراه خلق الله، هو مثال للشرف والنزاهة والرضا والقبول، عفيف اليد، شريف المقصد والهوى، لا يقبل الحرام ولا ينظر إلى ما متّع الله به رجالاً غيره، فهو كمال العقل والحكمة، وباب العلم والقبول، وكان أولى بهذا المسكين أن يستشيره فى الأمر قبل سفره حتى ينصحه ويعظه ويعطيه من فضل زاده وعلمه الوفير، ولا يحسب لصاحبنا أن أمره بيده وبيمينه، وربما لو جلس مكانه لأتى فعله، وربما جاوره فى مركب الموت هو وأولاده يواجهون ذات المصير. صاحبنا المسكين رهين الحبس هو ورفاقه بتهمة الهجرة غير الشرعية، وربما يمثل أمام القضاء بتهمة إهمال أفضى إلى الموت، وستغمض دولتنا الفتية عينيها عن المهملين الحقيقيين الذين أفضى إهمالهم إلى موت المئات ممن سبقوه فى مراكب الموت والمئات المقبلة فى غضون أسابيع ليست بالكثيرة. الفساد فى بلادى وجبت محاكمته بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، ولو أردتم العدل أفرجوا عن هؤلاء المساكين وحاكموا من قيادات المحافظة من رأى وسمع وأغفل وأغلق عينيه، أو من قبض منهم الثمن، وترك الموت يحصد الأرواح تحت سمعه وبصره، ونام وموج البحر يبتلع أولادنا. دولتنا العريقة تعرف ما يدور داخل غرفنا المغلقة، وما يتناقله الناس على شبكات التواصل الاجتماعى وما يدور بخلدهم، ولا تسمع ولا تعرف عن مراكب الموت التى تحمل الضحايا وتعبر المياه إلى عرض البحر من سنوات فاتت ومات فيها المئات!! دولتنا العميقة تعرف دبيب النمل فى أزقتنا ولا تسمع عن سماسرة الموت الذين يتقاضون الملايين من البسطاء ليموتوا كل يوم فى عرض البحر دون وصول أو عودة!! وتسمع الدنيا عن كوارثنا ولا تسمع، وترى الدنيا مصائبنا ولا ترى، وتبكى الدنيا موتانا ولاتبكى. دولتنا العظيمة لم يستفزها يوماً تكرار حوادث الغرق والهروب الجماعى من ذات المكان مئات المرات من قبل حتى تتساءل وتتقصى لمعرفة الحقيقة!! ملف الموت ملىء بالمفاجآت والمصائب، والمتورطون فيه كثيرون. فإذا كنتم جادين فى معرفة الحقيقة فاسألوا سماسرة الموت، وأصحاب المراكب، والضحايا، لتعرفوا الحقيقة المرة والمتورطين فى هذه الجريمة البشعة التى راح ضحيتها العشرات وقبلها المئات. إن المأساة سوف تتكرر قريباً إذا علقنا الجريمة على تأخير إصدار قانون الهجرة غير الشرعية، ونغطى على المأساة فى إصداره سريعاً، وكأن غيابه هو السبب فيما حدث، دون محاسبة المقصرين. الناس فى بلادى يقسمون أن المشهد يتكرر من سنين تحت سمع رجالات المحافظة، ومنهم من يغمض عينيه عن الكارثة وأن المراكب التى تنتظر اللنشات الصغيرة فى عرض البحر يسمع عنها ويعرفها الكثير فى الجهات الرسمية، ومنهم من يتقاضى أجر السكوت، وسنعود قريباً نجتر ذكريات أمواتنا ونحن نشاهد المسلسلات والمباريات، ونلقى اللوم على الضحايا، والفاسدون ينعمون بأموال الموتى.

    adelnoman52@yahoo.com

    "الوطن" المصرية
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media