الإدمان على النفط!!
    الأثنين 16 يناير / كانون الثاني 2017 - 19:50
    د. صادق السامرائي
    يبدو مقبولا ومبررا الحديث عن الإدمان على النفط ,  وقد نهضت في ذاكرتي حكاية " ...أبو النفط" , هذا الرجل الأسمر الطويل القامة الحسن الطلعة , كنت أستيقظ على صوته وقت الصباح وهو ينادي "نفط..نفففففففط".

    فتخرج نساء شارعنا لتضع كل منهن "تنكة" أو "غالون" أمام الباب فيملأه لهن "... أبو النفط". وقد مضيت أراه منذ طفولتي حتى أنهيت الدراسة الإعدادية وذهبت إلى الجامعة.

    وكان (... أبو النفط) غاطسا بالنفط من رأسه حتى قدميه , فملابسه ثقيلة لا تتغير في الصيف أو الشتاء, ويكاد النفط أن يقطر منها, ويداه معفرتان بالنفط, بل حتى وجهه كانت عليه آثار النفط.
    وكنت أحتار كيف يأكل وكيف يشرب حتى كنت أظن أن طعامه وشرابه من النفط.

    (...أبو النفط) كان يتحرك في شوارع مدينتنا وفق ميقات محدد ومضبوط , يبدأ في الساعة السابعة صباحا وينتهي في الساعة الثانية بعد الظهر ,  وهو يزور شارعنا مرتين في اليوم ويمكنك أن توقت ساعتك على صوته.

    (...أبو النفط) لم أعد أراه بعد أن غادرت المدينة  ,  لكني عدت إليها بعد أعوام من الإبتعاد , وقد تغيرت وتبدلت أحوالها وطبائع أهلها ,  وذات يوم وإذا بي ألتقي (...أبو النفط) الذي شحن طفولتي بالنفط , وصوته وعربته جزء من حياة الشارع الذي كنا نلعب فيه يوميا.

    وأقولها لكم بصراحة شممت رائحة النفط حال رؤيتي له , وهو يتجه نحوي عند باب الغرفة ,  لأنني لا يمكنني أن أتخيل هذا الرجل من غير رائحة نفط ,  فما رأيته مرة في حياتي من غير نفط , فوجوده وشخصيته مقرون بالنفط , وهذه هي المرة الأولى التي أراه من غير عربة النفط , ومن غير ملابس متشربة بالنفط.
    فقلت له بعد أن رحبت به وتحدثنا قليلا: ماذا تعمل الآن؟
    قال: لا شيئ , أمضيت عمري أبيع النفط ,  والآن ما عاد لي رزق من النفط ,  رزقي على الله
    قلت: وهل فقدت عملك بالنفط؟
    قال وكاد أن يبكي: النفط حياتي ,  لا أستطيع أن أتخيل حياتي من غير نفط ,  لقد فقدت حياتي لعدم بيعي النفط ,  أنا أحب النفط ,  النفط يبعدني عن آلام الحياة وعناء الأيام ,  رائحة النفط كانت دوائي.
    قلت: ولماذا لا تعيش قريبا من النفط؟ أعني لماذا لا تعمل في محطة لبيع البنزين؟
    قال: لا أحب البنزين , أكره رائحته ,  أنا أحب النفط فرائحته لذيذة وطيبة ومنعشة.
    ترقرقت الدموع في عينيه وهو يحدثني عن النفط وعلاقته الحميمة معه.
    ومضى قائلا: كان النفط زوجتي وكل شيئ في حياتي ,  لم أتزوج , فلا إمرأة تريد مَن يسبح بالنفط كل يوم , وأنا كنت أغتسل بالنفط ,  أعفر ملابسي به ,  إنه حياتي.
    قلت: وماذا تفعل الآن بدون النفط؟
    قال: الأعوام الثلاثة التي مرت كانت قاهرة وصعبة ,  لقد تحولت إلى رجل مريض ,  أهيم وراء النفط ,  أريد النفط ,  لكنه صار عزيزا, وما عدت أجني ربحا منه ,  ثم أن محطات النفط صارت بعيدة, وأنا لا أملك سيارة ,  إضافة إلى إزدحام الناس عند المحطات ,  كما أن الناس ما عادت تشتريه من الباعة, فهم يذهبون إلى محطات بيعه بسياراتهم.
    قلت: ولماذا لا تعمل في محطة النفط؟
    قال: لقد حاولت لكنهم يوظفون غيري , فأنا لا أقرأ ولا أكتب ,  كل الذي أعرفه هو النفط.
    قلت: أرجو أن تقول لي الحقيقة ,  ماذا تفعل أنت حقا ,  هل لا تعرف النفط على مدى ثلاث سنوات ,  فأنا أشم رائحة نفط.

    قال: لا..لا والله لا يمكنني أن أترك النفط ,  إن عندي في غرفتي قناني معبأة بالنفط , تملأ الغرفة برائحته , وأحيانا أرش قليلا منه على فراشي, فلا يمكنني النوم من غير رائحة النفط.
    لا يمكنني أن أتخيل يوما واحدا في حياتي من غير رائحة النفط ,  يا ليتني أستطيع أن أشربه, لقد حاولت, لكنه تسبب لي بالكثير من الإضطرابات المعدية.

    نظرته متألما فهو لم ينزع جلده النفطي وملابسه النفطية وعطره المفضل الذي إنغرس في تلافيف دماغه وتجذر في كيانه العميق , وهو لا يزال نفسيا وروحيا غاطسا في النفط , وأنا أشمه فيه أيضا!
    قلت: أنت مدمن على النفط!!
    قال: ماذا تعني؟
    قلت: أن مصيبتك مثل مصيبة مَن أدمن على الخمر ,  لقد أمضيت حياتك تشم رائحة النفط ,  وبعد أن تجاوزت الستين من عمرك, لا يمكنك أن تشم هواءا من غير نفط ,  لقد تغلغل النفط في تلافيف دماغك وكل خلية في جسمك , ولا يمكنك أن تحيا من غير نفط.
    قال: وما هو الحل؟
    قلت: أن تعمل بالنفط , حاول أن تجد عملا في محطة لبيع النفط.
    تأملني بنظرات كسيرة وهو يقول: بعد هذا العمر ,  أنا من مساكين الدنيا ,  الناس تتصدق عليَّ كل يوم فلا أملك إلا غرفة صغيرة ورثتها عن أمي ,  ولا عندي زوجة ولا أولاد ولا أخ ولا أخت ,  أنا وحيد ,  وحياتي هي في النفط ,  يتصدقون عليَّ بالطعام وبعض المال ,  ولا أحد منهم يتصدق علي بقليل من النفط ,  أنا أريد نفطا.

    كان (... أبو النفط) يشعرني بأنه يعاني من أعراض إنسحابية لعدم أخذه جرعة كافية من رائحة النفط.
    تأملته وأنا أقول له ,  إنك تمثل داء البشرية الرهيب ,  إنه داء الإدمان على النفط ,  البشرية التي سيقضي عليها النفط وسيفعل بها مافعله بك يا (...).
    فأنت لست وحدك مدمنا على النفط ,  بشر الأرض مدمن عليه ,  وسيقضي هذا الإدمان على البشر ,  أنت تشم رائحة النفط ,  والبشرية تشربه وتسكر به يوميا.
    إنها تفكر به وتكتب به وترسم سياساتها وفقا لمنظوره وشدة رغبتها فيه ,  إن النفط يا (...) يستعبد البشرية , مثلما هو قد إستعبدك وإمتلكك وحولك إلى أسير.
    فلا يمكنك أن تتخلص من قيد النفط ومن رائحته لأنك لا يمكنك أن تتصور حياتك من غير نفط, والبشرية كذلك مثلك.
    يا (...) أنت البشرية , وأنت الدول والشعوب الأرضية , التي أدمنت على النفط , وتفعل ما تفعل من أجل الحصول عليه.
    قال: لا أفهم ما تقول
    قلت: يا (...) عليك أن تغطس بالنفط ,  فقد أمضيت عمرك غاطسا بالنفط , تسبح بالنفط , تغسل وجهك بالنفط وكذلك ملابسك , فكيف يمكنك أن تكون أنت من غير نفط؟
    لا يا (...)!!
    عد إلى عملك وعاقر النفط وإسكر به كل يوم وإمضي بقية عمرك في عالم النفط ,  فهل وجدت دولة في الأرض قادرة على الشفاء من الإدمان على النفط ؟!
    لا يا (...) أنت مثل بلدك العائم على بحر من النفط ويعيش عيشة فقر مدقع وعوز أليم.
    يا (...).. دول العالم من أقصاها إلى أقصاها قد أدمنت على النفط ,  ولا يمكنها تحمّل الأعراض الإنسحابية الناجمة عن عدم شربه وشم رائحته ,  وحالات إدمان الدول تتفاوت فمنها من أدمنت إدمانا شديدا ومستفحلا يفقدها صوابها عندما يتعلق الأمر بالنفط.

    يا (...) هذه الدول ستصاب بالهلوسات والهذيانات والإضطرابات الحسية والفسلجية الصعبة بدون النفط ,  شأنها شأن  أي مدمن على الخمر أو غيره من المخدرات, وتعمل المستحيل من أجل الحصول عليه, وتبرر وسيلة حصولها عليه بما لا يخطر على بالك من أسباب , وقد ترتكب أعظم الجرائم من أجل النفط البغيض.

    نعم يا (...) أنت البشرية المصابة بالهذيان النفطي, ولن تشفى منه أبدا,  بل عليها أن تغرق بالنفط لكي تقضي على نهجها الفتاك ,  وعليك أنت أيضا أن تمضي غارقا في النفط حتى ختام عمرك.

    يا (...) عد إلى عملك ,  وعندما تتخلص البشرية من هذا الداء الوباء فأنك ستشفى ,  وكدت أن أصرخ بوجهه" إذهب واحتسي كأسا من النفط "!!
    نعم يا (...) "داوها بالتي كانت هي الداء"!!
    حدجني بنظرات يائسة وذهب يبحث عن نفط يشفيه من النفط!!
    وحسبته قوة عظمى ترتعش أمامي , وتطلق هلاوسها النفطية وهذيناتها العدوانية , لكنه جرجر خطواته , حالما أن يسبح في بركة نفط تنجيه!!

    د-صادق السامرائي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media