د. صادق السامرائي
من العلامات الفارقة التي تميز التأخر عن التقدم هي آليات التفكير التي تتحكم بالرؤى والتصورات السائدة في المجتمع , ففي العالم المتأخر تهيمن آليات التفكير الماضوية العقيمة , وفي العالم المتقدم تتفاعل آليات التفكير المستقبلية الواعدة المتجددة المنطلقة نحو آفاق متواكبة.
وهذا الفارق جوهري وأساسي ويحدد مسارات الحركة ويتحكم بمصير الأجيال , ويرسم خارطة سلوكها وما يتحقق في مواطنها.
فالعالم المتأخر محكوم بما مضى , ويستهلك قدراته وطاقاته في نبش الأجداث وإستحضار إرادة الغابرات , ومحاولة إدارة عجلة الزمن إلى الوراء , وإلغاء معطياتها والثبات على بقعة ما في زمن ماعاد موجودا أو متوافقا مع المتجسد في الدنيا الحية الصاخبة المزدحمة بالمعطيات.
وهذه الآلية تتحكم بمعظم النشاطات والتواصلات القائمة في المجتمع المتأخر , وتدفع به إلى المهاوي الطاحنات القاضيات بالحطام والركام , فالفكر ماضوي , والأقلام تكتب بمداد السوالف والغابرات , وأنظمة الحكم كأنها تتكلم بلسان المومياءات القابعة في المغارات العتيقة.
وعندما يطغى السلوك الماضوي على الحياة فأنها تتعوق وتتعطل وتفقد إحساسها بالزمن , وتتحجر في مواضع متعفنة وذات إنتاجيات ضارة ومدمرة لمفردات الوجود البشري القائم.
وقد أكد القرن الحادي والعشرون منذ بدايته وحتى الآن , بأن هذه الآلية الماضوية لا تصلح لحياة حرة كريمة , لأنها ضد القوانين الطبيعية والكونية وضد الإنسان كمخلوق متفاعل مع مكانه وزمانه , وهي تقطعه عما يحيطه ويعيشه وتأخذه إلى حيث الإنطمار في كهوف الظلمات والبهتان.
ولذلك فأن ما فيه ينعكس على محيطه ويرسم خارطة أيامه المقطوع عنها والمعادي لها , فتتخلق بانروما الحياة المشحونة بالتداعيات والتفاعلات السقيمة المهلكة للموجودات بأنواعها , والتي تلغي المستقبل وتقتلع مفرداته والمؤديات إليه , فالحياة في عرف هذه المخلوقات الديناصورية بلا مستقبل ولا حاضر , وعليها أن ترقد في المقابر التي تلد الشرور والبغضاء , وترفد النفوس بالكراهية والشحناء.
وهذا يفسر غياب المستقبل في هذه المجتمعات , وإنعدام القدرة على التفاعل مع التطورات المعاصرة , والمشاركة الحية بصناعة الحالات التي تمنح الحياة طاقات الإبداع المتجدد الفعال القادر على الصعود إلى مستويات الرقاء الأصيل.
والعجيب في آليات الماضوية أنها تحول المجتمع إلى صيرورة إستهلاكية , بلا قدرات إنتاجية أو عطائية لإرضاء حاجاتها , فتتبع وتقبع وتنأى بحالها عن الحاضر وتتغني بالماضيات وتريد القفز إلى حيث تتوهم.
وهكذا فهي مصفّدة بما يبيدها وينهيها!!
د-صادق السامرائي