أتعزز السعودية النفوذ الإيراني في المنطقة؟ 1/2
    السبت 18 نوفمبر / تشرين الثاني 2017 - 22:28
    زكي شيرخان
    كاتب ومحلل سياسي
    في أي صراع سياسي بين زعيمين أو حزبين أو دولتين، لا بد وأن يستحضر كل طرف كل أدواته لا بل يقتضي الأمر أحياناً خلق أدوات جديدة حسب مقتضيات الحاجة.  من هذه الأدوات وربما على رأسها القوة الناعمة، ثم الوسائل الديبلوماسية، والدعاية، وعمليات التجسس، وأخيرا وليس آخراً القوة الخشنة.  من الأدوات التي يهبها الخصم لخصمه اللدود وبدون مقابل هو الغباء.  هذا الغباء يمكن أن يرتقي إلى ان يكون أهم الأسلحة وامضاها في حسم الصراع إذا ما استغله الخصم بفطنة.
    لم تطفو على السطح مشكلة بين إيران والسعودية يوم كان الشاه يحكم، لعدة أسباب لعل أهمها، أن كلا النظامين كانا في الخندق الأميركي، وكان للشاه قوة عسكرية تعتبر الأقوى في المنطقة حتى مقارنة بما تملك تركيا وإسرائيل.  لم يكن بإمكان السعودية مجابهة هذه القوة التي هُيئت كخط دفاعي أول في حال تقدمت القوات السوفيتية باتجاه المياه الدافئة.  لكن، نقطة التحول المفصلية في العلاقات السعودية-الإيرانية كان عام 1979 عندما تغير النظام إلى جمهورية إسلامية.  بدأ منسوب القلق يعلو من إمكانية تأثير الثورة الإيرانية على دول الخليج وعلى رأسها السعودية.  جاءت الحرب بين العراق وإيران طوق نجاة لهذه الدول لأن كل الإمكانيات الإيرانية ستوجه لهذه الحرب مما يشغلها عما يجري خارج حدودها.
    السعودية، بدلا من محاولة تحسين وضعها الداخلي، لتفادي مصير الشاه لأن في بنية نظامها من السلبيات المشابهة لما كان موجوداً في إيران، ذهبت باتجاه دعم نظام صدام بكل قوة، وبدأت تعزف لحن الطائفية.  هذا الأمر لم ولن تنسه إيران.  كان الظن أن العراق سيكسب الحرب، وسينتهي النظام الجديد بعودة أبن الشاه ليحكم وتعود المياه لمجاريها.  ولما لم يحدث هذا، تم الرهان على أن اطالت أمد الحرب سيضعف إيران إلى الحد الذي لن تستطيع معه أن تمد تأثيرها.  صحيح أن إيران خرجت بأضعف مما كانت عليه كثيراً، وكان من الممكن أن تنكفأ على نفسها لعقود قد تمتد، وكان يمكن أن يكون تأثيرها المعنوي فقط على اتباع مذهبها.  ولكن السعودية، وعلى مدى العقدين الماضيين، أصرّت على تقديم فرص ثمينة متتالية لإيران للهيمنة والنفوذ على دول المنطقة.  وعلى ما يبدو أن السعودية مصرة على تقديم الفرصة تلو الأخرى.
    أول فرصة كانت محاولة فصل الشيعة في البلدان العربية عن قوميتهم العربية من خلال تجديد المقولة القديمة التي لصقت بذهنية الأنظمة الحاكمة "الشيعة فرس"، أو على أقل تقدير أن ولائهم المذهبي طاغ على ولائهم القومي، وأنهم يأتمرون بإمرة إيران.  وبدأت تطغى -بإصرار- على الخطاب حتى الرسمي منه مفردات سمجة "الروافض"، "عبدة البشر والحجر"، "الفرس المجوس"، "أولاد المتعة"... مصحوبة بفتاوى تكفير الشيعة من قبل شيوخ الوهابية بـ"عدم إجازة الزواج من بناتهم وحرمة تزويجهم بناتنا، وعدم جواز الصلاة على موتاهم، والامتناع عن دفنهم في مقابر المسلمين".  وتناسى القوم أن الجيش العراقي الذي حارب الجيش الإيراني على مدى ثمان سنوات كان جله من الشيعة ليس لأن النظام أراد أن يحارب إيران بأتباع مذهبها، لكن لأن نسبتهم السكانية تزيد على نصف سكان العراق، وهذا يعني أن النسبة الغالبة في الجيش العراقي كانوا من الشيعة، وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن الكُرد، وهم سنة، لم يلتحقوا بصفوف الجيش بل انضموا لـ"أفواج الدفاع الوطني" (الفرسان) والتي عمليا لم تشارك في الحرب.
    لأسباب تاريخية معروفة، هناك تداخل سكاني بين الدول المتجاورة في المنطقة، فقلة قلية من الشيعة في البلدان العربية (العراق، السعودية، البحرين...) هم من أصول فارسية، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن السواد الأعظم من شيعة هذه البلدان هم من قبائل عربية أصلاً وفرعاً، تماما كما أن هناك في إيران فرساً من أصول عربية ويتبوؤون أعلى المراكز القيادية، وعلى رأسهم المرشد الأعلى (خامنئي) وهم من سلالة النبي محمد الهاشمي القرشي، فهل يعاملهم الفرس على أن ولائهم للدول العربية؟
    مثل هذه التوجهات تدفع الشيعة، على الأقل من الناحية النفسية، لأن يتوجهوا صوب إيران خاصة إن تعرضوا لتمييز واضطهاد وتهميش كما يحصل في السعودية والبحرين... ثم تتشكى السعودية وتوابعها من أن إيران تهيمن على العراق.
    ثاني فرصة كانت عندما انطلقت القوات الأميركية من الخليج غازية العراق وأسقطت نظامه، والتي شاركت السعودية فيه تحريضاً وتمويلاً.  وبذلك فقد العرب عنصراً مهما مناوئا لإيران، وكان -بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع النظام- أحد أهم القوى المواجهة لإيران، إن لم يكن القوة الوحيدة في تلك الفترة.
    اعتبرت السعودية صدام أهم المخاطر التي تهدد دول الخليج بعد غزوه للكويت.  وبدلا من اغتنام الفرصة من قبلها بعد سقوطه لتساعد في إعادة بناء العراق واحتضانه كبلد عربي وليكون في صفها، بدأت اللعب على الوتر الطائفي، وتعاملت معه على انه بلد شيعي يجب تدميره.  مولت التنظيمات الإرهابية وسهلت عبور المئات من السعوديين المتشددين مما أدى لسقوط عشرات الآلاف من العراقيين قتلى وجرحى ومعاقين، وسببت في عدم استقرار الوضع السياسي.
    بالنسبة للشيعة -أينما وجدوا- فإن أولاد وأحفاد علي بن ابي طالب وفاطمة بنت النبي محمد أئمتهم ويلقون منتهى التقديس من لدنهم.  في شباط/فبراير 2006 تم تفجير قبة مرقد الإمامين العسكريين (علي الهادي والحسن العسكري) في سامراء.  كفلت هذه الفعلة ردة فعل عنيفة تحولت لفتنة طائفية.  وبدأت الآلة الاعلامية المرتبطة والممولة سعوديا تحرض على "حماية السنة".  إيران، وتحت ذريعة حماية المراقد، بدأت بالنفاذ إلى العراق خاصة وأن الدولة بدت أضعف من أن تؤدي مثل هذه المهمة.
    بدل أن تعيد السعودية النظر في اسلوبها للتعامل مع العراق وتنتزعه من السيطرة الإيرانية، ارتفع صراخها وعويلها عبر وسائل إعلامها ومنابر دعاتها بأن إيران باتت تسيطر على العراق.  لم يشمل الدعم والتمويل المتشددين من السنة فقط والمطالبين بالمزيد من المشاركة في العملية السياسية، بل تعداه للمنظمات التي صُنفت إرهابية.
    بعد أن سيطرت "داعش" على محافظات صلاح الدين، الأنبار، نينوى وجزء من ديالى، ولتطبيق شعارها "الدولة الإسلامية باقية وتتمدد"، بدأت بالزحف باتجاه أربيل وبغداد، مع تهديد بالوصول الى كربلاء والنجف وتهديم مراقد الأئمة، تحركت إيران بكل قوتها، سواء أكان من خلال تزويد القوات الأمنية العراقية وقوات البيشمركة، أو زج مستشارين عسكريين.  تحرك إيران كان لسببين الأول عقائدي حماية لمراقد الأئمة، والثاني هو منع "داعش" من التقرب من حدودها سواء أكان في إقليم كُردستان أو بغداد.
    لم تسلم من جرائم "داعش" أي فئة، وكان السنة الأكثر تضررا من هذا التنظيم، أولا لأن كل المناطق التي سيطر عليها هي مناطق ذات أغلبية سنية، وثانيا لأن عمليات التحرير التي تمت على يد القوات العراقية أدت لأضرار مادية كبيرة فيما يخص ممتلكاتهم والكلف النفسية والمعنوية لتهجيرهم من مناطقهم لمناطق آمنة حماية لحياتهم... وتصرخ السعودية بأن إيران تهيمن على العراق.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media