شعار "العراق أولا" - متى يعني "إسرائيل أولاً"؟
    الثلاثاء 12 ديسمبر / كانون الأول 2017 - 09:56
    صائب خليل
    كلما حصل تأزم سياسي عربي، سمعنا نداء: "العراق أولا"! وقد تبدو تلك العبارة وطنية بريئة، وكثيرا ما تكون كذلك بالفعل... لكن ليس دائما! فكثيرا ما يكون معناها الذي بين السطور، كمثيلاتها الأخريات: "إسرائيل أولاً"! 
    كيف ذلك؟ في الغالب، توجه دعوات مثل "العراق أولا" او "مصر أولا" أو "لبنان أولاً" كمحاولة لإفهام العراقي أو المصري أو السوري، بأنه مظلوم في علاقاته مع الدول العربية أو الجوار، وأنها تكلفه أكثر مما تنفعه وأن عليه ان يتركها ويفكر بنفسه "اولاً". 
    لكننا نعلم أنه من النادر أن يحتاج المواطن من ينصحه أن يضع بلده "أولاً"، فما هي حقيقة تلك الحملات؟
    دعونا نلق نظرة عامة على العلاقات الدولية قبل الدخول في موضوع السؤال. 
    يتحدث كتاب "تدجين القوة الأمريكية" للكاتب ستيفان والت، عن استراتيجيات مجابهة القوة الأمريكية من قبل الدول الأصغر. وقد نشرت ملخصا للكتاب قبل ست سنوات في أربعة مقالات تحت عنوان "كيف تدير مصالحك أمام قوة عظمى". ويدور الكتاب حول نظرية بسيطة مفادها أن الطريقة المناسبة للدول الأضعف للدفاع عن مصالحها في مواجهة قوة عظمى، هي ان تزيد من قوتها الذاتية أولاً وأن تتعاون مع دول أخرى ثانياً، لتعديل توازن توزيع القوة بما يتيح لها الدفاع عن مصالحها. فمن جهة، تقوي الدولة نفسها من خلال استغلال أفضل لإمكاناتها الداخلية ووحدة مكوناتها وتناسقها بطريقة تتيح لها مواجهة أكثر فعالية مع الدولة الأقوى. ومن الجهة الثانية تزيد فعاليتها من خلال التعاون وعقد الاتفاقات مع الدول الأخرى لمواجهة القوة الأكبر. ويكون هدف هذه الدول منع الجانب الأقوى من استغلال تفوقه بطريقة تؤثر سلباً على مصالحهم.
    في التسعينات من القرن العشرين، وبعد سقوط السوفييت، ركز الكثيرون على محاولة استعادة التوازن بـ "خلق عالم متعدد الأقطاب". وكانت الحكومتان الفرنسية والألمانية من أشهر دعاتها رغم علاقتهما الوثيقة بالدولة العظمى. رئيس الحكومة الألمانية جيرهارد شرودر قال عام 1999 بأن خطر الانفرادية الأمريكية أمر لا يمكن نكرانه. وسعى الاتحاد الأوروبي إلى تثبيت استقلاليته عن الولايات المتحدة من خلال محاولاته بناء قدراته العسكرية الذاتية، الأمر الذي قاومته الولايات المتحدة بقوة، وبكل الطرق. 
    كذلك لاحظنا التقارب الصيني الروسي (وأحيانا بمشاركة إيرانية) لمواجهة الضغط الأمريكي الأمني والعسكري وبشكل خاص، الاقتصادي والمالي، ونشط الحديث عن عملة بديلة للدولار. وعبر هوغو شافيز عن نفس الاتجاه بقوله عام 2000: "يجب أن يكون القرن الحادي والعشرين قرن القطبيات المتعددة، وعلينا جميعاً أن نسعى من أجل ذلك العالم. لتحيا إذن، (آسيا المتحدة)، (أفريقيا المتحدة) و (اوروبا المتحدة). "

    لكن شافيز حقن بالسرطان لمواقفه، وغادر عالمنا، واستبدلت الحكومة الألمانية بحكومة أكثر انصياعا، والفرنسية بحكومة ذات تبعية مطلقة للولايات المتحدة وإسرائيل، وحكم على المشروع بالفشل. لماذا فشلت تلك الدول، حتى ضمن الاتحاد الأوروبي، في تكوين تقاربات فيما بينها تكفل لها الدفاع عن مصالحها رغم إحساسها بالخطر؟ السبب هو نفسه! ان الولايات المتحدة تعتبر ان مصالح تلك الدول خطر على تسيدها العالم، وترى مصالحها في تحطيمها ومنع أية محاولة للتجمع – أي بعبارة أخرى اتباع السياسة الاستعمارية القديمة: فرق تسد! وينبه الكاتب إلى أن إمكانات أميركا واستقلاليتها العالية تتيحان لها أن تلعب بشكل فعال لعبة "فرق تسد" لمنع أية تحالفات تحاول تعديل التوازن. وقد فعلت الولايات المتحدة المستحيل لمنع أي تقارب يهدف الى "تعديل التوزان".

    فإن كانت دول كبرى تشعر ان مصالحها مهددة من قبل الدولة العظمى، فهو بلا شك اصح بكثير فيما يتعلق بالدول الأصغر، التي يصل تهديد مصالحها إلى تهديد بقائها ذاته. إن مجرد محاولة شراء السلاح من الاتحاد السوفيتي السابق بل حتى مجرد محاولة لإقامة علاقات معه، كانت كافية كحجة لإسقاط أي نظام في العالم الثالث بعد اتهامه بالشيوعية. ويصح هذا الأمر بشكل خاص بالنسبة للدول الثرية بمصادرها الطبيعية أو العربية أو الإسلامية، حيث يلعب العامل الإسرائيلي دوراً حاسماً في موقف الولايات المتحدة. فكيف حين تكون الدولة ثرية وإسلامية وعربية في ذات الوقت؟ إن بناء مثل تلك العلاقات، وخاصة بين الدول المتجاورة، لتعديل التوازن، لا يعود عملية "بناء" لعلاقات، بل عملية صراع مرير من أجل تلك العلاقات، هي اشبه بعملية حرب! 

    لقد استلمت قبل دقائق، فيديو من أحد الأصدقاء الذين يرون في إيران الخطر الأعظم على العراق، وكان معجبا بمجاهدي خلق. الفيديو الذي نشرته "مجاهدي خلق"، يظهر تظاهرة إيرانية، تنطلق متجهة إلى بيت الخامنئي مروراً بساحة أرك في طهران، وهي تهتف مطالبة بأموالها التي وضعتها في البنوك. (لاحظوا انها لا تتجه إلى بيت حكومة التجار اللصوص التي انتخبوها برئاسة روحاني، الذي يفترض ان يكون مسؤولا بشكل مباشر عن الأمر، والذي سعى منذ اليوم الأول لانتخابه إلى لبرلة الاقتصاد الإيراني). التظاهرة تهتف أيضا بالاحتجاج على الحكومة التي "تصرف اموالنا على العراق، في الوقت الذي نعاني فيه من الفقر والعوز"! أي بعبارة أخرى هم يهتفون: "إيران اولاً"! 

    تخيلوا العراقي الذي يشاهد مثل هذا الفيديو. ألن يقول إن الشعب الإيراني مصاب بالجنون؟! لأنه، حسب الصورة التي تم تثبيتها في ذهنه، فأن إيران هي التي تنهب العراق، بمشاريع طاقة ووقود غير مناسبة وتصدير سيارات وصناعات بمواصفات سيئة جداً، فكيف يقول هؤلاء المجانين أن أموال إيران تصرف من اجل العراق؟ 

    هذا الفيديو ذكرني بالنائب أحمد العلواني، الذي كان يهتف كالمسعور بمناسبة وبدون مناسبة بشتم إيران. وكنت أتساءل ماذا سيقول الإيرانيون عن الشعب العراقي لو شاهدوا خطاباته، وهي تصلهم بالتأكيد؟ ولاحظت أن مجاهدي خلق يثيرون اليوم الشعب الإيراني ضد العراق باعتباره ينهبهم، مثلما كانوا يثيرون الشعب العراقي ضد إيران باعتبارها تنهب ثرواتهم! 

    الحرب من أجل "تعديل التوازن" بتنظيم الداخل ليست اقل شراسة وقد بدأت بها القوات الأمريكية فور دخولها العراق. وما مشاريع فصل المدن والأحياء السنية عن الشيعية، والإعلام المحفز كل ضد الآخر إلا علامات تلك المعركة لمنع توحيد الصف العراقي الذي يشكل خطرا على التوازن المختل الذي تريده اميركا وتسعى لزيادته. ويتعدى ذلك طبعا إلى المحاولات الشرسة لتقسيم العراق بالدعوات لإنشاء الأقاليم والانفصال وكذلك الدعوات لنقل المزيد من الصلاحيات من المركز إلى المحافظات. فكل ما يضعف المركز الجامع للدولة، هدف أمريكي إسرائيلي أساسي، بما في ذلك الخصخصة التي تجري اليوم بشكل محموم رغم تظاهرات الشعب ضدها وكراهيته للقائمين عليها. ولنلاحظ أن أقرب الجهات في العراق إلى تلك القوة، - حكومة كردستان - والتي ترسل منذ سنوات ما يزيد عن ثلاثة ارباع حاجة إسرائيل من النفط، تقوم بالنشاط الأكبر من اجل تشجيع تقسيم العراق الى أقاليم وتقف مع اية حركة انفصال فيه.

    لم تكن كل الانتصارات لجبهة إسرائيل – اميركا، فتحققت للشعب انتصارات رائعة مثل إفشال مشروع تقسيم الموصل (رغم ان السعي مازال جاريا). وكذلك المشروع الخطير لتقسيم المحافظات عسكريا المسمى تمويهاً بـ "الحرس الوطني"، الذي جاء العبادي محملا به مع مشاريع تدمير أخرى. ولم يكن داعش إلا مشروع أمريكي إسرائيلي لأداء نفس الغرض، يحتفل العراق اليوم بالانتصار عليه، الانتصار الذي أطلقه الحشد الشعبي، فصار الحشد العدو الرئيس لتلك القوة العظمى وممثليها. 
     
    إن عبارات مثل "العراق أولا" و "لبنان أولاً" الخ، رغم تقنعها بقناع وطني مغر، لكنها تحمل بذرة انعزال واضحة. ولنلاحظ أن دعاة الـ "...أولا" لا يبدون أي قلق على مصالح بلدانهم تجاه أميركا أو إسرائيل، رغم ان تلك الخسائر والتهديدات هي الأكثر خطورة ووضوحا، بل يتجه تحذيرهم دائما إلى "دول الجوار" و "الدول الشقيقة" والدول الأخرى التي تمر بنفس الأزمة التي تمر بها بلدانهم. لا أحد يسأل ما الذي استفدناه من صداقة اميركا وخضوعنا لها، إنما: ما الذي استفدناه من الدول العربية؟ او "من دول الجوار". أي ذات البلدان التي يفترض فيها أن تحاول التقارب معها من أجل "تعديل التوازن" للتمكن من الدفاع عن مصالحها بوجه القوة العظمى التي تهددها جميعا. 

    ولنلاحظ أيضا، إن هذا "الإغفال من التحذير" يشمل ذيول تلك القوة العظمى أيضا من دول المنطقة. فمثلا نلاحظ أن تلك الحملات لا تشمل ابدا الأردن! رغم ان الأردن هو الدولة الوحيدة التي تتلقى دعما ماليا مباشرا من الحكومات العراقية المتعاقبة بشكل تخفيض في أسعار النفط إعفاءات ضريبية لبضائعه (والكثير منها بضائع إسرائيلية) ورغم أن معدل دخل الفرد فيه أعلى من دخل العراقي ورغم أن تاريخ الأردن تجاه شعب العراق تاريخ تآمري اسود يمثل الاجندة الإسرائيلية للعراق، وليس فيه نقطة بيضاء واحدة! هذا الاغفال والانتقاء يدل على مصدر تلك النداءات وهدفها!

    الطريف في الأمر انه الرئيس الأمريكي ترمب يطلق اليوم شعار "أميركا أولاً" أيضاً، وأن هذا الشعار قد أطلق اول مرة عام 1940، لمعارضة الدخول إلى الحرب العالمية الثانية. وتشكلت جمعية "أميركا أولا" وبلغ تعدادها أكثر من 800 ألف عضو. وكانت الجمعية تتهم اليهود بدفع اميركا إلى دخول الحرب، وكان روزفلت يميل الى موافقتهم رغم انه فاز في الانتخابات تحت شعار ابعاد أميركا عنها. وكان من أعضاء الجمعية شخصيات معروفة منهم الصناعي الشهير هنري فورد الذي كان يحذر من سلطة اليهود على بلاده. 

    لكن شعار ترمب لا يختلف في اهدافه، لسخرية القدر، عن اهداف من يرفع الشعار الزائف اليوم، وحقيقته هي: "إسرائيل أولا". فحين تسمع ترمب وكل أعضاء إدارته تجدهم أكثر تعاطفا مع إسرائيل مما هم مع بلدهم، حتى وكأنهم يعدون اميركا "وطنهم الثاني". وليس قراره بنقل سفارته الى القدس إلا إثبات آخر لهذا الموقف، حيث لا نرى أية مصلحة لأميركا في كسب هذه الكراهية بلا مقابل. 

    ومع انطلاق الاحتجاج العربي والإسلامي والدولي الشديد على قرار ترمب بإلحاق القدس الشرقية بإسرائيل، انطلقت حملة شعواء في وسائل التواصل الاجتماعي تهاجم الفلسطينيين وتتبنى مشروع "... أولا" لتوحي للناس بأن مصلحتهم هي في الانفصال عن فلسطين وعن كل علاقة عربية أو إسلامية. أي ضرورة الانفصال عن بقية الضحايا والعمل بانفراد، والإيحاء لمواطني هذه البلدان أن السلام والخير ينتظرهم بمجرد التخلي عن هذا التضامن والسير لوحدهم.  ويذكر هذا بتقنية "عزل الضحية"، الذي تقوم به الحيوانات المفترسة عند مهاجمتها لقطيع من فرائسها. وما يقوم به من يروج لمثل هذا الأمر في بلده، وأغلبهم بدون وعي، هو عزل بلدهم ليكون ضحية أسهل، وهو يتصور أنه يدافع عنه! وقد رأينا في الماضي تطبيقا لفكرة "مصر أولا" بالتخلي عن العرب، والتي أدت بمصر إلى أبشع النتائج، والتي لم تستطع أية حرب أو كارثة أخرى أن تسببها لها.

    وفوق هذا، قامت القوة العظمى بإجراء جديد من نوعه في هذه الحرب، بترتيب بديل مزيف للضحايا، متمثل بالجامعة العربية. إنه اشبه بقفص إسرائيلي تشرف على حراسته المملكة العربية السعودية، لصيد الضحايا استعداداً لنحرهم. إن خطورة الوضع تتطلب اقصى درجات الوعي للنجاة من الفخاخ المنصوبة لنا. لقد عرف شافيز وأحمدي نجاد وكاسترو بنشاطهم الباسل في سبيل لم شمل دولهم الصغيرة. إن دراسة تاريخ نضال هؤلاء من أجل موازنة القوة الأمريكية ضرورة أساسية بالنسبة لشعوب الدول المستهدفة اليوم من قبل ذات القوة الجبارة. فنحن نجد انفسنا بوضع يسيطر فيه الإعلام المضاد وينشر سمومه، كما في هذا الفيديو السعودي الذي يشتم الفلسطينيين بحجة "السعودية أولاً"(1)، وهذا موقع "سوريا أولاً" ويبدو أن مهمته تفكيك العلاقة بين سوريا وأملها الأخير في البقاء كدولة: أي روسيا.(2)

    إن الهدف من هذا الإعلام هو القضاء على الأمل الأخير لهذه الدول في البقاء على قيد الحياة، لأنها، وقد تم تحطيمها داخلياً، لن تستطيع أي منها لوحدها أن تعدل التوازن بالحد الأدنى الذي يتيح لها الدفاع عن نفسها. 

    لا يحتاج المرء الى الكثير من الخيال ليدرك مهزلة المشهد حين نرى الفريسة وهي بين فكي المفترس، وبدلا من طلب العون والدعوة الى التضامن الذي لا أمل لها إلا به، تصيح أن لا شأن لها بالآخرين، وأن يهتم كل امرئ بشانه! إن هذا النداء بـ "العراق أولاً" أو "لبنان أولاً" او "مصر أولاً" ليس في حقيقته إلا: "إسرائيل أولاً"! لقد قال اجدادنا: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. وحين تقوم الفريسة بإقصاء نفسها بنفسها، فمصيرها هو الفناء، ولا شيء آخر!
     
    (1) سعودي يشتم الفلسطينيين بحجة السعودية أولا .. 
    (2) سوريا أولا: " هكذا استدعى بوتين بشار الأسد الى روسيا "
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media