السِن العالي وذكريات الزمن الغالي!!
    الأحد 17 ديسمبر / كانون الأول 2017 - 00:18
    د. صادق السامرائي
    سامراء مدينتي الحضارية الدينية الجميلة الخلابة الأرجاء أيام الطفولة والصبا والشباب , حيث كنا نتنعم بمباهجها الغناء , على ضفاف نهر دجلة وفي ربوع آثارها الورفاء , وحول ملويتها الشامخة الشماء , وفي مراقدها الفيحاء ,  وكم كانت مدارسها وملاعبها ونواديها ومكتبتها وجوامعها مرابع وعينا ونمائنا وتنويرنا وتطوير معارفنا وتوسيع مداركنا.
    وكان النهر "الجاري" مرتع نشاطاتنا في أشهر الصيف والربيع , فكنا نجتمع وقت الظهيرة وعند المساء نلعب ونتحاور ونقرأ ونسبح ونعبق من الأمواج أنغامها ومن الطبيعة سحرها , وكانت سدة سامراء بتدفق مياهها تعلمنا التوثب والتحدي والإصرار , وكان السبّاحون الأكفاء يتقافزون من "الدنكة" ويسبحون ضد التيار , ويصيدون السمك "البز" بواسطة الشص أو النتالة , وطريقة الصيد عند "الدنكة" يكون بواسطة     " التل" أي تُربَط أعداد من الشص في خيط متين من النايلون , وفي النهاية هناك كتلة من الرصاص لتساعد على إنغماسه في الماء , وعندما تتدلى الأشصاص يبدأ السحب السريع للخيط "التل" , لأن السمك يُمكن رؤيته حول "الدنكة".
    ومن النهر "الجاري" هناك خليج كهف القاطول الذي يتصل بالنهر , وقد تعرض للعديد من الإعتداءات التي أودت به وحولته إلى أرض قاحلة , وفي كهف القاطول وخليجه الجميل المزدحم بالقصب البردي "الزل" كانت الأطيار المهاجرة تأوي , وتتعرض لقسوة الصيادين الذين يداهمونها ليلا ويجمعونها في شباك بالمئات , ويتم بيعها للأطفال عند الصباح.
    وفي ذلك الكهف وعند الماء , كان "السن العالي" وبجانبه "السن العريض" , وهما صخرتان كبيرتان أحدهما تبدو وكأنها جبل صغير أو بهيأة مستطيلة قائمة , والأخرى صخرة منبسطة تبدو مربعة الشكل , وتفصل بينهما مسافة قصيرة , فكانت نشاطاتنا المائية بأنواعها حولهما , فالماء في الجهة الغربية من "السن العريض" عميق , وأمام "السن العالي" , وفي الجهة الشرقية منهما يكون بعمق قدمين , ويعتمد ذلك على منسوب المياه في النهر.
    وكان السباحون المهرة يتقافزون من السن العالي , والذين يتعلمون السباحة يتمرنون في الجهة الشرقية من الصخرتين.
    وكنا لكي نتعلم السباحة نلف " الكلن" حول ظهورنا , وهو عبارة عن علبة معدنية للزيوت بسعة خمسة غالونات , يغلق ثقوبها "التنكجي" , ويربط بها مواضع لشد الحزام , والبعض يستعمل "الكرب" وهو نهاية سعفة النخيل المتصلة بجذعها , ويتم شد عدد منها حول الظهر والبطن , فيتحقق العوم وتعلم السباحة , وفي اللهجة السامرائية , يقال عنهم "يطبشون" أي يلعبون بالماء.
    وهذان السنّان لهما أثر كبير في حياتي المعرفية والتأملية , إذ كنت أقضي ساعات المساء جالسا على السن العريض مستأنسا بضربات الأمواج وإيقاعاتها وهي تداعب الصخرتين , وبمنظر النوارس المتهادية فوق الماء , وبأنغام المواويل التي يترنم بها "البلامة" , وبأشعة الغروب الناعسة الندية التي تملأ القلب والروح بالسكينة والهدوء , وعلى السن العريض قرأت القصص والروايات والأشعار , وحفظت كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس إبتدائي عن ظهر قلب , فكنت أحمل قليلا من التمر "الجسب" وأقضي أوقاتا طويلة على السن العريض بين القراءة والكتابة والتأمل والتفاعل مع الطبيعة , والأسماك الصغيرة دائبة النشاط حول الصخرة تتنازع البقاء , فالأطيار تداهمها والأسماك الكبيرة تصول عليها.
    وكنت أحيانا أستأجر البلم العائد للسيد "مصطاف" , وأقضي به أوقات المساء عائما فوق الماء والأطيار المائية السوداء "الهليجي" تسبح , ولا تدري بما سيخبؤه لها الليل من غارات الصيادين الذين لا يرحمونها.
    وعند الغروب كان الصيادون ينصبون شباكهم وهم يحلمون بصيد وفير عند الصباح حيث يجمعونها.
    وأمضيت المرحلة المتوسطة والإعدادية على عادتي في الجلوس على السن العريض قارئا ودارسا ومتأملا , ولم يمنعني من ذلك إلا المطر والبرد القارص والفيضان الذي يغمرهما أحيانا , وبعد أكثر من ربع قرن من الإغتراب عدت أبحث عنهما فلم أجد لهما أثرا , فترقرقت الدموع في عيوني وأغرقتني الذكريات التي تحولت إلى سراب.
    فمن أقسى ما يواجهه الإنسان أن تنمحق مواطن ذكرياته ومرابع نشأته , فللأماكن تأثيرها الخلاق في برمجة الوعي وصناعة العقل وبناء الروح والكيان!!
    ومن النشاطات التي كنا نقوم بها في المرحلة المتوسطة , إهتمامنا برياضة كمال الأجسام , وكان لها رموز في المدينة , ومنهم المرحوم "طه طيوب" الذي كنا في أيام الصيف نلتف حوله وهو يمارس تمارينه ونتعلم منه , وبعد ذلك نجلس في حوارات أدبية , فكانت تلك الجلسات كالنوادي الثقافية , التي كنا نستعد لها بالقراءة المتواصلة في مكتبة سامراء العامة , فنأتي متلهفين للنقاشات الفكرية في مواضيع متنوعة , وخلالها تعرفنا على معظم الكتاب العالميين والمفكرين المؤثرين.
    قد يشترك معي في بعض هذه الذكريات العديد من الأخوة والأصدقاء , لكنها صور أثارها في مخيلتي رمز سامرائي مبدع أصيل , كان قدوة ومثلا رائعا للإبداع والتحدي والإصرار على السطوع المتميز في فضاءات الأمل والرجاء والفن الجميل.
    تحية لمدينتي , ولكهفها القاطول ولتلك الأيام الجميلة الواعدة المعطرة بالبراءة والألفة والمحبة والروح التفاعلية الإيجابية الصداحة الأنغام والأحلام!!
    فهل كانت عندنا أيام وذكريات إنطلاق , وهل ستكون لنا آمال وطموحات , وهل لأجيالنا من مبتدءات كينونة وصيرورة وإنبثاق؟!!

    د-صادق السامرائي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media