سامراء والدربونة!!
    الأحد 19 فبراير / شباط 2017 - 00:17
    د. صادق السامرائي
    الدربونة من الدَّربْ وهو المضيق في الجبال , ويُقال "دربٌ من درُوبها" , ودروب المدينة معروفة , وفي اللهجة السامرائية يقولون " أبو دروب" أي لديه حِيَلْ وأفاعيلْ.
    ودَرِبَ بالشيئ أي فرح به.
    ومن جذر هذه الكلمة يمكن إشتقاق العديد من الكلمات ذات المعاني المتنوعة.
    والدربونة ممر أو طريق ضيق على جانبيه تمتد البيوت والمحلات وغيرها , وموجودة في مدن العالم القديمة , وقد كان هذا الطراز العمراني منتشرا قبل إختراع السيارات التي أوجدت الشوارع.
    فالدربونة لها علاقة بالبيئة وبوسائط النقل آنذاك وهي ( الحصان والبغل والحمار).
    وللدربونة أسماء متنوعة , ففي بلاد المغرب العربي تسمى (زنقة). وقد تجولت في عدد كبير من الزنقات في مدينة طنجة المغربية , وكل زنقة لها إسم مرتبط بشخص ( كزنقة الحاج أحمد) و (زنقة بن حسن) .

     وفي سامراء نقول (دربونة البو فلان) , وكان شائعا القول (درابين وهي جمع دربونة باللهجة السامرائية) , فهناك القول (درابين البوجول , والبوبدري والبوباز) وغيرها.
    ومن درابين سامراء المشهورة (دربونة البو محمد الحمد) , ومعناها الدربونة التي يسكنها أولاد محمد الحمد.
    وهذه الدربونة كانت موطن الشيخ عباس محمد الحمد ومن ثم أولاده وبناته , فمعظم بيوتاتها تعود لذريته.

    تذكرت تلك الدربونة لأنها كانت موطن طفولتي , وأنا أزور قرطبة وغرناطة في بلاد الأندلس , أخذوني في زيارة لحارات المدينتين القديمة, فوجدت نفسي أمشي في (درابين قرطبة وغرناطة) بطرازها العربي  , فتذكرت (الدربونة) التي ترعرت فيها.
    وكلما دخلت بيتا في هذه الدرابين , تذكرت بيت جدي وبيوت دربونة البومحمد الحمد.
    فالطراز العمراني يكاد يتشابه , فالإسبان حافظوا على تلك الدرابين وجعلوها معالمَ سياحية, ونحن خربناها بحجة التطور وما تطورنا , لأنحراف فهمنا للتطور.

    ودربونة (البومحمد الحمد) تبدأ من (شارع الشواف) وتمضي قليلا نحو الشرق ثم تنحرف شمالا ومن ثم شرقا وتمضي في منحنى , ينتهي عند الديوان , ومن ثم تستقيم شرقا لنتهي في (باب البربخ) ,  الذي يؤدي إلى الشارع المقابل لمدرسة الهادي الإبتدائية , وهناك ساحة أمام الجامع العائد للشيخ عباس محمد الحمد.

    وأذكر من بيوتاتها , في بداية المنعطف الشرقي هناك دهليز يؤدي إلى بيت (حبيب المرزة) , وهو من البيوت التي تتصف بالطراز العباسي في عمرانها , وتعلو البيت هوائية تسمى (البادكير) وهي عالية وقد إتخذها اللقلق موطنا له كل موسم.
    ومن ثم بيت آخر وآخر وآخر (لا أريد أن أخطئ بذكر الأسماء) ومن ثم بيت ماجد السيد مصطفى , وبجواره بيت أشرف كامل , وبيت فريد العباس وبيت كامل العباس وبيت جدي السيد مصطفى , وبيت أحمد العبدالله , ومن ثم الجامع .
    وفي الجهة الجنوبية من الدربونة , هناك بيوتات أخرى في المنحنى , ومن ثم يأتي الديوان , وبيت عزت العباس وفاضل العباس , وحسن العباس,  وبيوتات أخرى (تبدأ أسماؤها ببيت أبو) تنتهي عند (باب البربخ).
    وهو رابية حراسة متصلة ببوابة السور القديم , الذي تم تدميره بالكامل بموجب قرار من مديرية الآثار في أربعينيات القرن الماضي , والتي كان يديرها  ساطع الحصري , ولازالت أسباب تهديم السور غير واضحة , ولا توجد الوثائق الكافية للكتابة عن تأريخ سور سامراء.

    وكانت معالم السور تبدو جميلة ومصانة في هذا المكان , لكنه تحول إلى موطن للنفايات والعبث والتدمير التدريجي , حتى أظنه قد إنمحق تماما.

    بيوتات هذه الدربونة تتميز بطرازها العمراني العباسي الأصيل , وكان يمكنها أن تكون من الببوت التراثية , بل أن الدربونة بأكملها يمكنَ أن تكون معلما تراثيا سامرائيا , إذا قارنتها بما شاهدته في غرناطة وقرطبة وأشبيلية وغيرها من مدن العالم.

    وكان بيت جدي واحدا منها , لكنه تهاوى وإندثرت معالمه وغابت تلك الملامح العمرانية الفنية التي كانت في داخله , ولا أعرف أخبار البيوت الأخرى , لكنها أما تهاوت أو في طريقها إلى الإندثار حتما , لأننا لا نعرف مهارات وخبرات الصيانة والمحافظة على الأشياء , وإنما ربما نمتلك ميلا غريبا للتدمير والتخريب , وهذه الطاقة الكامنة فينا من الأسباب الرئيسية التي لا تحقق البناء الصالح المتين , وتدفعنا إلى عدم الإخلاص في العمل.

    وهذه الدربونة قد لعبت دورا مهما ومؤثرا في الحياة الإجتماعية السامرائية على مدى قرن أو يزيد , وكان الديوان هو الملتقى الإسبوعي وربما اليومي لوجهاء المدينة , فكانت الدربونة في حركة , وتفاعل إجتماعي لا يهدأ , وكأنها في مهرجان حياة يجري كالنهر الدفاق.
    وقرأتُ الفاتحة على الديوان الذي وجدته محض ركام , رغم مقاومة بعض غرفه ومعالمه.

    وكانت سامراء آنذك , ذات حدود معروفة , تبدأ من كهف القاطول , وتتواصل مع (شارع المحيط) الذي كان يحيط المدينة , وينتهي على مسافة من الملوية , وكان (ملعب المدينة) بعيدا , وكذلك الملوية , وكانت مدرسة المعتصم , ومدرسة المتوكل على أطراف المدينة , عدا بعض الذين تجرؤا وبنوا بيوتا في مناطق كنا نسميها نائية أو بعيدة  , والتي أصبحت في داخلها اليوم.
    فمعمل أدوية سامراء تم بناؤه في هذا المكان , وكان يبدو بعيدا وخارج المدينة.

    تلك دربونة فيها ملامح سامراء القديمة المعبّرة عن معالمها العباسية العمرانية المتوارثة عبر الأجيال , والتي تشير إلى بعض من مميزات الثورة العمرانية العربية التي إنطلقت من مدينة (سر من رأى) , برايتها الخفاقة العالية المتألقة الخالدة (الملوية).

    تحية للدربونة التي تعلمت فيها قيم العروبة والأصالة والمعاني الإنسانية السامية , وتحية لرجالاتها الذين ألهمونا صدق المحبة والألفة والتفاعلات الإيجابية الحميدة الراجحة .

    وختاما أذكر مطلعا من قصيدة شعبية سامرائية في الدربونة

    " خشفنْ نحرني العصر,  براس دربونة
                                 دوّرْ فشك ما لكه , صوبني بعيونة"

    د-صادق السامرائي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media