هل بات "الإعلام الموازي" يشكل تهديداً للسلم المجتمعي؟!
    الجمعة 24 فبراير / شباط 2017 - 22:20
    عباس البغدادي
    لن يكون في وسع أحد اليوم عدم الإقرار بأن الضخّ الإعلامي الذي تفرزه الفضاءات المفتوحة لمواقع التواصل الاجتماعي "السوشيال ميديا"، والتي تُعتبر أحد مخرجات العولمة (وفي بُعد آخر أحد مدخلاتها أيضاً)، قد أسهم بقوة في تشكيل "الإعلام الموازي" أو ما يُطلق عليه "الإعلام الجديد"، حيث يسير جنباً الى جنب الإعلام التقليدي الذي ألفته المجتمعات المعاصرة من قبل، وذلك كلّه يتشكل في عالم يتسارع فيه توالد الأفكار ويحتدم تصادمها، وهذا يسري على النظريات الاجتماعية والعقائدية، مثلما تضيق فيه المسافات ليتحول هذا العالم الى قرية عولمية صغيرة!
    قبالة ذلك، لا نلمس إجماعاً يُعتد به للإقرار ايضاً بأن هذه "الظاهرة الإعلامية" المستحدثة قد جلبت معها مخاطر حقيقية بائنة ومستترة، خصوصاً على صعيد اختراق منظومات السلم المجتمعي – الهشّة أساساً – في العالم الثالث، وبالذات في المجتمعات التي تضجّ بالصراعات، والفوضى والبؤر الساخنة والتأزيم المزمن، ناهيك عن فتح تلك الفضاءات مصاريعها لضخّ الغثّ والسمين، يرافق ذلك سهولة التنصل عن أية مسؤولية يمكن أن تغدو ضرورية حينما يصبح خبراً أو معلومة مورد شك أو شبهة، خصوصاً وان عامل "المسؤولية" أضحى أيضاً هلامياً وزئبقياً قولاً فصلاً!
    تتبلور مخاطر "الإعلام الموازي" بأشدّ صورها في المجتمعات التي دخلت منذ سنوات في مواجهة مع الإرهاب التكفيري، وبات التهديد ليس وجودياً وحسب؛ بل قيمياً وثقافياً وعقائدياً، حيث المجال مفتوح تماماً للعدو ايضاً، وهذا يصدق كذلك على من له مصلحة في إدامة دورة الخراب والدمار والتقهقر وانسداد الأفق، ويتساوى في ذلك "إعلام" داعش أو داعميه ورعاته، تساوقاً مع ما ترفده دوائر استخبارية معادية ومغرضة، ناهيك عن توأمه إعلام المافيات السياسية التي تستشعر الحاجة الى "إعلامٍ موازٍ" يصاحب إعلامها التقليدي بما تملكه من إمكانات مادية، بما يخدم أجنداتها وتوجهاتها في ليّ عنق الحقائق، بغية الهيمنة والاستقطاب وإدارة الصراعات لصالحها!
    الأنكى هو أن يتم الترويج الأعظم لمعطيات مخاطر هذا "الإعلام الموازي" بواسطة الضحايا أنفسهم، وهم في هذه الحالة مستخدمي السوشيال ميديا (التي هي أداة الإعلام الموازي)، وتسهل بذلك – وهنا مكمن اُسّ الخطورة – مهمة الأفّاقين والمغرضين والمشوهين للحقائق، ومن يبثون إشاعاتهم وسمومهم وأكاذيبهم ومفرقعاتهم، اذ ما عليهم سوى إلقاء حجر صغير (عبر ما يبثونه) وبدوره سيولّد حلقات وموجات واسعة تنتشر بكل يسر، في غياب أي تمحيص أو مرشحات أو معايير وضوابط مهنية وقانونية أو أخلاقية ملزمة! طبعاً هناك من يقول بأن هذا الفضاء المفتوح له سلبياته وإيجابياته، وهذا صحيح للوهلة الأولى فيما لو افترضنا ان جاذبية "الإيجابي والحقيقي" هي دائماً تمثل حائط صدّ لجاذبية المفبرك والمبالغ فيه وغير المألوف المغلف بشعار "كشف المستور أو السبق الخبري"، المتبّل بتوابل المبالغات وسحر "العاجل"!
    يقول الخبير الإعلامي الدكتور ياسر عبد العزيز بشأن الحوامل "الإيجابية" الهلامية للسوشيال ميديا: "في مقابل الميزات الكبيرة التي تتيحها مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها، خصوصاً على صُعد السرعة والإيجاز والبلورة وإمكانات البحث وقدرات التعبئة والتوجيه، ثمة الكثير من السلبيات والاعتوارات، فتلك الوسائط لا تُخضع المحتوى الذى تبثه لأي شكل من أشكال التقييم أو المراجعة، ولا تُلزم من يبث هذا المحتوى بأي قدر من الالتزام، سوى ما يقرره طوعاً لذاته.
    كما يسهل جداً نقل الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دون أي قدر من التوثيق، وفى أحوال عديدة لا يتم نسب تلك الأخبار لأصحاب الحسابات التي تم بثها من خلالها، وكثيراً ما يتم نقلها باعتبارها [حقائق لا تقبل الدحض]، ويسهل طبعاً أن يتنصل صاحب الحساب من الرأي أو المعلومة أو التقييم الذى بثه قبل قليل بداعي أن [الحساب تمت سرقته]، أو أنه لا يمتلك حساباً من الأساس"! وعن المخاطر ينوّه قائلاً: "لقد منحتنا وسائل التواصل الاجتماعي فرصاً عديدة حين قصّرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن في مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة، ومنها تأجيج النزاعات، والتحريض على العنف، وإشاعة خطاب الكراهية، والخضوع لـ[الميليشيات الإلكترونية]، التي تستخدمها كأداة للتعبئة والتحشيد والاغتيال المعنوي أحياناً"!
    يجمع كل المهتمين بشأن تطويق مخاطر إعلام السوشيال ميديا على أنه أمسى حاضنة مفزعة لترويج الإشاعات الموجَهة والتي تضرب بشدة صميم السلم المجتمعي، وهي تمثل أخطر من الفايروسات الفتاكة التي تضرب شبكات النت ويصعب تطويق آثارها السلبية، كما تحضر في حمأة النقاش بشأنها قاعدة "درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع"، وهذا ما يؤرق الحريصون على صون "السلم المجتمعي"، أي الخروج بترجيح "درء المفاسد" ضمن الإعلام الموازي قبل الابتهاج والاحتفاء بـ"المنافع"! ولو استشهدنا هنا بتعريف الإشاعة الذي يختصره ببراعة الباحث الإيطاليMassimo Crescimbene  يتوضح جلياً انه ينطبق اليوم على مجمل نتاج السوشيال ميديا، يقول الباحث المذكور في تعريف الإشاعة: "هي كل خبر مقدم للتصديق يتناقل من شخص لأخر دون أن يكون له معايير توثق مصداقيته.. أو هي بثّ خبر من مصدر ما في ظروف معينة ولهدف يريده المصدر دون علم الآخرين، وهي الأحاديث والأقاويل والأخبار والقصص التي يتناقلها الناس دون إمكانية التحقق من صحتها أو كذبها، فالإشاعات تنتقل وتنتشر كلما ازداد الغموض ونقصت المعلومات حول الأخبار التي تنشرها تلك الإشاعات"!
    وفي خضم الطوفان الطاغي والجارف للسوشيال ميديا يمكن للمرء ان يتخيل الضحايا الذين يلتهمهم ببعده السلبي (عبر الإشاعة والتلفيق والفبركة وتشويه الحقائق، المنفلتة جميعها عن الضوابط والمعايير المهنية والقانونية والأخلاقية)، سواء كانوا الضحايا أفراداً أو جماعات؛ بل ومجتمعات برمتها أيضاً!
    * * *
    في معرض الجهود الدولية لمحاصرة "إعلام داعش"، وهو في مجمله من نمط "الإعلام الموازي"، وخصوصاً ما تركّز عليه تلك الجهود في جزئية تجنيد الإرهابيين من مختلف بلدان العالم، بما فيها الغرب، يقرّ القائمون على تلك الجهود بأن هذا "الإعلام الموازي" قد فتح مجالات واسعة لداعش وتوائمه بأن تتمدد رقعة تأثيرهم، بما يوفره هذا النمط الإعلامي من أبواب مواربة كثيرة تطل على المتلقين، وفي الغالب "المتلقين المستهدفين"، بحيث ينفذ لهم بسهولة الخطاب الإرهابي (بكل حوامله) ويتمدد بسلاسة مرعبة! ناهيك بأن كل التطورات والتسهيلات والتحديثات التكنولوجية ضمن السوشيال ميديا يتلقفها الإرهابيون بلا موانع تُذكر..! والطامة الكبرى أن أصحاب الجهود الدولية المعنيين بمحاصرة "الإعلام الموازي" لداعش وتوائمه الإرهابيين، لم يَلمس منهم المجتمع الدولي (المرعوب) أية خطوات جدّية وعملانية يمكن أن تُثمر في محاصرة تلك المخاطر المتفشية في فضاء النت (الذي لم يعد افتراضياً البتة)!
    على العكس من ذلك، تتسابق العقول والخبرات الموظفة لدى المؤسسات العولمية التي تقف وراء برامج التواصل الاجتماعي على "تسهيل" استخدام تلك البرامج، بطريقة وكأنها لم تحسب لتلك المخاطر أية حسابات واقعية أو جدّية! وهنا تتبلور المفارقة المفزعة؛ بين التحذير من مخاطر "الإعلام الموازي" الذي يوظفه الإرهابيون، وبين المساعي لتطويق ومحاصرة تلك المخاطر (وليس تبديدها، لأن دون ذلك خرط القتاد)، كما هو مستقر في الواقع اليوم!
    ان إثارة المواضيع حول تلك المخاطر ربما يسهم في أن تتدارك حكومات الدول المنكوبة بالإرهاب، جنباً الى جنب منظمات المجتمع المدني وكذلك المؤسسة الدينية، بأن يضعوا معاً البرامج والخطط غير التقليدية لتطويق مخاطر سلبيات "الإعلام الموازي"، حيث يمثل تهديداً لا يستهان به بتاتاً، ولا يحتمل التأجيل أكثر مما مضى. وبالطبع لا يمكن لعدة سطور هنا أو في مكان آخر أن تدّعي وضع الحلول الناجعة، حيث المهمة أصعب بكثير! 
     
    abbasbaghdadi@gmail.com
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media