ملاحظات في الثقافة المقارنة
    السبت 25 مارس / أذار 2017 - 07:29
    أ. د. محمد الدعمي
    كاتب ومؤلف وباحث أكاديمي/أريزونا
    أما ما تركه بيت الحكمة العباسي لنا في العصر الحديث، فإنه أبقى جذوة النزوع للمقارنة والمقاربة، كذلك لمعرفة الذات ولتبين سجاياها ومثالبها على سبيل التصحيح والتصويب، لا ريب. أما ما تركه لأوروبا الحديثة، فقد حفظ لها تراثها الثقافي الإغريقي/ الروماني القديم، ثم أعاده لها عبر الأندلس وصقلية.

    إذا ما اتفقنا على حقيقة مفادها أن العقل العربي دائم النزوع إلى رؤية واضحة للنفس، بمعنى الميل لمعاينة نفسه عبر المرآة، كما هي، بلا رتوش ولا تزويق، فإنه غالبًا ما ينجح في تحقيق ذلك، ليس فقط عبر أنشطة مراجعة الذات وإعادة النظر بها وبسلوكياتها، وإنما عبر نشاط ذهني أكثر تعقيدًا وتطلبًا للفطنة، وهو اعتماد المقارنات والمقاربات. ربما كان هذا الميل الذي لا يفلت أحد من ملاحظته وراء الاهتمام الجارف الذي نلاحظه اليوم عبر العالم العربي بما يمكن أن نطلق عليه عنوان "الثقافة المقارنة”، خاصة في المؤسسات الجامعية العربية.
    وإذا كان العنوان أعلاه غاية في الاتساع والشمول، فإنه لا بد أن يحتوي، من بين فروع وحقول أخرى، على الدراسات الألسنية المقارنة والأدب المقارن، من بين سواها من تفرعات الثقافة والفنون والآداب.
    وإذا ما كانت هذه من سجايا الذهنية العربية الإيجابية، فإن للمرء أن يزعم بكل ثقة بأن هذا الميل لمعرفة الذات عبر مقارنتها ومقاربتها مع "الآخر” ليس بظاهرة جديدة، بدليل مبادرة ومثابرة الخليفة العباسي المأمون لتأسيس "بيت الحكمة” ببغداد على عهده الذي شكل العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. ولكن على الرغم من أن لي رأيًّا ثانيًا حول دوافع وإرهاصات المأمون العباسي لتأسيس بيت الحكمة، إلا أن وظيفة هذا البيت العظيم قد اعتمدت آليات وأنشطة الترجمة (التعريب على نحو خاص). وإذا ما اندرجت في منافع البيت أعلاه الفوائد الاستخبارية والمعرفية العامة والمتخصصة عن الأمم الأخرى، فإن لي أن أفترض، بقدر كبير من الثقة بالنفس أن المأمون قد رغب في أن يعرف بدقة أين تقف ثقافتنا العربية الإسلامية حقبة ذاك، "مقارنة” بسواها من ثقافات العالم الكبرى، من الهند والصين إلى بلاد الإغريق وبيزنطة والروم والفرنجة.
    وإذا لم يكن غرض خليفة بغداد آنذاك بريئًا بالكامل، فإنه كان يشكل صورة دقيقة تؤشر وعيه بالذات: فكيف يستطيع المرء أن يعي ذاته، دون أن يقارنها مع الآخر، خاصة الآخر المختلف أو المتفوق.
    أما ما تركه بيت الحكمة العباسي لنا في العصر الحديث، فإنه أبقى جذوة النزوع للمقارنة والمقاربة، كذلك لمعرفة الذات ولتبين سجاياها ومثالبها على سبيل التصحيح والتصويب، لا ريب. أما ما تركه لأوروبا الحديثة، فقد حفظ لها تراثها الثقافي الإغريقي/ الروماني القديم، ثم أعاده لها عبر الأندلس وصقلية.
    وعود إلى بدء، لا أستغرب التيار الجارف الذي تحياه الجامعات العربية اليوم، بكافة أقسامها العلمية عامة باتجاه العناية بالدراسات المقارنة، خاصة على مستوى الدراسات العليا. وهذا اتجاه يستحق الاهتمام والرعاية من قبل أولي الأمر، وسراة القوم لأنه يندرج في جهد الذهنية العربية لمعرفة نفسها، ثم، والأهم من ذلك، لرسم صورة ذاتية لنفسها: صورة دقيقة المعالم تستحق الإشاعة والعكس محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media