هل "الكرامة" ضرورية للسعادة؟ وهل المذلة موجعة؟
الأثنين 3 أبريل / نيسان 2017 - 22:47
صائب خليل
مشاهد التضحية التي يحفل بها التاريخ، تؤكد لنا ان "الكرامة" ضرورية لسعادة الإنسان، وطالما آمنت بذلك، واعتقدت ان الإنسان لا يتخلى عنها إلا "للشديد القوي" كما يقولون، مثل الجوع أو الخوف الشديد.. والبعض لا يتخلى عنها ابداً.
لكن هذه الفكرة صارت تتعرض للتشكيك كلما رأيت رئيس وزراء عراقي يتحدث مع اجنبي. أي اجنبي كان. آخر مرة حدثت قبل ايام، وانا انظر إلى وجه العبادي حين كان يصافح بوجه شديد الابتسام، الرجل الذي شرح مراراً وتكراراً كيف يجب ان "نحاصرهم.. نضع حلقات عسكرية حولهم ونأخذ كل ثروتهم"...
ثم حين كان ذات الرجل يقول له امام كامرات العالم، ودون ان يسأله رأيه في أمر يخص بلاده وكرامة شعبه: "كان يجب ان لا تغادر جيوشنا بلادكم ابداً"... كان صاحبنا مستمراً بابتسامته البلهاء!
وإن كان "الشكل" يطفح بالمذلة، فأن المحتوى اشد امتلاءاً بها. فكما سبق للذليل الذي سبقه في هذه المهنة، حين كتب في زيارة مشابهة كانت زيارته الأخيرة إلى واشنطن: "أصبروا علينا"، وكأنه موظف لديهم مكلف بمهمة لم يستطع ان يؤديها بالسرعة المطلوبة، فأن هذا الذليل تحدث بنفس الطريقة وحاول بوضوح طمأنتهم أنه يتصرف بالطريقة التي يروق لهم ان يسوس بها بلاده: تحدث عن "اتفاقه التام" مع عصابة مسعود البرزاني المدللة، وهو الاتفاق الذي نعرف ما وراءه وما الثمن الذي دفع الشعب العراقي له. ولو كان "الرجل" يعاني من إحساس جزئي بالكرامة، لحاول تجنبه قدر الإمكان. كذلك القى العبادي لهم بالكلمات التي تطمئنهم انه يبيت مذبحة للحشد الذي لا يتحملونه، ولاك الحديث بلسانه مراراً عن "الدعم" الأمريكي الذي يعلم هو أكثر من غيره أنه دعم لداعش ولكل الدواعش السياسية في البلاد، وأن هذه الدواعش تخلق خصيصا من قبل اميركا وإسرائيل لتدمير هذه البلدان والشعوب، وتدار من قبلهما.
في الماضي، سألت نفسي: "هل يمكن ان يجدوا من هو أذل من هذا الرجل لهذا المنصب"؟ وجاء الجواب سريعاً، فقد وجدوا بالفعل في رئيس الحكومة الحالي، من يتفوق في المذلة عن سابقه، وقد منعني ضيق خيالي ان اتصوره. واليوم ترعبني فكرة أنهم قد يجدوا من هو أذل حتى من هذا الأخير، أو أكثر حماسة منه لتنفيذ الشر المخطط! كيف سيكون شكل القادم؟ وبأي جانب سيتفوق على هذا؟ لاحظوا مثلا ان العبادي حين يتحدث عن القروض التي تفرض عليه اليوم، فإنه يضيف نصاً بأنه لا يجب تكبيل البلاد بديون طويلة الأمد.. لكنه يفعل! أو حين يتحدث عن الحشد إلى أعداء الحشد. إنه يذكر أولا أن بعض أفراد الحشد جنودٌ بواسل، قبل ان ينهال بالهجوم على الذين لن يبتعدوا عن السياسة منهم، أو لن يطيعوا السلطة! والسلطة هنا هي رجل اميركا فالح الفياض، أو جنابه هو..
أستطيع ان اتخيل القادم "الأفضل"، يتحدث عن الديون بلا تحفظ ولا حتى بالكلام، وعن الحشد كإرهابيين يجب اجتثاثهم عن بكرة أبيهم! نعم... فما دامت الساحة متاحة للاحتلال ليزيح من يشاء ويأتي بمن يشاء إلى السلطة، كما ازاح الجعفري المنتخب وأتى بالمالكي ثم ازاح المالكي المنتخب واتى بالعبادي.. فأن مستوى الإحساس بالكرامة سيكون في انخفاض مستمر، في ذلك المنصب. فـ "الكرامة" هي العوق الذي يعرقل المرشح من تنفيذ الأجندة، والبحث مستمر عمن هم "أفضل" بلا شك.. ومادمنا لم نجد حلاً بعد، فالقادم أقل كرامة وأكثر اسوداداً، وتطبيع المذلة وقبولها لدى الشعب مستمر، وقد خصصت لذلك فرق المطبلين لكل ذليل، وهم يملؤون النت ووسائل الإعلام. ويتكاثر هؤلاء بشكل ملفت للنظر في اللحظات الحرجة التي يحتاج فيها الأذلاء إلى المساعدة، كما هو الحال اليوم.
والحقيقة ان حاجة الاحتلال الى الأذلاء لا تقتصر على من هم في السلطة. فمن الأفضل ان يكون كل الشعب مثلهم أو قريب منهم. لذلك فأن الحرب الإعلامية على "الكرامة" لم تهدأ يوماً. ولا اعرف كاتبا واحداً من دعاة الاحتلال لم يخصص لمهاجمتها والسخرية ممن يحملها بعض وقته منذ أيام نشاط كاتب الاحتلال الأول الدكتور عبد الخالق حسين وحتى اليوم. ويمكنك ان تميز هؤلاء من خطابهم الموجه إلى الشعب المرهق المشتاق إلى الأمان، والباحث عن قشة أمل، حتى لو كانت معاكسة لكل منطق. فواحد يصرخ انه "يبحث عن مصلحة العراق حتى لو كانت لدى الشيطان" وآخر يسخر من "الوطنية" داعياً إلى "المواطنة" وكأنهما نقيضان، وثالث يردع أي خطاب للصمود بوصمه بأنه شعارات صدامية فارغة ورابع يتهم الممانع بأنه لا يحس بما يعانيه العراقيون.. وغيرها. إنه يدغدغ رغبة المرهق بالاستسلام، ليبيع له الكارثة التالية. وليطبع الشعب على الإذلال الحالي، فيهيئه لقبول الإذلال التالي الأشد، دون صدمة كبيرة. فملأ طبالوا 14 آذار لبنان بعد عدوان 2006 بلوحات كتب عليها: "بدنا نعيش"!
وبالفعل تعود الشعب على ان المذلة في السياسة ليست عيباً، بل هي من طبيعة الحياة، وهي ليست كذلك! إنها من طبيعة التسلط والاحتلال فقط، لكننا نسينا او كدنا ننسى لولا البعض من نجباء البشرية من الأموات والاحياء. فأضاف هؤلاء تحت لوحات 14 آذار عبارة ".. بكرامة!" ليذكروا الناس بالفرق!
دعونا نذكر أنفسنا بالفرق أيضا، فنقارن أجوبة العبادي حين يسألونه عن دور أميركا في محاربة الإرهاب فينهمر المديح، وجواب نعوم جومسكي الذي قال: "أن خير ما تستطيع اميركا ان تفعله لمحاربة الإرهاب، هو ان تتوقف عن القيام به"! ولو كان رئيس حكومتنا من هذا النوع من البشر لقال ما يعرفه هو وجميع البشر، وأوضح أن خير ما يمكن أن يؤمل به من أميركا هو ان تكف يدها عن بلاده وتحل قواعدها وتسحب قواتها، وتصغر سفاراتها لتكون سفارات حقيقية، ليتوقف الإرهاب، ليس في العراق فقط بل في العالم كله.
السؤال الذي يحيرني دائما هو: إن كان لا مفر من هذه المذلة في ظروف السياسة الدولية اليوم، وإن كانت مهنة رئيس حكومة بلاد تحت الاحتلال كالعراق وفلسطين، مهنة مذلة بالضرورة، وإذا كانت المذلة تسبب الحزن والألم للإنسان، فما الذي يجبر هؤلاء ان يقبلوها؟ ألا تحاول جميع الكائنات حتى احطها في سلم التطور، ان تبتعد عما يسبب لها الألم؟ ما الذي يجبرهم، وكل منهم كان في موقع يتيح له أن يكسب المال والتقدير فوق استحقاقه وقدراته عشرات المرات، ويحتفظ ببعض كرامته ويتجنب الألم؟
اليس ملفتاً للنظر، ان تمنح هذه المهنة الغريبة لصاحبها، ذلك المستوى المادي العالي جدا، وتلك المكانة الاجتماعية التي لا تضاهيها مهنة أخرى، لكنها لا تمنحه ابسط إحساس بالكرامة يمكن ان يحصل عليه مقاتل في الحشد، او حتى انسان فقير بسيط، مكتف بما عنده ومعتز بكرامته، حين لا يضطر إلى المذلة المفروضة على من يمتهن تلك المهنة، ولا يكون أهلاً لتحدياتها كرجل؟ أليس مهما ان يستطيع الإنسان ان يرفع رأسه مع من يحدثه، دون ان يشعر بصوت في داخله بأنه كاذب وأنه يبيع اهله لسيده؟ صوت يجبره على ان يخفض عينيه متى ما التقتا بعيني إنسان كريم؟ أليس مهما للسعادة أن لا يشعر الرجل في أعماقه، بأنه "مخنث"، حتى لو لم يقلها له أحد؟
من الجهة المقابلة، إن لم تكن الكرامة ضرورية للسعادة، ولا المذلة تسبب الوجع الشديد، فلماذا يضحي البعض بحياته دونها؟ أليس هؤلاء بشر مثل رؤساء الحكومات العراقية؟ أم أن أولئك المضحين طوعاً بحياتهم في الحشد وغيره، هم من جنس مختلف عن جنس الكائنات المؤهلة لرئاسة الحكومة العراقية، إلى درجة أن لا يتلاقح الجنسان مع بعضهما البعض، رغم تشابه المظهر الخارجي والأعضاء؟