جني المشمش واستخداماته في مندلي قبل ١٩٨٠
    الأثنين 22 مايو / أيار 2017 - 07:01
    [[article_title_text]]
    "الأخبار" ديالى: علي الحجية - الموسم الان هو موسم فاكهة المشمش ؛ و من المتفق عليه تاريخيا في سجلات زراعة ديالى وفي علاوي بيع الفواكه والخضر في جميلة / بغداد ان مدينة مندلي قبل ١٩٨٠ كانت من اكثر مدن محافظة ديالى والعراق انتاجا وتسويقا لاجود انواع المشمش الا ان هذه المعلومة قد تكون غائبة عن اذهان حتى ابناء مندلي الذين تقل اعمارهم عن ٤٠ سنة وخاصة اولئك الذين وُلدوا في المهاجر خارج مندلي.

    ولأن المشمش قصير العمر مقارنة مع فواكه مندلي الاخرى كالعنب والرمان مثلا ؛ صار لزاما علينا ان نطلق العنان لما تختزنها ذاكرتنا من ذكريات ومعلومات عن المشمش في بساتين نهر السوق التي تعود غالبية حيازتها الى ابناء محلة قلعة جميل بيك ، وستكون الفترة ١٩٦٣/١٩٨٠ { وهي الفترة الذهبية لكل شي في مندلي } هي الفترة المقصودة في استذكارنا هذا ؛ ونرجو من الاخوة المندلاويين اينما كانوا تصويب اية هفوة هفوناها وتصحيح اية معلومة قد خانتنا الذاكرة في ايرادها.

    غالبية بساتين مندلي ان لم نجزم كلها ؛ فيها عدد غير قليل من اشجار المشمش؛ وهي شجرة كبيرة عالية متينة الجذوع ذات اغصان كثيرة هشة بعكس متانة وقوة جذوعها ؛ وتساهم اشجار المشمش جنبا الى جنب النخيل الباسقات في تأمين الظلال لاشجار الحمضيات بانواعها المختلفة التي هي الاخرى تشتهر بها بساتين مندلي وقتذاك ؛ فضلا عن انها واشجار التوت{ التكي} تكون المتكئ الانسب لتسلق اشجار العنب.

    ولاني ابن فلاح سأقتصر حديثي عن تجربتي الشخصية في جني المشمش في بستان {ماپري} الذي ورثناه عن المرحوم جدي مجيد المهدي الحجية فضلا عن البساتين الاخرى التي كان المرحوم والدي عبد الستار مجيد {يضمنها} موسميا من اصحابها وخاصة البستان العائد للمرحوم حيدر الخياط {والد الشاعر ابراهيم الخياط} في صدر نهر السوق ؛ وبستان المرحوم رستم النقيب{والد الشيخ حازم النقيب}.

    كان في بستاننا { ماپري } ثلاثة انواع من المشمش ، النوع الاول منه ابيض اللون وهو نوع نادر وحجم ثمره اكبر من حجم النوع الثاني البرتقالي الميال الى الصفرة ، والنوع الثالث هو من الانواع النادرة ايضا و كنا نطلق عليه { القيسي} وتكون نواة هذا النوع حلوة المذاق من الام ، وعادة ما كان اصحاب البساتين يخصصون ثمر مشمش القيسي لعوائلهم ولخاصة اهلهم واصدقاءهم.

    كان المرحوم والدي وكما سائر الفلاحين من ابناء قلعة جميل بيگ يعدون العُدة لهذا الموسم مبكرا ، وفي مقدمتها تحضير مستلزمات الجني واهمها الحصيرة وعادة ما تُصنع من خوص النخيل ، وتكون الحصائر باحجام مختلفة ترصف جنبا الى جنب تحت شجرة المشمس التي يصعد احدنا الى اغصانها الواحدة تلو الاخرى لهزها بقوة لتتساقط الاثمار على الحصيرة لضمان نظافتها وعدم تلوثها بالاتربة وخاصة تلك التي مضى على جنيها اكثر من نصف يوم {الرايجة}.

    وأعتاد المرحوم والدي حاله حال الكثيرين من منتجي المشمش {وكما مع الفواكه الاخرى} على ان يخصص الجَنْية الاولى منه لاصدقاءه واقرباءه الذين ليست لديهم بساتين ومنهم وكيل المراجع وامام وخطيب مسجد وحسينية قلعة جميل بيگ المرحوم السيد حسن الطباطبائي وابناء خالاته في زقاق هني مني وكنت اتولى ايصالها مباشرة من البستان الى بيوتهم فيما كان المرحوم خالي مسلم {وكان حينذاك يعمل سائق مارسيدس ٦٦ } يتولى ايصال حصة صاحب البستان {والد الشاعر الصديق ابراهيم الخياط} في بعقوبة.

    ومن الطرائف التي مازالت اتذكرها بهذا الخصوص ان شقيقي الاصغر مني مباشرة حسن ابو زهراء المندلاوي (مدرس في المعهد التقني في بعقوبة حاليا) هوى الى الارض في واحدة من هذه المواسم بعدما تكسر الغصن الذي كان يهزه وانكسرت كلتا يديه من المرفق وكان حينذاك طالبا في الصف الثالث المتوسط وتوجه الى امتحان البكلوريا مُجبر اليدين وادى الامتحان ونجح في الدور الاول ايضا.

    تكون عملية الجني عادة في الساعات الفجر الاولى قبل شروق الشمس لضمان طراوة الثمر كي تجذب الزبائن رغم سعره الاعلى من المجني عصر الامس ، ويتم فصل الثمر موقعيا حسب درجة نضجه في اوعية مختلفة حيث يتم تعبئة الممرود منه في (تنكة دهن الراعي) الى البيوت مباشرة ، فيما يتم تسويق البقية الى السوق الكبير لتكون في متناول المسافرين الى بغداد والمحافظات كـ {صوغة مندلاوية متميزة}.

    واتذكر ان كل مُنتج او فلاح له بقال خاص به يتولى بيع المنتوج على زبائنه الذين كانوا قد اوصوه قبل ليلة وحجزوا الكمية والنوعية التي يرغبونها ، وكان بقالنا رحمه الله كريم ناصر (ابو رحيم) ليستقطع جزءا متفقا عليه من الثمن ويسدد البقية عصرا للوالد في باحة مسجد وحسينية قلعة جميل بيك حيث كانا المرحومين من رواد وخدمة المسجد.

    اما الجزء الممرود من الثمر فيتم معالجته من قبل امهاتنا بطريقتين حسب كميتها و حسب الحاجة والوقت والايدي العاملة في العائلة ، والجزء الاكبر منه يتم تجفيفه في الظل بعد فرشه ورصفه في اطباق مصنوعة من الخوص (الطبگ) ثم خزنه للشتاء او لشهر رمضان او للبيع في الاسواق ان كانت الكميات كبيرة ؛ ولاشك ان جزءا منه كان يخصص للصوغة وهذا ما كنا نطلق عليه بال{نگوع} .

    وهنا من الضرورة بمكان الاشارة الى ان امهاتنا كُن يَجمعن نواة الثمر المُرة بطيبعتها لتحليته من خلال تنقيعها مدة 40 يوما في الماء ثم غليه في اواني نحاسية لاكثر من ساعتين على نارة هادئة من اخشاب النارنج والتوث في المواقد الطينية او في التنور عقب الانتهاء من شواء الخبز.

    اما الطريقة الثانية في معالجة الجزء الممرود من الثمر فقد كانت امهاتنا يعصرنه لصناعة الشربت (عصير المشمش) ، واتذكر جيدا ايام التلمذة كنا نستخدم العصير هذا كغذاء رئيسي وكنا نتلاقف الخبز الحار من ايدي امهاتنا كي نثرد في اوعية الفانون بذات الطريقة مع عصير الرمان.

    و كان الفلاحون يستخدمون العصير هذا للحد من العطش ايام حصاد الحنطة والشعير وللوقاية من اشعة الشمس (هكذا كنا نسمع من اباءنا وقتذاك) ؛ فيما كانت النادرات {امهاتنا} يُجففن جزءا من هذا العصير لصناعة الـ {قمر الدين}.

    رحم الله المتوفين من اباءنا وامهاتنا واطال الله في عمر الاحياء منهم مقرونا بالصحة والعافية وجزاهم الله خير جزاء المحسنين عن التعب والجهد التي بذلوها في تربيتنا وتنشئتنا رغم ان الاغلب الاعم منهم كانوا اميين لا يقرأون ولا يكتبون.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media