تحتاج الدول التي تطمح إلى تحطيم شعب ما، إلى خطة من خطوات سياسية وارهابية وإعلامية، وتحتاج إلى عملاء تكلفهم بالقيام بها من الداخل وبشكل سري أو بحذر شديد. فمثلا خطة تطبيع إسرائيل تتطلب اختراق وسائل الإعلام وتمرير عبارات تقرب الناس من إسرائيل دون ان يشعروا. عبارات تنتقى بحذر عادة لكيلا تكشف الموقف العار الذي يعرض العميل للخطر. وتتفهم الدولة المؤجرة لذلك العميل هذا الأمر عادة، ولا تضغط على عميلها، أو لا تكلفه بشيء قد يكشفه.
لكن هناك خطوات لا تتلاءم مع الطابع السري. مثلا سيكون مفيدا جداً لإسرائيل لو قام البعض من الساسة بالتعامل معها مباشرة وصراحة، لكنها قد تكون مكلفة بالنسبة للعميل.
ففي السنوات الأولى من الاحتلال، كثرت حالات مصافحات ساسة عراقيين كرد لساسة إسرائيليين في بعض المؤتمرات، حتى كأن الساسة الكرد لم يكونوا يذهبون إلى المؤتمرات إلا من اجل مصافحة إسرائيلي!
هذا أحدث لدى العرب ضجة، وبدلا من ان يطبع الأمور مع إسرائيل، نال الساسة الكرد احتقار العرب واشمئزازهم وخسارتهم للكثير من التأييد، ويبدو انهم اعتذروا عن الاستمرار في هذه المهمة المكشوفة الوسخة، وان سادتهم اعفوهم منها، خاصة ان العرب لم يعودوا يعتبرون كردستان جزءاً من العراق، ولا تعطي تلك المشاهد أثرها المطلوب.
كانت إسرائيل بحاجة لحركة من عربي لاختراق التابو العراقي كما فعلوا مع دول عربية أخرى، لكنها ستكلف هذا مكانته السياسية والاجتماعية على الأقل، ويصبح قليل الفائدة لها. ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة ان يختاروا شخصية لا قيمة لها، يسهل التضحية بها، فوقع اختيارهم على مثال الآلوسي. فهو شخص نزق صلف مستعد لكل شيء ويشك بأنه كان عميلا لهم من زمن طويل، ولا يبدو له مستقبل في السياسة في العراق، فكان ما كان، وبالفعل باع الرجل سمعته رخيصاً وتلقى احتقار وبصاق الشعب العراقي جراءها وخسر مقعده في مجلس النواب قبل ان تهب لإنقاذه شلة تابعة لكردستان، وتعيده الى المجلس.
هذا "الرجل" (إن صح التعبير) استدعي قبل فترة إلى واشنطن في زيارة سرية هذه المرة، وعاد ليعلن تأييده لأبشع رئيس عرفته الولايات المتحدة وأكثرها بدون منازع، صراحة في عدوانيته للعراق والعرب والبشرية، ويدعوه لـ "التعاون" معه لكشف قائمة الفاسدين في العراق.. الخ، ولم ينس ان يوجه كلمات احتقار حذرة للحشد، والكثير من المديح لكردستان وبرزاني بشكل خاص.
آخر الأخبار أن مثال الآلوسي هاجم، وباحتقار واضح، الحشد، وسخر من القول بأن رئيس وزراء العراق القادم يجب ان يكون مؤيداً لهم أو منهم، وهو يقصد قائد العصائب، قيس الخزعلي، فرد عليه جماعة الأخير بتذكيره بحقائقه أولا: ""اما انت يا مثال الخسة والخيانة تعرفك قاعات التآمر على العراقيين، وتعرفك عاهرات نوادي اسرائيل الليلية وشتان بينك وبين الخزعلي”. ثم أضاف الطليباوي حسبما ورد في الأنباء: "أخيرا نقول لك اغلق فمك قبل ان يغلق، ولا تتجاوز على من حفظ العرض والأرض، ونقول لك ان من امن العقوبة ساء الادب”. وهنا خطأ كبير جداً في رأيي!!
والخطأ ليس لأن "مثال الآلوسي" له أية قيمة، وإنما بالعكس تماماً: خطره يكمن في "أنه لا قيمة له"! إن خطر هؤلاء يأتي من حقيقة كونهم عديمي القيمة وأن اسيادهم على استعداد تام للتخلص منهم، عندما يخدم ذلك تقديم أجندتهم خطوة واحدة إلى الأمام. الخطأ في هذا التصريح هو انه يهيئ الساحة الإعلامية لاغتيال، او على الأقل اختطاف مثال الآلوسي ثم وضع هذه العبارات على كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وربطها بالحدث بحيث تكسب الزخم اللازم بين الناس لإطلاق الأوامر إلى العبادي وبقية العملاء في القوات المسلحة للتحرك لتوجيه ضربة قاصمة الى الحشد. وأمثال مثال الآلوسي يكونون عادة من الغباء والثقة العمياء بأسيادهم ألا يعون عبورهم خطوط الخطر، حين تصبح جثثهم الهامدة أكثر كفاءة منهم أحياءاً في خدمة اسيادهم، فيسيرون إلى حتفهم وهم لا يعلمون! (أنظر فيديو "صناعة الشهداء") (1)
وقد كشف في الثمانينات من القرن الماضي، ما اعتبر اعترافاً رسمياً، بأن الولايات المتحدة تقر، بل وتوجه بشكل منهجي، بقتل "أصدقائها" عند الضرورة! فقد جاء في دليل "العمليات النفسية" للمتعاقدين مع وكالة المخابرات المركزية من متمردي الكونترا، تأكيد على أهمية الاستعداد لاغتيال شخص ما من جماعتك لخلق "شهيد" للقضية التي تعمل لأجلها. (2)
وتبدو حركة مثال كأنها تأتي بدون سابق انذار او مناسبة. والسياق الوحيد الذي توضع فيه هو الصراع بين جبهة إسرائيل واميركا وداعش والعبادي من جهة، والحشد من جهة أخرى، على الحدود العراقية السورية، وقيام أميركا مؤخرا بقصف الحشد هناك. كما أنها تأتي بعد تجربتي سيناريوهات بائسة لخطف الناشطين والصاق التهمة بالحشد. وأخيرا المعركة المفتعلة التي كشفتها الفيديوهات بالصدفة، بين عناصر من الشرطة وعناصر من الحشد قامت بها الشرطة بقتل عنصرين بدم بارد، أملا باستفزاز الحشد لإشعال معركة كبيرة، ودون ان يحاسب أحد على ذلك. ويمكن رؤية حجم الخطر الإعلامي لمثل تلك العبارات من متابعة التحوير الإعلامي لحديث قيس الخزعلي عن تلك الاختطافات، وتقديمها كـ "اعترافات" بالخطف، ولم يكن فيها أي اعتراف. فكيف حين تقدمون لهم كلمات مثل: "اغلق فمك قبل ان يغلق" و "من أمن العقاب أساء الأدب"؟ إنها ليست هوسة عشائر وتهديد وتحدي أيها الحشد، ومثال ليس من يضع نفسه امامكم لتحتقروه، بل هناك وحوش هائلة تقف وراءه تنتظر الفرصة للانقضاض، ومن التهور إعطاؤها اية فرصة.
فالرد هنا اما ان يكون دقيقاً محسوباً، أو أن لا تردوا على الإطلاق، وتتركوه ينبح. إن تحمل الهجوم دون رد، كثيرا ما يكون أصعب على المرء من الرد. وقد قال الفيلسوف نيتشه: "إن في الإحجام ما ليس في الإقدام من العزم أحيانا".
انتم تخوضون معركة شرسة واسعة، وبكل الأسلحة. وعليكم ان تجيدوا القتال بالسلاح وبالإعلام ايضاً، وخير من تقتدون به اشقاؤكم في لبنان. فالمعركة التي تخوضونها معركة كلمات مثلما هي معركة رصاص، ومن المستحيل على أحد ان ينتصر فيها ما لم يتقن إدارة المعركتين معا.
(1) فيديو صناعة الشهداء
https://www.youtube.com/watch?v=dbXd4bpCI_g(2) صناعة الشهداء – من أطلق النار على المتظاهرين
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1097069610350107:0