طرحت قبل فترة رأيي بأن "زعلة" قطر على دول الخليج، ليست سوى مسرحية على مستوى جديد(1)، لكن ما الغرض المحتمل منها؟
كل موقف أو حركة او مسرحية سياسية تمتلك في العادة اهداف متعددة، ويمكننا ان نحزر بعضها فقط. فإن كان ما يحصل في الخليج اليوم، مجرد مسرحية من سلسلة المسرحيات الأخيرة عالية المستوى، كما شرحت في مقالتي الأولى، وأنها ارتقاء إضافي للمسرح الإسرائيلي، فما هو الغرض المحتمل منها؟
قبل الدخول في هذا، دعوني أقول لكم أن مجموعة عوامل، مكنت إسرائيل من التلاعب بعملائها مؤخرا في مغامرات لم تكن معروفة الحجم، مثل دفع عميلها إردوغان الى التظاهر بالعداء لها الى درجة إهانة رئيسها وتشكيل اسطول الحرية وغيرها، وصولا الى سمعة وسلطة جعلته قادرا فيما بعد ان يلعب الدور المطلوب في تدمير سوريا وفي تطوير علاقات تركيا مع إسرائيل دون رد فعل يذكر.
كذلك انطلت علينا لعبة الربيع العربي التي خاطرت فيها إسرائيل بإسقاط البعض من أقرب عملائها، ودفع الشعوب الى تظاهرات وفعاليات حقيقية، لم يكن مستحيلا ان تفلت من السيطرة، ولكنها كانت ضمن خطة تستهدف انهاء الدول العربية وسحقها نهائيا.
لم يكن سهلا اقناع أحد حينها ان إردوغان أو الربيع العربي ليسا سوى مسرحيات إسرائيلية، وأنا من الناس، خدعت بهما تماما، مثلما خدعت بحركات قطر السابقة. وربما لا يسهل اليوم ان نرى حركات قطر كمسرحية أيضا لنفس الأسباب السابقة.
لكن إن كانت قطر مسرحية، فما الغرض منها؟ لا شك ان هناك عدة أغراض، لكني أركز على واحد منها كهدف ربما يكون الأساسي، وهو سحب إيران إلى الخندق الأمريكي، أو تمييعها.
ولإيضاح الأمر، فإني اعتقد ان حكومة روحاني تريد التقرب من الخندق الأمريكي وأنها تتفاهم معه خلف الكواليس أكثر مما ننتظر من حكومة إيرانية. فلأول مرة في العراق، تتفق السفارتان الامريكية والإيرانية ضد المعتصمين البرلمانيين. والغريب ان مقتدى الصدر الذي يقف بالضد من الاثنين في مواقفه المعلنة، وقف معهما بكل قوة وكان رأس الحربة التي حطمت الاعتصام، بحجة عجيبة هي خوفه من أن يلتف المالكي على الموضوع ويسجل المكاسب باسمه! فعند السيد مقتدى، فأن حرمان المالكي من الفرص له الأولوية الأولى، حتى لو كان هذا يعني ان يقف مع من يعتبرهما أخطر دولتين على بلاده. لكن السيد مقتدى يتمتع بميزة حصرية لا يشاركه فيها أحد، وهي ان اتباعه معروفين بالتبعية له دون تفكير او شك او طرح اية أسئلة، وهذا يتيح له ان يفعل أي شيء تقريبا، دون أن يقلق، مثل ما كان يفترض بهم ان يطرحوه حول تلك النقطة.
إذن نظريتنا هي ان حكومة روحاني أقرب إلى اميركا مما نتصور، وحتى مما يتصور الإيرانيون. فهي التي قدمت البرنامج النووي الإيراني على طبق من ورد إلى اميركا وبدون مقابل تقريبا. (الاعتراضات الإسرائيلية لا تعني شيئا لأنها تحصيل حاصل ومفيدة لها في كل الأحوال، وستقوم بها حتى إن كانت سعيدة بالاتفاق). كذلك العديد من المواقف الإيرانية بالنسبة للعراق، تبدو وكأنها مختلفة تماما عن عهد نجاد الواضح.
فإن كانت هذه الصورة صحيحة، فإن حكومة روحاني تعاني من مشكلة رفض شعبي للعلاقة مع اميركا (إلا بين مؤيديها من التجار والمثقفين والأثرياء عموما). وتعاني من توزع السلطات في إيران على أكثر من جانب. لذلك يجب ان تتوخى الحذر في تقربها من الخندق الأمريكي. والحقيقة ان هناك علامات ان هذا الخندق قد اخترق السلطة الدينية في إيران أيضا، بشكل أو بآخر، حين منع احمدي نجاد، الشخص الذي تخشاه أميركا أكثر من أي مرشح آخر، من الترشيح لانتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة.
في حالة صحة الصورة التي في البال عن "مسرحية" قطر، فأن أول اهداف تلك المسرحية هي إعطاء اصدقائهم في إيران الحجة للتقرب من مجموعة عملاء أميركا في الخليج. والحقيقة ان قطر سبق لها ان لعبت هذا الدور، حين سحبت حماس إليها واقامت مؤتمر قمة عربي مثلت فلسطين فيه، حكومة حماس بدلا من عميل إسرائيل محمود عباس، وهو ما لا تجرؤ على فعله أية دولة عربية أخرى.
ومن تداعيات المسرحية، وضمن تلميع قطر على انها خارج السرب الخليجي المحتقر عربيا، تحصل الجزيرة على حصتها منه. فنرى منظمة "أمارجي" لحرية التعبير تحتج على مطالب بعض الدول العربية بغلق قناة الجزيرة ضمن مطالبها لإنهاء مقاطعتها لها، وتطالب "الاتحاد العام للصحفيين العرب" بدعمها، وتصويرها كضحية من ضحايا حرية الكلمة، وهي القناة الأكثر شبهة في العالم العربي
وكانت أربع دول عربية هي (السعودية والامارات والبحرين ومصر)، قدمت ذلك الطلب إلى قطر ضمن شروطها لإنهاء مقاطعتها لها. ويذكرنا هذا التكتيك بما فعله الحزب الكردي الذي ينتمي إليه فاضل برواري في مسرحية ادعت ان الحزب قد طرد برواري من عضويته وأن لا علاقة له بكردستان بعد الآن. واستنادا إلى السمعة السيئة جدا لذلك الحزب لدى الجمهور العراقي، حصل برواري إلى سمعة إضافية منها، كما نبهنا في مقلة لنا في حينه. وأسهمت تلك الدعاية غير المباشرة، إضافة إلى تلك التي وفرتها له في ذلك الحين، حملات إعلامية قوية، في تقديمه كبطل قومي عراقي وساعدته في تنفيذ دوره في تسليم الرمادي إلى داعش، مثلما ساعدته سمعته التي كسبها من الاعلام في تنفيذ دوره في العملية الإرهابية في كنيسة سيدة النجاة والخروج منها ليس فقط كبريء، وإنما كبطل.
واستعمل التكتيك ذاته لرفع سمعة الحاكم الجديد حينها في مصر، عبد الفتاح السيسي، حين أعلنت اميركا (المكروهة شعبيا) وقوفها ضده في مجزرته التي شنها على الإخوان المسلمين، وبدا وكأنه يقف بوجه المخطط الأمريكي وان أميركا تقف ضده، وهي مهزلة مكشوفة، انطلت على الكثيرين رغم ذلك.
إن ما يجري لقطر ولمؤسساتها هو بالضبط ما جرى لبرواري والسيسي وقبلهما لأردوغان، ومن الواضح منذ الآن أن الخطة تسير في طريقها الى النجاح، وأن قطر قد خرجت في ضمير الكثير من العرب من الشكل الكريه الذي كسبته من دورها في مؤامرة الربيع العربي، والذي تركها غير قادرة على فعل المزيد واضطر اميركا حينها الى تغيير أميرها. والآن، وبعد استعمالها لمهماتها الوسخة، تقوم أميركا وإسرائيل من خلال هذه التمثيلية لمسح ما علق بها، وتحضيرها للمهمات القادمة. ويمكننا ان نتخيل كم كان مستحيلا ان تقدم الحكومة الإيرانية على ما أقدمت عليه من خطوات للتقارب مع قطر، وكم كانت ستواجه بمعارضة شعبية فاضحة، بدون تلك المسرحية.
لا نستطيع أن نخمن الطريقة التي ستكمل فيها المسرحية، ولا نعرف الكثير عن الأهداف الأخرى المحتملة. ومن المعقول ان تعطي هذه "الضوضاء" فرصا أكبر مما تعطيه حالة الهدوء، لتمرير مؤامرات مختلفة على أموال ومقدرات الشعب العربي في الخليج وغيره. فـ "الفوضى الخلاقة" تخلق جواً مشوشاً وثرياً بالتفاصيل، يسهل على الإعلام الممول أمريكيا، إعطاء التفسيرات "المناسبة" لكل قرار وتصرف، ولجعل الشعوب تشعر أنها في ظرف "ازمة" يجعلها تقبل بشكل أسهل، سياسات وقرارات سيادية واقتصادية، قد تجابه بالرفض في الظروف الطبيعية.
نكرر ما قلناه سابقا، أن هذا حتى الآن مجرد تخمينات من مراقبة الحاضر ومقارنته بالماضي، ولا شيء لدينا لإثبات صحتها. ولكن حتى الآن فأن مجريات الأمور لا تنفي هذه التخمينات، وتشير إلى ان إعطاء الحجة لحكومة روحاني للتقرب من قطر وربط البلدين ببعضهما البعض، بشكل أكثر قوةً، وإحداث ثغرة لاختراق البلاد من خلال تلك العلاقة، قد يكون الهدف الأول من هذه المسرحية، إضافة إلى الأهداف الأخرى التي ذكرناها، ونحن في انتظار ما تتكشف عنه الأحداث في المستقبل القريب.
(1) قطر... ماذا لو كان الأمر...
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1476531749070556:0