قراءة في نصوص المفكر عالم سبيط النيلي
    السبت 22 يوليو / تموز 2017 - 07:26
    نبيل عبد الأمير الربيعي
          من خلال متابعتي لإصدارات المفكر عالم سبيط النيلي, أصبح لي سابق اهتمام بعامّة تراثه, وبكتاباته التي ألّفها في اللغة والدراسات القرآنية في نهاية التسعينات من القرن الماضي, تلك الكتابات التي أثارت إعجابي بما فيها من قدرة على الربط بين المسائل اللغوية والنصوص القرآنية, علاوةً على غرابة الآراء التي تحفِزُ القارئ على إعادة النظر في موضوعات اللغة من جديد وهي اللغة الموحدة القائمة على مبدأ القصدية في الإشارة اللغوية بين الدال والمدلول, ويكشف عن وجود قيمة معنوية للأصوات قبل التركيب في الألفاظ, وفي لقاء مع الأستاذ الشاعر جبار الكواز, علمت أن له دراسة نقدية لنصوص شعرية كتبها الراحل النيلي في مسودات, فكان شوقي للأطلاع عليها, وهي تعتبر أول دراسة نقدية لنصوص المفكر النيلي, والشاعر الكواز له الدور الكبير بجمعها وتقديم دراسة لهذه النصوص, وعدد النصوص يقارب (13) واعتقد اغلبها نصوص عرفانية, لأن المفكر النيلي قد تأثر في نهاية التسعينات بالعالم عبد الأعلى السبزواري, وهو شيخ العرفان في النجف الأشرف.

    [[article_title_text]]
         صدر الكتاب تحت عنوان (عالم سبيط النيلي.. نصوص), من الحجم الصغير وبـعدد الصفحات(96), عن دار العربي للطباعة في بابل عام 2013, زينت غلاف الكتاب لوحة للفنان التشكيلي سمير يوسف. الكتاب احتوى على مقدمة ودراسة الشاعر الكواز للنصوص الشعرية ومن ثم إدراج النصوص كاملة مع صور لمسودات النصوص.

    نبذة عن حياته :
         عالم سُيبّطَ النيلي هو أحد علماء النهضة العراقية الحديثة, عُرفَ نهاية حقبة التسعينات من عصرنا الحديث في الأوساط الثقافية والعلمية واللغوية والمحافل الأدبية والفكرية, فهو مفكراً وباحثاً أحاطَ بنتاجاته بجميع جوانب علم الفقه واللغة والتراث والتاريخ, وُلدَ في أسرة ريفية حلية ذات مكانة اجتماعية عام 1956م, فوالدهُ سٌبَيَّط شاعراً شعبياً مرموقاً, وشقيقهُ رمزاً ثقافياً في ناحية النيل التابعة لمحافظة بابل, ولقب بالنيلي نسبةٌ إلى ناحية النيل الواقعة شمال الحلة, أكمل دراسته الثانوية في مدينة الحلة, والماجستير حصل عليها في بعثة عسكرية إلى روسيا (الإتحاد السوفيتي سابقاً) في الهندسة الألكترونية عام 1979م من جامعة اوديسا / أوكرانيا, وحصل على شهادة دبلوم عالٍ في الترجمة من روسيا. رحل عن الحياة وهو بعمر الشباب (44 عاماً) نتيجة مرض ألمّ به يوم 18/8/2000م, تاركاً نتاجاً معرفياً زاخراً تجاوز (14) مؤلف وبحث في الأدب واللغة والثقافة.

          وقد أقام لهُ اتحاد أدباء بابل ندوة في شرح نظريته الجديدة, واستمرت هذه الندوة لثلاث أمسيات متتالية, في سابقة هي الأولى من نوعها في عمل الاتحاد, كما كتب الكثير عن حياته ونتاجاته ومنهم (الصحفي ناظم السعود, د. حسين سرمك حسن, وحاوره الصحفي علي خصباك,موسى جعفر, وجيه عباس, فرقان الوائلي, رافد عجيل فليح).

    عالم سبيط ظاهرة ثقافية متنوعة, حركت الذهن الثقافي التي تشيد بعبقريته الفذة, وكان نتاجه المعرفي كل ما هو جديد في ميدان الفكر والإبداع, وقد وصفه الراحل شيخ المفهرسين د. صباح نوري المرزوك قال : (أعتبر عالم سُبَيِّط في البحث والتأليف واحداً من تلك الظواهر الكونية المتعددة والمتنوعة).

    بين الرؤية والرؤيا.. قراءة في نصوص أدبية لعالم سبيط النيلي :
          يسلط الأستاذ الشاعر جبار الكواز الضوء في كتابه هذا على دور المثقف وهو الفاعل الاجتماعي وقرين المبدع  للأفكار المتمردة على التقاليد, يقول في ص10 من الكتاب : "أياً كان نوعه (المثقف) أو مصدره أو شكله, بما يؤهله ليكون المخالف للآراء الثائرة على الانعزال والجمود والمنشئ للرؤية العصية على الاجترار, وهذا الكشف وذلك الإبداع وتلك الأفكار لا تتأتى من فوضى العدم ولا تنبعث من فضاء الفراغ, كما أنها لا تتحصل بالفطرة الذاتية الثائرة على الواقع المكفهر والمتعالية على همومه الصاخبة والمفارقة لانشغالاته الحيوية, بل أن الفاعل الاجتماعي كان وما زال مثابة الوعي المجدول بالمعاناة والتطلع المسبوك بالألم في خضم البحث عن الحقيقية وألم التنقيب عن اليقين". من هنا نجد أن للمثقف الدور الكبير والفاعل في المجتمع من خلال تقديم النقد والتحليل والتفكيك المتموضع في نقطة لا تجانس تقع في بنية النص أو في هامش من هوامشه وتوجيه الضربات إليه من داخله وأحياناً من خارجه أيضاً, ولا يعامله المعنيون بنقد الخطاب ونقد النص إلا بوصفه منهجاً.
         في ص11 يطرح الشاعر الكواز فكرة :(تغليب الايديولوجيا على عدة المثقف المعرفية وملكته الثقافية في إطار مقصود لتعشيق الوعي المبدع بالواقع المتاح, لجعل عناصر الثاني المثقف / الأفكار, التجارب, التكوين التأريخي, الوعي الشخصي/ تستوعب معطيات الواقع/ والمثقف/ متنكباً منهجية تفكيك البُنى وتأويل الدلالات وتحليل الأنساق وزحزحة المعتقدات وكشف الخطابات المسكوت عنها قسراً). وهذا ما لمسناه في سياسة الحكومات الشمولية والقومية السابقة.
         تعتبر نصوص المفكر عالم سبيط النيلي قليلة وقد كتبها في أخريات القرن الماضي, بسبب سياسة النظام السابق التي لم تعطِ فسحة من الممارسة الطبيعية للمفكر والمثقف العراقي, وكشف واقع الحصار الذي يعيشه الشعب العراقي بسبب سياسات النظام الرعناء, فكان المفكر النيلي يعيش حياة صعبة بسبب الظروف المحيطة به وعنف الدولة, لكن عند متابعة النصوص الشعرية للمفكر النيلي نجدهُ يؤكد اهمية الشعر في حياته لإيصال أفكاره إلى من يهتم بقراءة الشعر, ويؤكد الشاعر الكواز في ص13 من الكتاب قائلاً :"تشكل نصوص (النيلي) وكلّها من قصائد النثر أنموذجاً لإشكالية الرؤية والرؤيا وعلاقتهما التبادلية في إنتاج النصوص لأنها (النصوص) قائمة على أفكار مهادية قبليّة آمن بها منتجها النيلي بوصفها الخلاص الحقيقي لأزمات العالم وحجر الحكمة الذي ينير هندس ليل الطغاة", لكن النيلي في نصوصه يمثل كيانين , الأول : الكيان المقدس المتعالي وعشاق الانبياء والاوصياء والشهداء والمريدين والقديسين, والثاني كيان المدنس من الشياطين والمردة والجن والكفرة وأدلاء الزور والجناة والمرابين واللصوص والمنافقين.

          كما يعقب الشاعر الكواز في ص 14 قائلاً :"فالمتابع لهذه النصوص سيعيش محنة النيلي وهو يخوض غمار الحياة محاولاً تعزيز صورة اليقين بالمطلق.. نرى أن نصّ (الشبح العاري) أنموذجاَ لهذا الصراع فهو قد ألبس الثلج صفة البشرية (العري) وجودّة من غموض الشكل وهلامية الدعوة ومجهولية المنبت وظلامية الوسائل, فكأنه استعار صورة الإمبراطور في ثيابه الجديدة ليكون هو الشبح العاري الذي يقابله وهما المتناقضان في حوار شجيّ يشئ بالألم الذي يعتمل من قبل النيلي :
    (لم يعد في نصحك لي نفع / ولن أكتب شعراً رمزياً/ لا ... لن أفعل / لم تعد الصاعقة توقظ الحالمين/ ولا زمجرة الرعد / تنبيه الأسود المخدّرة / ولا الأذان يوقظ السكارى / كيما يشتموا المؤذن). لكن النيلي يؤمن إن الحل والتغيير آتٍ بالإيمان بالتغيير, وهي نبوءة النيلي كما يؤكد ذلك الشاعر الكواز فالمستقبل للعراق التي تتكالب عليه أعراب البادية دفاعاً عن الشبح العاري ليكون العراق يباباً إلا من جثث الموتى ودمار البنى التحتية.

           في النص الشعري (ناحر) يؤكد الشاعر الكواز في ص16 أن النيلي يتكئ على المقدس المتعالي في نحر الناس, لهذا يقول الكواز :" إنهما معاً يتكئان على جذر واحد ويختلفان في الرؤية والرؤيا والتفسير ولهذا يؤمن بقدر الموت وألوانه وعذاباته, فالموت (مكار ذو غدرات/ كبش مخلوق للنحر/ صحيح/ ونشيط/ ومعافي/ محتال)". لكن النيل في نص (وحي) في مدن ظالمة تسلبه حقه في التفكير والبحث وقول الحق, والبحث عن غربته الروحية الذي يريد الاقتراب من كشف الحقيقة التي وصلها متأخراً, ص18 :"(وأحس أن فمي في فم الحقيقة/ يسيطر المطلق على حركاتي ويشغل الفراغ). لذا فوصول النيلي إلى الحقيقية جاء عبر المطلق المقدس الذي محا الفراغ بعد أن شغله بعسل الحقيقية التي سكنت روحه لها وأعطته دفقاً من قوة للبحث والتأمل من جديد ولذا يقول الشاعر الكواز في ص18 نراه في نص (فاعل... الحالم الآخر) يدعو إلى القوة في مواجهة الشيطان المستور والمعلن متخذاً من إيمانه وفكره وأسلافه وسائل دفع جديدة فيبتدأ النص بـ(كن) : ("كن حديداً في الحديد للتراق" "أول العشق فراق"). إنها حالة الوجد الصوفي أو العرفاني الذي ظل لصيقاً بنا نحن – الترابيين – الذين ما زالوا يكشفون الآفاق ويكشفون ذواتهم من خلالهم وصولاً إلى بئر اليقين أو عين اليقين التي تحيل الوجد وجداً سرمداً.

         كما في نص (غافر) يتلبس النيلي الوجد الصوفي والرعب العرفاني الذي ينفلت من كونه بشراً إلى كونه كونية تخترق الحجب وتحاول الاقتراب من الكينونة المتعالية في ذاتها العلية. مما لا شك فيه تقودنا نصوص المفكر عالم سبيط النيلي إلى فهمه من خلال رؤاه الفكرية والتحليلية. فالشاعر الكواز قد فكك النصوص الشعرية وحللها وفق آليات ذات طابع منهجي وفق النص المتجانس.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media