تفسير يفكك التكلس الفكري والتجمد اللاواعي على الموروث
    الأحد 13 أغسطس / آب 2017 - 06:03
    د. بلعيد مصطفى*
    أعترف بأني فوجئت بما اطلعت عليه في كتاب (موسوعة معاني القرآن الكريم حسب تسلسل النزول) للأستاذ العراقي المغترب الدكتور هادي حسن حمودي الذي تتلمذنا على يديه في الثمانينات الفارطة، أين رأيت في الكتاب تطبيقا شاملا لمنهج التنوير اللغوي من خلال دراسة اللغة القرآنية بذاتها ومن أجل ذاتها، كما هو المعترف به في تعريف علم اللغة.
    [[article_title_text]]
    يبدأ أستاذنا كتابه بمقدمة سنعرض، من بعد، لبعض ما جاء فيها.
    ثم يتحدث عن بعض علوم القرآن الكريم بأطروحات تنبثق من النص القرآني نفسه، مع الاستنارة بما صحّ من الحديث النبوي الشريف، ناظرا في المتن قبل أي شيء آخر، أي بما وافق النصّ القرآنيّ، بإطار المعنى اللغوي.
    وبعد ذلك يدخل في تفسير سور التنزيل العزيز، مبتدئا بسورة الفاتحة لأسباب يوضحها الدكتور هادي بنقاط جعلته يبتدئ بها.
    ثم سورة العلق، ثم القلم، فسورة المزمل، فسورة المدثر، فسورة المسد.. وهكذا إلى سورة المائدة التي هي آخر سورة من سور القرآن الكريم من حيث النزول.
    وقد استطاع الباحث وبصبر العلماء الجادين أن يصحح كثيرا من المعلومات غير الصائبة مما هو مذكور في كتب التفسير وغير كتب التفسير، ولا يمكن أن نحيط به في مقالنا هذا.
    وهو التزم بمنهج لغوي دقيق، فأوصله إلى أن يبيّن معاني الآيات أولا، حتى إذا ما انتهى من السورة، عقد بابا ملحقا بها تحت عنوان (رؤى) كما أوضح ذلك في المقدمة التي شملت نقاطا عديدة يمكن إجمال بعضها في:
    1- إن من الجليّ أنّ القُرآن الكريم أراد أن يُنشئ عهدا إنسانِيا جديدا، على أسس من الهدى الأوّل الذي نزل على آدم بعد خروجه من الجنّة. ثمّ تجدد على أيدي الأنبياء اللاحقين. حتّى إذا ظهر النّبيّ إبراهيم ابتدأت مرحلة جديدة ظلّت تتكامل إلى أن بزغ فجر الاسلام، حيث اكتمل الدّين وتمّت النّعمة. فزالت عبادة الأصنام من الجزيرة العربيّة إلى الأبد، كما انتقل العرب وغيرهم من عصور الجاهلية والتّخلّف إلى عصر آخر من العلم والحضارة فتأسّست حواضر ثقافيّة عديدة في مشارق الأرض ومغاربها.
    2- يرى أنّ من بديهيات الأمور أنّ الحضارة التي أنشأها المسلمون اختلط فيها العمل الصّالح والآخر السّيّء، لأنّ كلّ حضارة يبتنِيها البشر، حتى لو انطلقت من تعاليم سماوية، لا بدّ أن يداخلها الاجتهاد البشري القابل للصّواب والخطأ. فهي حضارة بشرية، أو هي حضارة المسلمين. أما وصفها بإيجابياتها وسلبياتها بأنها حضارة إسلامية فمما لا يجرؤ السيد المؤلف على القول به. لأن توصيف شيء ما بأنه (إسلامي) يجب أن يكون نقيا كلّه من غير سوء. بمعنَى أنه لا يمكن وصف الأخطاء بأنها إسلامية. ويشير هذا إلى خطأ توصيف التطرف بأنه إسلامي، أو الإرهاب بأنه إرهاب إسلامي، وهكذا.
    3- يقول السيد المؤلف إنّه بمرور القرون، ران التخلّف على العرب وسائر المسلمين، بفعل عوامل شتّى، إلى تخوم الأزمنة الحديثة التي أيقظت العرب وسائر المسلمين على واقع مؤلم كان لا بدّ أن ينشأ نقيضه. وبدلا من أن ينصرف النّاس إلى الواقع يغيرونه بالعلم النافع والعمل الصّالح انقسموا إلى فئات توزّعتها اتجاهات متصارعة على فراغ لا جدوى من ورائه. فكان هناك تياران رئيسان: تيار منسوب للدّين، وتيار مضادّ له.
    ويذهب الدكتور هادي إلى أنّ التيّار المنطلق من مقولات الدين حاول أن يستعيد، نظريا، زهوَ الأيّام الماضية. ويراها محاولة ضرورية وحتميّة. ولكنّها اصطدمت بتكلّس فكريّ وجمود على موروث فيه النّافع والضارّ. ونتيجة هذا الاصطدام، ظهرت فئات بين أهل الأديان الثلاثة: الاسلام والنّصرانِية واليهودية، أخذت أديانها إلى مهاوي صراعات وحروب وفتن ومعارك، سواء مع الدينِين الآخرين، أم في داخل الدّين الواحد الذي قسّمته الأيّام إلى طوائف ونِحَل، كلّ يدّعي أنّه على الحقّ المعصوم والآخرون على الباطل المشؤوم. وتطوّر هذا إلى بروز ظواهر التّكفير وفتاوى القتل متغطيّة بمبررات شتى، ومُحتجّة بأيّ خلاف فكري أو وجهة نظر مخالفة.
    4- وإلى جانب أولئك، يقرر المؤلف، ظهور علماء وفقهاء ومفكرين أرادوا فهم القُرآن الكريم، فقدموا تفاسير منوّعة للقُرآن، ودراسات فيه وعنه. ولكنّ معظمها لم يستطع الخروج من إسار التّفاسير والدراسات القديمة، وهي تفاسير ودراسات انبنت على مُعطيات عصورها، أزمانها وأماكنها، والموروث الذي وصل إليها، والمذهب الذي ينتمي إليه المفسّر، وعلى مدى تمتّع كتّابها بعقلية الاجتهاد في فهم النّص القُرآنِي على أسس من النّص نفسه، لا من خارجه. فتفاوتت حظوظ تلك التّفاسير والبحوث من القرب والبُعد عن التنزيل العزيز، حسب لغة السيد المؤلف. بل إنّ بعضها، كما يرى، لا يلوح فيه أيّ مَلْمَحٍ قُرآنِي، وكأنّه يفسّر كتابا آخر، أو يبحث في كتاب آخر لا يراه إلاّ المفسّر أو الباحث.
    5- وفي مقابل ذلك كله برزت كتابات كان هدفها الوحيد الإساءة إلى القُرآن، وتأكيد مزاعم موروثة عن تناقضات فيه وأخطاء، واتهامات أخرى.
    ولذا يضع الدكتور هادي على عاتق المسلمين، من قبل أن تتفرّق بهم السبل، أن يفهموا قرآنهم حق الفهم كما فهمه المسلمون الأوائل وهم يتلقونه من فم الرسول. وهذا الذي فهموه يتجسد في إنه (تركيبٌ لغويّ مُعجز يسحر الألباب ويُغذّي الرّوح بقوى سماوية تأخذ الإنسان في رحلة الصّفاء والنّقاء فيستطيع الاستفادة من المبادئ العامّة والقواعد الكلّيّة التي كشف عنها التّنزيل العزيز، ليُنَشّئَ على أساسها قوانِين حضارته التي تقوده نحو عالم من التّآلف والتّعارف والسّلام والاطمئنان، بعيدا عن التّعصّب والتّطرّف والعدوان، وعن (تَطْييف) القرآن وتقويله ما لم يَقُل) حسبما جاء في المقدمة.
    إنّ القُرآن كتابٌ ميسّرُ الفهم، يفهمه العربيّ أيّا كانت ثقافته ومستواه الاجتماعيّ، وزمانه ومكانه، ويفهمه غير العربيّ إن حظي بترجمة سليمة.
    غير أنّ القرون التي مرّت منذ نزول القُرآن الكريم واكتماله أضافت إلى النّص القُرآنِي كثيرا من الأثقال التي أبعدته عن النّاس وأبعدت النّاس عنه. ولقد ظهرت فئات في هذه الأمة، حاولت أن تفرض عليه وصايتها بحجّة أنّ فهمه غير متيسّر للنّاس، فهو موقوف عليها، وليس لأيّ إنسان، مهما أوتي من حكمة وبصيرة أن يفهم القُرآن أفضل مِمّا فهموه. ولقد قَرأنا كثيرا، في العشريات الفارطة، من الكتابات التي يزعم كاتبوها أنّ تفاسير الأقدمين هي، وحدها، التّفاسير المعوّل عليها، بحجّة أن مؤلّفيها كانوا أقرب إلى فترة ظهور القُرآن الكريم. ولكنّ هذه الكتابات تتناقض مع ذاتها، حين تخطّئُ مفسرين قدماء، وتحكم عليهم بالضّلال والرّدّة، كما فعلوه مع الزمخشريّ في تفسير الكشّاف، وفعله آخرون مع القُرطبيّ في تفسيره.
    ولو كان القرب من زمن النّزول معيار صدق التّفسير وصوابه، فلماذا اختلف القدماء في تفسير كثير من الآيات؟ ولماذا اختلفوا في مسائل ما وصفوه بالنّاسخ والمنسوخ، وأسباب النّزول، وغير هذا وذاك؟
    ولقد راعنا (يقول السيد المؤلف) أن نجد في بعض تفاسير القدماء كثيرا من الخرافات والأساطير، فلو اقتصرنا عليها وقدّسنا ما جاء فيها، مثل تقديسنا للقُرآن، وهو ما يفترضه دعاة التجمّد عليها والالتزام بها فقط، لوجب أن نؤمن بتلك الخرافات والأساطير التي صار النّاس الآن يعرفون زيفها وبُطلانها.
    ترى هل نصدّق أن المدّ والجَزْر في البحار يحدثان لأن اللّه قد وكّلَ مَلَكا يضع رجله في البحر فيحدث المدّ، ويُخرج رجله من البحر فيحدث الجَزْر؟
    وهل نصدّق أن النّبيّ داوُد أرسل رجلا للقتل من أجل أن يتزوج امرأة القتيل لأنّه رآها متجرّدة من ثيابها فعشقها؟!
    فإذا كانوا يدعوننا إلى التجمّد على رؤى الأقدمين لأنهم أقرب إلى زمن نزول القُرآن، فأي رأي نأخذ من الآراء التي اختلفوا فيها، علما أنّها جميعا تعتمد على روايات تجرأوا على نسبتها للنبي؟
    وماذا فيما اختلفوا فيه في الآيات النّاسخة والمنسوخة؟
    إلى غير ذلك من أمور أدّت بصاحب مشروع التنوير اللغوي الدكتور هادي حسن حمودي إلى تقرير أنّه يحترم آراء الأقدمين، ويقدّر جهودهم، ويستأنس بما قالوه في فهم القُرآن الكريم حقّ الفهم، ولكنّه لا يقدّس آثارهم وآراءهم، ولا يحبس نفسه في صندوق مقفَل مع تلك الآثار والآراء والأفكار والتصوّرات.
    لذلك يرى أنّ أفضل السّبُل لفهم القرآن الكريم أن نفهمه بعيدا عن الأثقال التي ناءت به وناء بها مِمّا أضافه النّاس إليه بحسن نِية أحيانا، وسوء نِية أحيانا أخرى، بناء على مستوياتهم الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة، ومعطيات عصورهم والقُوَى المتحكّمة فيها من تقليد واتّباع، أو اجتهاد وتجديد أيّا كان نصيبه من الاستفادة من التّراث ومن تطورات الفكر البشريّ عبر العصور. وبغضّ النظر عن مدى قربها أو بعدها عن الفهم الموضوعي للقرآن إلاّ ما كان منبثقا من حقائق لغة التنزيل العزيز وإيحاءات آياته، من غير خضوع للمواقف المسبَقة، والقناعات الموروثة، لأن الحديث عن القرآن حديث عن كتاب سماويّ لا عن ديوان شعر أو سطور نثر.
    وبطبيعة الأمور فإن هذا العرض لا يغنِي عن متابعة الكتاب الصادر في بيروت في ستة مجلدات. ذلك أن فيه كثيرا من الرؤى التي أراها من ضرورات الفهم الحقيقي للقرآن الكريم عسى أن يكون أساسا يشيّد الناس على أخلاقياته ومُثُله العليا حاضرهم ومستقبلهم بالتفاعل مع فروض الأزمنة الحديثة، حسب تعبير السيد المؤلف.
    ------
    * باحث وأكاديمي جزائري.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media