التقديس والتجهيل سَوَس ينخر في جسد العراق
    الأحد 13 أغسطس / آب 2017 - 20:12
    بشار الزبيدي
    من المعروف أن السَّوَسُ داء خطير فهو يصيب مثلاَ الدابة في قوائمها فيضعف قواها او سيقان الاشجار فيحوله الى فتات لذا وجدته مناسباَ لوصف خطر مصطلحا (التقديس والتجهيل) المستشريان في العراق واللذان أصابا بنية مجتمعنا بالهشاشة.
    التقديس مفردة معروفة و كما يشرحها لنا معجم المعاني العربية هي اسم مُشتق من المصدر قَدَّسَ وغالباَ ما ترتبط بتطهير ومباركة الأشياء فمثلا نقدس الله عز وجل أي نعظمه ونبجله وننزهه عما لا يليق بألوهيته او مثلا يُقدس المرء شخصية دينية معروفة ولا يقبل المساس بها لكن هذه المفردة لم تعد محصورة بشكلها الديني او تطهيرها الالهي بل باتت اليوم تُمنح لأشخاص اعتياديين من بنو البشر بحكم منصبهم او موقعهم الاجتماعي.
    لقد اضحى ﺗﻘﺪﻳﺲ الساسة وأحزابهم اليوم منتشراَ بشكل واسع في العراق وهو بكل تأكيد ﻧﻤﻮذﺝ ﻟﻐﻴﺎﺏ ﺍﻟﻮﻋﻲ الفكري للمجتمع وسد منيع في وجه أي مبادرة للنهوض وبلا ريب منعطف خطير يهدد مستقبل البلاد اذ صار ﺩﻳﺪﻥ لشريحة واسعة من ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪ اليوم مجاميع كثيرة تدافع عن الساسة بتعصب وبلا خجل بل يفتخرون بما هم فاعلون وكل مجموعة تعتقد أن حزبها هو الأكثر جودة ونزاهة وهو وحده من قادر على انتشال الوطن وتحقيق ﺃﺣﻼم شعبه ﺣﺘﻰ ﻭﺻﻞ ﺍﻷﻣﺮ ﺃﻥ ﻛﻞ ما يتفوه به الساسة اﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺪﺱ ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ مخالفته ﺃﻭ قدحه ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ بعضهم متيقنا بعدم صوابه حتى تجلت ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺷﺨﺼﻨﺔ القادة ليصبح عبرها ﺭﺋﻴﺲ او عضو ﺍﻟﺤﺰﺏ هو بمثابة ﺍﻟﻤﻌﺼﻮﻡ وهو الاﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ والأكثر تميزا ﻭﻻ ﺑﺪﻳﻞ ﻟﻪ ويتمتع بكل صفات النزاهة وبات تعظيم الساسة يقاس بنظر البعض على انه من ايجابيات الولاء والوفاء. ان نتائج المبالغة بتقديس الاشخاص وتفخيمهم طالما كانت كارثية مخلفتاً ورائها فواجع وكسور هائلة لا يمكن تجاوزها بالسهولة التي نتصورها فالأشخاص الذين يقدسون اخرون على الارجح سينقلون هذه العدوى الى أسرهم حتى يصبح المجتمع عاقراَ غير قادر على انجاب الوطنيين الذين لا يساومون على بلدهم ولا يتملقون للسلطة.                                                                  

    نحن نقف هنا امام فعل خطير إلا وهو رفض بعض شرائح المجتمع استبدال الاشخاص الذين يقدسونهم بأخرون وان كانوا اكثر كفاءة وحنكة من خصومهم لذا فإن المبالغة في نفخ الاشخاص تؤدي إلى خنق التغيير السياسي وتمنع أي محاولة ارتقاء كما تحرم المتميزين من أخذ استحقاقهم الوطني ولأني اعيش في مجتمع غربي اصبحت اقارن كثيراَ بين الفرد الغربي والفرد الشرقي بشكل عام والعراقي بشكل خاص ولاحظت الفرق الشاسع بين نظرة الغربي والشرقي للسياسي الحاكم في بلده فمن الوهلة الاولى تأكدت لا يوجد سياسي مقدس عند الغربي فهو لا يستقتل من اجل حزب ولا تهمه المظاهر والأسماء الرنانة بل السياسي هو من يخشى المواطن ويتملق له ليكسب رضاه على العكس منا تماماَ وهذا المثال الصغير مجرد ايضاح بأن التطور الذي تنعم به اليوم الكثير من البلدان الغربية لم يأتي من فراغ بل من قوة اتزان المجتمع ورؤيته السليمة لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأن ازدهار الاوطان غالباَ ما يتوقف على هذه الرؤية فإذا كانت غالبية المجتمع مصابة بمرض التبعية العمياء وتلهث وراء السراب الحزبي بدون أي تفكير وتشخيص ستبقى تراوح مكانها وأما المجتمعات الذكية التي تعطي الحاكم قدره الحقيقي بلا مبالغة هي من تحرز التقدم سريعاَ وبدون أي معوقات.
    اليوم نحن نفتقد بشدة لثقافة الولاء للوطن , لثقافة الولاء الحقيقي المنصف الذي لا يعير اهتماما للسياسيين وأسمائهم وأحزابهم وبهارجهم الخداعة, نفتقد لتلك الالتفاتة الانسانية لوطن يئن من الهرج والمرج السياسي لوطن يحتاج لوقفة عطوفة من ابناؤه لا ان ندوس على جراحه المختزنة, فالتعظيم الفارغ الذي ينتهجه الكثير من الأشخاص قد تجاوز حدود المنطق في العراق ولم يعد يُحتمل كيف لا وهو يُعتبر احد منابع التخلف والظلم الذي يفرضه الشعب طوعياَ على نفسه.
     إن الكثير من الناس قد اصبحوا اليوم معتادون في التعامل مع شخصيات سياسية او دينية كثيرة بقدسية وهم يبنون أحكامهم على المظاهر والخطابات التي يُصدرها هؤلاء حتى وصل التفخيم المفرط فوق مستوى التدارك ونحن هنا نتساءل كيف يمكن ان نعالج هذا الشرخ الكبير في المجتمع العراقي وكيف لنا ان نهزم هذه الصفة القبيحة المستشرية ونُصبح نحن المقدسون من قبل الحكام وليس العكس فالحاكم مهمته الاولى والاخيرة ان يكون خادماَ لوطنه و شعبه  الذي اوصله لموقع المسؤولية لا ان يكون قديسا يداهن الجمهور ويحتال عليهم لذا نقول اما آن الاوان ليستفيق البعض من عبوديته اما آن الاوان لنُنهي لعبة الاسترقاق القذرة التي يفرضها الفاسدين على شعب العراق بكل وقاحة وسفاهة متجاوزين كل حدود ألأخلاق. الاستغراق في أعظام الاشخاص يشكل اليوم عثرة كبيرة في وجه الاستقرار السياسي العراقي فإصرار الجمهور على دعم نفس الكيانات والوجوه وإعطائهم صفة القدسية وتبجيلهم يُبطل أي مخطط للنهضة المجتمعية خصوصاَ اذا كانت الوجهات التي يُزمر لها المجتمع غير مؤهلة اصلاَ لقيادة البلد فهذه ﺍلسمة البذيئة ﻭﺑﺘﺮﺍﻛﻤﺎﺗﻬﺎ تُجهز على ﻛﻞ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺍﻥ ﻳﺆﺳﺲ ﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ سياسية ناضجة ﺗﺤﺘﺮﻡ الكيانات ﻭﺗﻮجهاتها ﻗﺒﻞ زعمائها وتضع الوطن قبل الرموز.
    استمرار المجتمع بالاندفاع وراء المظاهر ورفع شعارات الاجلال بحق من لا يستحقوها والتركيز على مزايا من يقدسوهم على حساب الوطن امر بالغ الخطورة وإساءة كبيرة لوطننا وتاريخه الزاخر, لا نقول سوى أن الوقوع في الخطأ ليس عيباَ بل الاصرار عليه هو العيب الكبير. المجتمع العراقي متهم بالخطأ او نقول تم استغلاله من قبل المتربصين والإصرار على هذه الهفوة يهدد ليس فقط امن وازدهار العراق بل يهدد حياة اجيال المستقبل فهم سيورثون وطن ممزق ويقفون وسط مجتمع تبعي واهن يتحرك خارج ارادته.
    على صعيد متصل نتساءل كيف لهذا التقديس المخيف برز بهذه الصورة الكبيرة في المجتمع العراقي وكيف وجد طريقه بين صفوف الكثير من الشباب بهذه السرعة ؟ جزء كبير من الإجابة سنتعرف عليه عن طريق شرح تفاصيل المصطلح الثاني لعنوان المقال (التجهيل):
    التجهيل كما يشرحه معجم المعاني العربية هو اسم ومصدره جَهَّلَ وتعني ان شخص ما جهلهُ شخص اخر من علمه وأوقعه في الجهل.
    ظاهرة التجهيل لا تقل خطورة عن التقديس فهي خداع علني يمرره المتسلط على الجمهور مع علمهم بذلك, فقد اصبح التجهيل صناعة او بضاعة يتم انتاجها بحرفية عالية من اجل تخدير شريحة كبيرة من الشعب لتحقيق المنافع الذاتية, فقد أدرك اغلب الحكام على مر التأريخ أن النجاح بتجهيل الأُمم هو اقصر طريق لإخضاعها.
    أن هندسة التجهيل التي تتبعها اغلب الاحزاب العراقية اليوم جعلت الكثير من المواطنين مسلوبي الفكر ولا يدافعون سوى عن الوجهة التي ينتمون اليها اذ اصبح المواطن حارسا مدافعا عن السياسي والحزب مقابل مغريات يتم تقديمها له او بدون ذلك متأثرا بزيفهم. سياسة الحقارة وجر الجمهور هذه ما هي الا مسرحية قذرة هدفها اطفاء النور في ضمير الجمهور واستلاب حماس الانسان العراقي ليغدوا خاضع مجرد من كل سمات الوطنية ووضعه تحت شعور بأن هنالك من هو متفضل عليه ومن الواجب ان يفيض عليه بالمديح والتعظيم.
    أن هذه العملية التخديرية المُتبعة من قبل دراويش المشهد السياسي العراقي أصبحت هي الاداة المُثلى لأستعباد الجمهور والإجهاز عليه عبر وسائل خبيثة مثل التظاهر بالوطنية او الادعاء بمحاربة الفساد والفقر والسعي لخدمة المواطن وتلبية رغباته , كل هذا من اجل انجاح تمرير هذه المكائد على حساب الجمهور وجعله ينتقل لمرحلة التمجيد والتبجيل والتفخيم الخ.. ثم الى التقديس العلني فعلى سبيل المثال ليس هنالك سياسي قال او اجبر جمهوره ان ينعتوه (بــ الزعيم ,القائد او المختار الخ..) لتُصبح تلك العبارات فخمة بنظر من يسمعها ويُفهم منها ان الشخص الموصوف له مكانة كبيرة ولا يُسمح بالتطاول عليه وقد يصل الامر الى التصفية الجسدية وأن كان هذا الشخص في الواقع هزيل فكريا وثقافيا ولا يستحق كل هذا التفخيم والتعظيم !
    ان مثل هذه الالقاب القدسية لم تأتي من فراغ بل اتت بفعل سياسة تجهيلية مررها المراوغون على حساب جمهورهم المتواني. هذه الدناءة لم تكن الا دسيسة ممنهجة تضافرت فيها جهود الاحزاب التي لا يهمها سوى ان يبقى الجمهور عاكف عاجز عن استئصال جذور فسادها وشذوذها , لم تكن الا مؤامرة ومراوغة ضربت اطنابها عبر الخطاب المعسول المُخطط له والسفسطة المزيفة والصراخ بالوطنية وغيرها من الاساليب التي ينتهجها أغلب ساسة العراق حالياَ عند ظهورهم علنا امام الجمهور او الكاميرا وبكل تأكيد هذه الخدع السينمائية قد جرت وللأسف الكثير بعربتها وجعلتهم يثنون على منفذيها بتفاخر ويمنحوهم صفة القداسة والنزاهة وهنا يكمن الجوهر الحقيقي لعملية التجهيل حيث الهدف جر اكثر عدد ممكن الأشخاص بشتى الاساليب.
    ما يُحزننا هو ان أي حركة تدعوا للتحرر ﻣﻦ اغلال العبودية وكماشة الجهل ﻭﺗﺪﻋﻮ ﻟﻼﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻻﻓﻜﺎﺭ ﻻ ﺍلأشخاص ﻧﺠﺪ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﺴﻌﻰ ﺟﺎﻫﺪﺍ ﻟﻌﺮﻗﻠﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ وإجهاضها ﻭﺇﺭﺟﺎﻋﻬﺎ ﻟﺤﺎﻟتها الفوضوية ﻭﻟﻠﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺨﻄﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻦ الأﺳﺒﺎﺏ الرئيسية لتردي ﺍﻟﻮﺿﻊ الاجتماعي والسياسي في بلاد الرافدين ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ أقامة ندوات ثقافية تدعوا لنبذ هذه الظاهرة من قبل شخصيات لها ثقلها في المجتمع العراقي كما ادارة برامج تلفزيونية من قبل نُخب مثقفة تستنكر من خلالها هذه العادة وتبين خطورتها على الوضع العام وأيضا اعطاء هذا الامر اهمية كبيرة من قبل الكتاب العراقيين ففي هذه المحنة لا بد للأقلام ان تكتب وتنتقد كي يعلم الجيل القادم ومن يطمح للدخول في دهاليز هذا المتاه مدى خطورة هذه الظاهرة وعواقبها, عدا ذلك سيزداد الامر سوءاَ وتعقيداَ رغم اننا نقبع اليوم في داخل هذا السوء والتعقيد لكن كما يقال الوقاية خيراَ من العلاج.                                                                                                   
    في النهاية يبقى تقديس ما هو غير مقدس ليس من ابجديات التحضر الاجتماعي وهو امر مضر له عواقب وخيمة حيث يصبح المجتمع ضعيف البنية مسلوب الارادة لا يقوى على أي نوع من انواع التغيير وان هذا الامر سيصل بنا بلا شك الى (الجهل المقدس) كما جاء عنوان كتاب الكاتب الفرنسي اولفيه روا اذا يصبح افراد المجتمع يقدسون جهلهم بكل وقاحة.
    يبقى تقديس الاشخاص والخضوع الى تجهيلهم مشكلة عويصة تحتاج لوقفة حقيقية من قبل المثقفين عسى ولعل ينجحون من خلالها بنصح بعض المصابين بوباء التقديس والاهم من ذلك تحذير الاجيال القادمة وأسرهم منه, فنحن حقاَ  لا نحتاج اليوم سوى تقديس وطننا العراق لا الأشخاص فالوطن باقِ والأشخاص زائلون ولن نسلم الا اذا نفض الشعب غبار الجهل عنه والجهل لا يُهزم الا بالوحدة والحراك الثقافي المستمر. نعم نحن بحاجة ليقضة ثقافية نفضح بها التجهيل الممنهج كما التقديس الطوعي ونمرغ انوف صانعيه.... فهل من يلبي النداء ؟
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media