كنت في بغداد.. الحلقة الأولى
    الأثنين 21 أغسطس / آب 2017 - 21:28
    ميسون نعيم الرومي
    الساعة تشير الى ما بعد الثالثة صباحا .. وها هي الطائرة تحوم منخفضة
    لتلامس ارض بغداد النائمة في أحضان الليل ، إلا من أضوية متناثرة هنا وهناك ، كأذرع مفتوحة تتطاول لاحتضان أبنائها العائدين بعد فراق طويل ، لتعيد الهدوء والحب الى نفوسهم المتعطشة الى حنانها ودفئ احضانها .
    ايقظني من احلامي صوت يعلن بدء الهبوط على ارض مطار بغداد الدولي ، سرت رعشة في دمي مع ارتطام عجلات الطائرة بالأرض ..
    وقت قصير، واراني في صالة تشير الى ضابط التأشيرات ، والذي من خلال ختمه لجواز السفر أدخل بغداد .
    انقسم الركاب العائدون الى طوابير حسب انتماءاتهم كعراقيين او أجانب ، نظرت الى جوازي السويدي حائرة ..! ترى مع من أنا .. وأين أذهب ؟
     همس لي الجواز، ان اذهب معه الى قسم ( الفيز) الخاص بالأجانب ، احسست بانكسار وضياع
     جفَّ فمي .... سحابة دمع حجبت الرؤيا في عيني ، غريبة لأكثر من ثلاثة عقود في بلد فشلت محاولاته انتزاعي من غربتي واشواقي .. لأعود غريبة في وطني..
    ترى أصحيح .. اني أقف في طابور الأجانب بانتظار ضابط ( الفيز) للحصول على سمة الدخول الى حبيبتي بغداد...
     انتزعتني من افكاري المتضاربة دمعة ساخنة ، سالت وسقطت على جواز سفري .. تحكي معاناة أحلام تائهة في زحمة السنين .
     
    ها أنا الآن في الصالة الخارجية أدير عيني بين الوجوه المنتشرة هنا وهناك ، (آسيويون) يسحبون عربات لنقل الأمتعة يعرضون المساعدة ، وهنا احد الأشخاص العراقيين يتقدم لعرض مساعدة تبدو إنسانية (حمد الله على السلامة أتريدون تكسي هذا شخص سوف يوصلكم بثمانين ألف) اعتقدنا انها التكسيات التي اخبرونا بأنها موجودة في المطار لنقل المسافرين ، سحبنا حقائبنا وتبعناه أنا وصديقتي فرحتين والساعة تقارب الخامسة صباحا ..
     
    كانت السيارة متعبة هدتها السنين تمشي متعثرة وكأن بها سقام وصوت (الماطور) يصرخ مرعوبا
    وكأن  شياطين الأرض تلاحقه ( وابكل عثرة انصيح يا علي) لتسترد عافيتها وتستقيم.
    خطوات عن المطار بدأت قطرات المطر تضرب الزجاجة الأمامية تاركة نجوما ترابية تهديها السماء مع حبات المطر الى اهل العراق وضيوفهم !
    فجأة فاحت رائحة حريق في السيارة ( يمعود اوگف السيارة تحترگ ) ضحك السائق وقال (خواتي امنين جايين .. لتخافون ماكو شي) ـغلقت شباك السيارة ، احسست بالإختناق ، (معاناة من عاش برد السويد)  أخيرا فتحت الشباك وتكممت بشال كنت متلفعة به من برد ستوكهولم
    وهكذا ( مرة اتكمم الى حد الاختناق وأخرى اتحمل ريحة الديزل المحروق ) وصلنا منطقة راغبه خاتون ( بالشافعات ) والساعة كانت حوالي السادسة صباحا حيث بيت صديقتي المضيفة.
     
    وجدت راغبة خاتون منطقة شعبية جميلة ... أطفال يركضون هنا وهناك في (درابين ضيقة ) اخذتني الى زمن جميل حيث محلة الكريمات ، وها أنا اصحو على تغريدة ساحرة ( ككوكتي وين انت ) كم اشتقت لهذه الترنيمة التي بقيت تئن في شراييني ، عصافير صغيرة تقفز فرحة بالماء الذي غطى بعض الحفر الصغيرة.. سعادة في داخلي افتقدتها لعقود ، (ما احلى الرجوع اليه) رددت بفرحة حبيب عائد بعد غياب طويل .
    لم استطع المكوث في راغبة خاتون طويلا فأنا كرخية الهوى والمزاج  فكيف لي الا ان ادور في شوارع الكرخ وحاراتها واسواقها وانا قاب قوسين أو أدنى منها .. لملمت اشواقي وهرعت الى أحضان الكرخ الدافئة... راحة نفسيـّة ، مشاعر افتقدتها طويلا عادت تداعب روحي المتعطشة الى لقياها ، كل شيء فيها يسحرني ينعشني..
     
    الهدوء النفسي الذي افتقدته لسنين وسنين عاد لي فأضاء الفرحة في قلبي الحزين.
     
    جميلة حبيبتي بغداد بالرغم من شوارعك المهملة والحواجز اكونكريتية التي فرض وجودها الأوغاد ورغم الإهمال المتعمد ... لقد عفى الزمن على بناياتك .. شوارعك.. بيوتك.. كل مرفق وكل شبر فيك حبيبتي يشكو الإهمال والخذلان والغبن واللامبالاة .

    ستوكهولم /  2017
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media