أزمة استفتاء كردستان
    الأربعاء 20 سبتمبر / أيلول 2017 - 07:34
    زكي شيرخان
    كاتب ومحلل سياسي
    أزمة الاستفتاء في إقليم كوردستان إن هي إلّا واحدة من الأزمات المتعاقبة التي واجهها العراق منذ العام 2003 تحديدا، التي ستؤثر على نواح كثيرة.  كأن الامر يراد به زيادة الضعف الذي يعانيه العراق، وليغطس أكثر في لجة المشاكل في الوقت الذي نحتاج فيه لفرصة هدوء واستقرار نسبيين للالتفات لحاجة المواطن للكثير من الخدمات.

    أسئلة كثيرة يطرحها الاستفتاء، من حيث الهدف، التوقيت، والمُترتب عليه.  بالطبع، في التحليل وليس في المعلومات، كُتبَ الكثير.

    لعل أول الأسئلة، لماذا لم تستغل القيادات الكردية الظرف (المثالي) بعد سقوط النظام السابق وتعلن استقلال الإقليم، وتحقيق الحلم الكردي؟ ربما كان لأحد الأسباب التالية:

    - لم تكن الإدارة الأميركية التي دفعت بقواتها العسكرية لغزو العراق واسقاط النظام، مستعدة لمثل هذه الخطوة في حينه خاصة وأنها اتُهمتْ بأنها بصدد تقسيم المنطقة إلى دويلات بدءا بالعراق وبناءاً على مخططات أعدت من فترة طويلة.  وأنها بعيدة كل البعد عن ادعائها بنشر الديمقراطية، وأنها تريد انهاء معاناة الشعوب الراسخة تحت ظل الدكتاتوريات.  خطط تقسيم المنطقة دُعمت، وعلى مدى سنوات، بمقالات كتبت في الصحف الأميركية والغربية، وبكتب صدرت عن كتاب أميركيون ليس من السهولة التشكيك بهم.

    - قد يبدو غريبا للوهلة الأولى الرأي الذي يذهب إليه البعض من أن القيادات الكردية لم ترغب في الانفصال قبل قبض ثمن معاناتهم التي دامت عقوداً، وكذلك اهمال تنمية الإقليم.

    - الرأي الآخر يذهب إلى أن أكثر من استفاد من الوضع الجديد الذي سببه السقوط هم الكرد، فقد شاركوا بحكم العراق من خلال تمثيلهم في البرلمان حسب نسبة عددهم من سكان العراق، وحصلوا على مواقع مهمة في تشكيلة الحكم كرئاسة الجمهورية، ووزارات يطلق عليها تسمية سيادية، في الوقت الذي حصلوا فيه على برلمان مستقل (برلمان الإقليم)، ونسبة وازنة من الميزانية.  أصبحوا بحكم واقع السنوات التي سبقت السقوط مستقلين في إدارة شؤونهم.  وصل الأمر إلى حد أن الجيش والقوات الأمنية مُنعت، وما زالت تُمنع، من الوصول إلى الإقليم... ونتيجة لهذا فقد غُض النظر عن تحقيق الحلم القومي ولو مؤقتا.

    ما العوامل المستجدة التي تجعل رئيس الإقليم يرغب بتحقيق الحلم القومي؟ وهذا سؤال آخر يُطرح أمام المحللين.  ما بين عامي 2003 وعامنا الحالي كانت فترات التوتر والخلاف بين المركز والاقليم أطول من فترات الوفاق والاتفاق، لكن لم يطرح موضوع (الاستقلال) إلا كورقة ضغط لتحقيق مكاسب إضافية، وكابتزاز كما يحلو للبعض وصفه.

    في ظل الرفض شبه التام للاستفتاء، ورغم كل المساعي التي تبذل إقليميا ودوليا لثني رئيس الإقليم عن قراره، أو حتى تأجيله، يبدو الرجل مصرا لا بل مندفعا لأقصى الحدود وكأنه غير عابئ بالنتائج المترتبة على هذه الرفض، ويدفع بالأمر ليس إلى حافة الهاوية فقط، وإنما للهاوية نفسها. ومن غير المفهوم حجم الاستفزازات التي تمارس من مثل الإصرار على شمول كركوك والمناطق المختلطة بالاستفتاء في ظل رفض المكونات غير الكردية فيها، أو رفع إعلام إسرائيل في التجمعات المؤيدة، كون إسرائيل على لسان مسؤوليها أيدوا استقلال الإقليم.  وعلى فرض أن استقلال كردستان قد تم وبدون إشكالات، فهل من المنطقي أن يعادي الكرد من يجاوروهم من عرب وفرس وأتراك، ويصادقوا من هو بعيد عنهم كإسرائيل؟

    بعيدا عن الإعلام، تُصرّح بعض الشخصيات الكردية أن رئيس الإقليم محكوم بهاجس تحقيق الحلم القومي بإنشاء دولة كردستان في عهده.  من منطلق إنساني بحت، معظم الزعماء يخضعون في لحظة ما لرغبة أن يسجل التأريخ اسماءهم، وقد سعى الكثير منهم لذلك، ولكن كم واحد منهم كُتب اسمه بأحرف من ذهب وكم منهم بأحرف من فحم؟ وكم منهم يذكره شعبه بإجلال وإكبار وامتنان، وكم منهم يُلعن؟

    خلال وبعد تحرير الموصل، طرح سؤال "ماذا بعد داعش؟" الذي يحمل، فيما يحمله، الخوف من المستقبل بعد تحرير الأراضي التي احتلت من قبل هذا التنظيم. هذا الخوف مرده القناعة السائدة من أن هناك نوايا مقرونة بأفعال ملموسة على الأرض لقوى إقليمية ليبقى العراق ضعيفا ولا يستطيع النهوض من خلال إغراقه بحروب داخلية.  لذلك هناك تخوف، وهو مشروع، بأن بديلا عن داعش سيهب على وجه الأرض لتستمر عملية الكر والفر بين القوى الأمنية وهذه التنظيمات لاستنزاف موارد العراق البشرية والمادية.

    من المؤسف حقا أن يبدو رئيس الإقليم مسعود البارزاني والقوة العسكرية الكردية (البيشمركة) هو هذا البديل.  هذا ما بدأ يروج له البعض بحسن نية أو عن قصد.  نتائج الاستفتاء تحمل في طياتها خطورة المواجهة العسكرية بين المركز والاقليم، خاصة وأن لغة التهديد بين الطرفين باتت واضحة وصريحة في ظل إجماع إقليمي وعربي وشبه عالمي على رفض اجراء الاستفتاء.

    ماذا سيترتب عن استقلال كردستان عن العراق؟ هذا السؤال مرهون أولا بإجراء الاستفتاء، ولحد الساعة ليس من دلائل عملية على عدم إتمامه، مع الأخذ بنظر الاعتبار مفاجئات الساعة الأخيرة. ومرهون ايضاً على نتيجة الاستفتاء، والذي بإمكان المرء القول إن النتيجة ستكون بـ "نعم" للاستقلال وبنسبة معتبرة لأسباب عاطفية.

    إيران وتركيا جادتان في الوقوف ضد الدولة الوليدة (دولة كردستان)، وستفعلان ما بوسعهما لوأدها بالحصار وغلق الحدود، وبالعمل العسكري المباشر على الأقل بالنسبة لتركيا، لأن هذا الأمر سيفتح عليهما بابا هما في غنى عن فتحه. كلتاهما تضم أعدادا كبيرة من الكرد (تقريبا 7% من سكان إيران و20% من سكان تركيا) وهذا يعني ان هؤلاء أيضاً ستنتعش آمالهم بالحصول عن كيان مستقل وهذا غير مقبول لكلتا الدولتين.  وتركيا لديها سبب إضافي ألا وهو التزامها بحماية تركمان العراق في كركوك وغيرها.  سوريا هي الأخرى لن تقبل بهذا الوضع الجديد، وستنضم لإيران وتركيا حالما تنتهي أزمتها. أما العراق فسيكون الخاسر الأكبر بفقدانه نفط الشمال.  حتى لو لم تتخذ الحكومة المركزية أي إجراء اقتصادي أو عسكري، فإن الأعراق غير الكردية في المناطق المختلطة، على الأقل، واقعيا ستقف بوجه الدولة الناشئة، بدعم وتحريض دول الجوار المتضررة.

    أحد المحللين الكرد، وعلى إحدى الفضائيات، قال، "الاستفتاء لا يعني الانفصال عن العراق"! إن كان هذا الرأي يمثل رأي القيادة الكردية وليس رأيا شخصياً تبريرياً، فهل يعني أن مثل هذه الخطوة هي مجرد (لعبة) غير مفهومة؟ أم ترى هي ورقة ضغط يريد بها رئيس الإقليم المساومة على مطالب تراها بغداد غير قابلة للتنفيذ؟ وعلى فرض أن بغداد سترفض أي مطالب غير محقة، اليس على رئيس الإقليم أن يمضي قدما في الاستقلال؟ وإن كان كذلك، فمن أين سيأتي بالدعم للدولة المستحدثة؟

    يفترض بالزعماء (الحكماء) أن يتعلموا من أخطائهم وأخطاء غيرهم.  إن كان القادة الكرد وعلى رأسهم رئيس الإقليم يعولون على دعم الولايات المتحدة كما فعلوا منذ بداية التسعينات ولحد الآن فعليهم أن يعوا أن الولايات المتحدة دولة واقعية (براغماتية) مصلحتها قبل أي اعتبار آخر، وأنها لا تتوانى عن التخلي، وبسهولة، عمن يعتبر نفسه أقرب حلفاءها في لحظة زمنية، والشواهد أكثر من أن تعد.  وقد عانت الحركة الكردية نفسها في منتصف السبعينات من خذلان شاه إيران لها ومن خلفه الولايات المتحدة بعد توقيع اتفاقية الجزائر. أما إذا عوّل البعض على الدعم الإسرائيلي، فالواقع أن إسرائيل لن تستطيع أن تقدم أكثر من الدعم المعنوي. هي لا تملك حدوداً مع كردستان، والأجواء مغلقة امام طيرانها.

    الملاحظ أن المواطن العراقي خارج الإقليم، غير مكترث إلى حد ما بالاستفتاء لأنه، ببساطة، له أولوية مجابهة الوضع المعيشي، ومعاناته من تدني الخدمات على مختلف الصعد، ولربما يفضل رجل الشارع البسيط أن يذهب الكرد في طريقهم للانفصال ليتخلص باقي العراق من المطالب الغير قابلة للتنفيذ، ومن التوتر الدائم الذي عاق المسيرة السياسية المتعثرة أصلا.

    وأخيرا، هناك اعتراض لا يمكن اغفاله من قبل تنظيمات كردية، ولو أنها لا تمثل اغلبية. هذا الاعتراض بالأساس هو ضد أسلوب إدارة الإقليم، وتعتبر أن التراجع الذي حصل في الإقليم بعد الطفرة التي بانت واضحة في السنوات التي تلت عام 2003 جزء منه كان بسبب التعنت في التعامل مع المركز، وعدم إيجاد صيغة تفاهم تسهم في حل المشاكل. المعترضون يرون الانفصال في هذا الوقت سيكرس، لا محالة، من النهج المتبع في إدارة الإقليم. كما وسيجعل من مسعود البارزاني بطلا قوميا غير قابل للمس. فهل يا ترى هذا ما يسعى إليه الرجل؟

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media