ثلاثية في الدولة القومية الكردية، 1. القضية الكردية الى اين؟ الحل اليوغسلافي ام الطلاق الجيوكوسلوفاكي ام التعاون العراقي؟!
    الجمعة 22 سبتمبر / أيلول 2017 - 04:44
    د. باسم سيفي
    معد ومحرر مجلة قضايا ستراتيجية
    من العجيب والمؤسف ان تتمكن نخبة فاسدة، بقيادة رئيس دونكشوتي ومنتهي الصلاحية منذ سنتين، أساءت في ادارة اقليم كردستان وموارده وخلقت مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية للشعب الكردي في العراق وللامة العراقية بكافة مكوناتها، ان تخدع هذا الشعب في فكرة الدولة القومية التي انتهى زمنها ومنذ عقود مع فشل المشاريع القومية وتقدم العولمة وفكرة دولة المواطنة والمساواة بين المكونات والاثنيات والمناطق، التي تحقق الامان والعيش الكريم لكافة مواطنيها حاليا ومستقبلا وليس لطبقة النخبة فقط. ومن المؤسف ان يحدث هذا رغم ان كرد العراق يفترض بهم ان يرثوا الفطنة والشيمة والروح العراقية التي بدأت تفعل فعلها في نهضة العراق بعد نكسة انحطاط دكتاتورية وديمقراطية امتدت لخمسة عقود ونيف لم تذق خلالها شعوب الامة العراقية الامان ولا الرفاهية رغم امكانياتهم العظيمة في الموارد الطبيعية والبشرية.

    ابدأ هذه الثلاثية ونحن فيما يبدو على مشارف حرب عراقية كردية اتوقع وآمل ان تكون سريعة ويخسر فيها الكرد اكثر من المكونات العراقية الاخرى بسبب تعنت قادة كرد العراق وعدم تمكنهم من وضع سياسات ورؤى واقعية تتماشى مع التغيرات العراقية والشرق اوسطية والدولية، بمقالة نشرتها قبل حوالي خمسة سنوات الكترونيا وطباعة ورقية في مجلة "قضايا سنراتيجية، عدد 2/2013"، بعد اجراء بعض التنقيحات، نظرا لاهميتها باعتقادي في شرح الخيارات الممكنة في حل القضية الكردية.

    1. القضية الكردية الى أين؟ الحل اليوغسلافي ام الطلاق الجيكوسلوفاكي ام التعاون العراقي؟! 
    كان يا ماكان، كان في حديث الزمان ثلاثة دببة الابيض والاسود والاسمر يعيشون متجاورين في مد وجزر من التفاهم والشجار والمحبة والكره وبينهم ذئب يدين بدينهم ويأكل من هنا وهناك وما يسمح له من المستضعفين. وفي يوم جائتهم دبة كبيرة من الشمال تدعي الحكمة والحكمة منها براء فقالت لهم: "انا ليس لدي اصدقاء ولا اعداء دائمون بل مصالح دائمة" فأُعجبوا بهذا القول واعتصموا به ونسوا قلبهم ودينهم وتوجهوا الى مصالحهم الضيقة وعلى حساب الاخرين، فما ان مرض الدب الاسمر حتى قطع الدب الابيض والاسود الماء عنه رغم انهم يعلمون بان لا حياة له بدون الماء. حتى الذئب اصابته لوثة المصلحة الانانية وراح يتعاون مع الدب الابيض ضد الدب الاسمر وينهش منه رغم ان الاخير احبه واعطاه ضعف ما تعطي الدببة الاخرى لاخوانه. صبر الدب الاسمر على عدوان جيرانه وافشل محاولاتهم لابقائه عاجزا حيث جائه نداء من التاريخ ونظرائه في الخلق يقول بالمحبة والتعاون والعدل فكان ان تقوى وصرخ "لا للظلم والانانية ولن نكسب الحق في الباطل" فجاء الصدى من اركان الارض "نعم للعدل والتعاون ولن نكسب الحياة بالنفاق". فسمعت الدببة ذلك واصغت وعادت والذئب الى رشدهم وعاش الجميع في سلام ومودة وتعاون واستمر الرافدين يجريان كما تعودى منذ ألفيات.

    العراق ومنذ انقلاب شباط عام 1963 خسر خمسة عقود من التنمية التي كان بامكانها وضع المواطن العراقي في مستوى المعيشة والتحضر بين مواطني الدول المتقدمة بل وحتى في مقدمتهم بسبب ارثنا الثقافي ومواردنا الطبيعية والبشرية. في اربعة عقود من حكم الفكر القومي العربي ارواح كثيرة ازهقت ونفوس عظيمة خربت ومياه فرات اهدرت ونفط كثير احرق وحرق معه الزراعة والصناعة، فهل سيجلب الفكر القومي الكردي خيرا للشعب الكردي او العراقي؟ وفي العقد الخامس جاءتنا مقاومة شريفة وعاهرة ضد المحتل الامريكي ولكنها اعطتنا اقتتال وتوتر بين السنة والشيعة واجبرت وتجبر الدولة على صرف الترليونات على القوات الامنية بدلا من صرفها على تطوير وحماية الزراعة والصناعة العراقية. مع الاسف يبدو باننا سنخسر عقدا آخر او عقود اخرى بفضل حرب اهلية وسخة بين العرب والاكراد يريدها الاوغاد والمصلحيون ومجانين السلطة والجاه ليكتمل تحويل المجتمع العراقي الى مجتمع استهلاكي متقاعس ويجتر الجيفة. لذا اراني مضطرا ان اكتب في القضية الكردية وآمل ان يتقدمني في ذلك المثقفون العراقيون وبالاخص الكرد منهم كل حسب اختصاصه او اختصاصها وعسى ان يساهم ذلك في تجنب كارثة الحرب هذه.

    عان الاكراد من اضطهاد الحكومات العراقية مثل بقية المكونات العراقية واحيانا بدرجة اكبر ومع سقوط الديكتاتورية حصل اكراد العراق على امتيازات كبيرة لم يحصل على نصفها اكراد ايران وتركيا وسوريا. كردستان العراق حصلت على امتيازات لم تحصل على مثلها اي اقلية في العالم الديمقراطي فهم عمليا مستقلون ولكنهم يشاركون في الحكومة الاتحادية ويأخذون نسبة من مواردها. مع تراجع الارهاب والعنف الطائفي بين السنة والشيعة بدأ العرب العراقيون وهم يشكلون اربعة اخماس سكان العراق الفدرالي التساؤل عن اسس وخلفية هذه الامتيازات ورفض اعطاءها خاصة وان بعضها سيادية وتضر بمصالح العراق وحتى الشعب الكردي من ناحية حصص شراكة وامتيازات كبيرة لشركات النفط وانعدام الشفافية في الموارد والحسابات.
    هذا الوضع لا يمكن ان يقبله العرب العراقيون ولا بد ان يتجه نحو الحرب الاهلية ونتائجه البشعة (الحل اليوغسلافي) او التقسيم المتحضر واستقلال اكراد العراق (الطلاق الجيكوسلوفاكي) او بناء دولة المواطنة (التعاون العراقي) فيها يتساوى الكرد مع المكونات الاخرى في كافة الحقوق والواجبات.

    مع انتهاء عام 2012 وتقادم عام 2013 نلاحظ صراعا متصاعدا بين السيد نوري المالكي والسيد مسعود البرزاني او بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان المدعومة بشكل واضح ولاسباب مشبوهة من قبل الحكومة التركية. من المؤسف ان لا نسمع اصوات "التقدميين" النقدية لسياسة الاقليم المصلحية واصوات المثقفين والسياسيين الاكراد اصبحت تسمع على قاعدة "انصر أخاك ظالماً او مظلوماً". ففي مشكلة العقود النفطية مثلا اصبحوا يؤيدون وبشكل جماعي موقف وتفسير حكومة كردستان رغم انه مجحف بحق العراق حاليا وحق الشعب الكردي مستقبلا، لانه يقود الى فوضى انتاجية لصالح الشركات الاجنبية والفاسدين ويعطي حصة كبيرة من نفط كردستان او العراق الى شركات النفط العالمية، علما بأنه لا يمكن لعاقل ان يفسر الدستور العراقي في مادته الواضحة بأن النفط ملك لكل الشعب العراقي بأنه يعني حق كل اقليم ومحافظة (وقضاء وناحية وعشيرة يوجد تحت ارضها حقل نفطي) بالتصرف بالنفط الموجود في اراضيها وادارة استثماره، بضمنها توقيع الاتفاقيات.

    يحاول الكثيرون فهم عداء الحكومة التركية الحالي لحكومة العراق رغم ان الاخيرة فتحت باب التجارة والتعاون الاقتصادي للاولى وشركاتها واخذ حجم التبادل الاقتصادي يضرب ارقام قياسية متتابعة. فمنهم من يؤكد العامل المذهبي حيث ان تركيا السنية تعتقد بان سنة العراق مضطهدون من قبل حكومة العراق الشيعية، رغم سواد المشاركة والمحاصصة في كافة مفاصل الدولة حسب التمثيل النسبي، وعلى تركيا التدخل وحماية سنة العراق من الشيعة (الصفويين) مثل ما كان اجدادهم يفعلون لقرون مضت ايام كان العراق مسرحا لمعارك الدولة العثمانية والدولة الصفوية وما جروه على العراق من تفرقة حتى بين اقرب مذهبين في الاسلام، الشيعة وهم اهل الاجتهاد والحنفية وهم اهل الرأي، ولا اعرف فرقا كبيرا في معنى الاجتهاد والرأي فكلاهما يشير الى ضرورة استخدام العقل وابداء الرأي في الظروف المستجدة في المكان والزمان حيث لا يكفي النص.

    وهناك من يرى بأن الاتراك يطمحون لاستعادت امجاد الدولة العثمانية وسيطرتهم على مناطق واسعة شملت معظم البلدان العربية، لذا فان اوردغان يرى بان المالكي يقف في وجه تنفيذ طموحاته ليكون سلطان السلاطين. بصراحة لا افهم بالضبط معنى امجاد الدولة العثمانية وهي التي سميت بالرجل المريض وكانت تعيش على اخذ الضرائب والجزية من شعوب البلدان التي احتلتها واقترفت جرائم بشعة بحق المسيحيين، فأي شرف هذا؟ وهناك ايضا من يعتقد بأن الاتراك يرغبون بالسيطرة على حقول نفطية مهمة في كردستان العراق وحوالي الموصل من خلال خداع او شراء قادة اكراد وموصليين لهم مطامع شخصية وعائلية كبيرة ومن الضروري دعمهم وحمايتهم من حكومة بغداد.

    ارى وجود عاملين مهمين في الموضوع يستحقان التمعن والدراسة والتصرف على ضوئهما خاصة وهناك حاجة لصحوة القوى الديمقراطية والتقدمية والعلمانية الانسانية لترى ما يجري من مؤامرات على تجربة العراق في بناء ديمقراطيته التعددية واقتصاده المنهك. العامل الاول هو طموح تركيا للاستحواذ على مياه دجلة مثلما استحوذت على الكثير من مياه الفرات بالرغم من عدم سماح القوانين والاعراف الدولية في ذلك. العامل الثاني هو شيوع ثقافة المصلحة الانانية والغاية تبرر الوسيلة في عالمنا الشرق اوسطي فكان ان استغلت الحكومات التركية انشغال العراق بالمشاكل والحروب ليبنوا العشرات من السدود على الفرات ويحولون ملايين من الدونمات الى زراعة اروائية. جلب المشاكل للعراق الان سيتيح لهم فعل شيء مشابه على دجلة وبنفس الوقت يمنع من نهوض العراق وبالاخص في الزراعة والصناعة ليستمر ان يكون سوقا للمنتجات التركية.

    ثبات ونجاح العراق في بناء ديمقراطيته التعددية وفي تبني التعاون والعطاء والعدل سيكون له تبعات مهمة على بلدان شرق المتوسط بسبب امكانيات العراق الكبيرة في الموارد الطبيعية والبشرية. فليس مستبعدا ان نرى خلال هذا العقد او العقد الذي يليه تقارب وتعاون واسع بين ايران وتركيا والعراق في كافة المجالات تفرضه تغير في العقلية السائدة من تأكيد المصالح الضيقة الى تأكيد المصالح المشتركة ومجابهة التحديات بالتعاون سواء كانت جيوسياسية او اقتصادية وسوق مشتركة او ادارة افضل للموارد الطبيعية خاصة مع مشكلة التغيرات المناخية. مخطأ من يتصور بأن مثل هذا التعاون سيكون ضد مصالح البلدان والشعوب الاخرى. فلم تسبب السوق الاوروبية المشتركة ثم الاتحاد الاوروبي في المحصلة العامة اضرار للشعوب بل افادتهم وانعشت الاقتصاد العالمي والتوجهات الانسانية. وفي تطور مشابه نرى تقارب وتعاون الدول الافريقية والدول الاسيوية وايضا بلدان امريكا الجنوبية يجلب فوائد متعددة لشعوب هذه البلدان والعالم اجمع. فالتعاون الستراتيجي الموسع بين دول شرق المتوسط يمكن ان ينفع شعوب المنطقة من حيث الاقتصاد والمساواة وقدر اكبر من الحرية والتنمية وايضا شعوب العالم من خلال تنشيط الاقتصاد العالمي وحوار الحضارات وبناء الجسور بين اسيا واوروبا.

    هذا التطور يمكن ان ينفع او يضرالقضية الكردية في هذه البلدان بدرجة كبيرة حسب خيارات قادة ومثقفي الكرد بين المواجهة والصراع والمصالح الضيقة وبين التعاون مع شعوب المنطقة للحصول على حقوقهم المشروعة والتركيز على رفاهية الانسان اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بغض النظر عن اصوله الاثنية ومعتقداته. خلال القرن العشرين كان نضال الشعب الكردي في العراق جزء من نضال الشعب العراقي بكافة مكوناته وهذا اعطى اهم مكسب واساس اعطاء الحقوق المشروعة وهو دعم الشعب العراقي لكرد العراق والذي بدأ يتصدع في السنوات الاخيرة بسبب سياسات حكومة الاقليم المصلحية والاستفزازية واكبر الخاسرين في ذلك هو الكرد انفسهم وبالاخص على المدى المتوسط والبعيد. لذا على قادة الكرد ومثقفيه ان يدرسوا ويناقشوا هذا الامر الخطير اذا كانت مصلحة وحقوق الانسان الكردي على المدى البعيد هو الهدف.

    سياسيي ومثقفي كرد العراق يواجهون اليوم مهمة صعبة في قيادة الشعب الكردي في العراق نحو خيار الحل اليوغسلافي ام الجيكوسلوفاكي ام العراقي. الحل الاول لن يجلب الفوائد لاحد سوى تجار الحروب وابطال الخرافات الذين لا يهمهم ما يحل بالاخرين من مئاسي ولكنه سيجلب المعانات والمصائب لاعداد كبيرة من الكرد والعرب والتركمان والسريان وغيرهم من مكونات المنطقة، لنعي جيدا تحول ام المعارك الى ام المهالك وكيف فقدنا اربعة عقود من التنمية لصالح تطلعات قومية بائسة. الحل الثاني بالتأكيد افضل من الحل الاول ولكنه لا يخلو من مشاكل متعددة منها ما هو متعلق بتقسيم المناطق المختلطة واثبات عائديتها حاليا وتاريخيا ومنها ما هو متعلق بهجرة او تهجير بعض المكونات او عيشها تحت سقف لا ترغب به واخرى متعلقة بالقضايا الاقتصادية حيث ان ايرادات منطقة كردستان العراق النفطية محدودة وحاليا يعتمد الاقليم بدرجة كبيرة على الحصة التي يحصل عليها من الميزانية الاتحادية.

    الحل الثالث وهو المواطنة في دولة العراق على اساس التساوي الكامل في الحقوق والواجبات بين مكونات واطياف الشعب العراقي يستحق اكثر من وقفة جادة من قبل الشعب الكردي في العراق لانه يقدم الحل الامثل للقضية الكردية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية وحتى مساعدة اكراد تركيا وايران وسوريا للحصول تدريجيا وبشكل سلمي على حقوق مشروعة متزايدة وصولا حتى الى الدولة الكردية اذا رغب الكرد في ذلك ونضجت الظروف المحيطة من حيث الوعي والتطور الاقتصادي والاجتماعي. اساس هذا الحل هو الانسان ورفاهيته الاقتصادية والاجتماعية في العراق اولا وفي بلدان شرق المتوسط ثانيا. تاريخ العراق هو تاريخ الأُلفة بين مكوناته وعدم الغاء الآخر المختلف فرغم الاضطهادات المختلفة دخلنا القرن العشرين وفي العراق العشرات من المكونات المختلفة والمتشابكة في اللغة والدين والمذهب. ظاهرة الغاء الاخر مثل ما حدث لمسيحيي شمال العراق وجنوب تركيا وما حدث لليهود العراقيين هي ظاهرة حديثة نسبيا في العراق ومرتبطة بالفكر القومي والتعصب الديني والقومي وايضا المصالح والتدخلات الخارجية.

    المشكلة الاساسية التي تعيق هذا التطور نحو دولة المواطنة هي هيمنة الهوية المذهبية لدى العرب والهوية القومية لدى الكرد وكلاهما يمكن ان يتراجعا بسهولة اذا كفت الايادي الاجنبية من التدخل بالشؤون العراقية ولم يسمح للاقلية المتطرفة في مكون الشيعة والسنة والكرد من السيطرة على المكون. تعزيز الهوية الوطنية على حساب الهويات الاخرى يسمح بدرجة اكبر مما هو سائد الان بتعاون المكونات المختلفة وحماية وتحقيق المصالح المشتركة وبالاخص من خلال ظهور وتزايد دور طبقات المجتمع المنتجة من عمال ومزارعين ورأسمالية صناعية وطنية تسمح تحالفاتهم باستخدام موارد النفط والغاز لتحويل المجتمع العراقي من مجتمع استهلاكي يستورد رفاهيته ويستنفذ موارده ويدهور بيئته الطبيعية الى مجتمع منتج ومستدام.

    منذ القدم كانت بلاد الرافدين كبيئات طبيعية وشعوب المستفيد الاكبر من مياه دجلة والفرات وروافدهما. في الحقيقة يرى كثير من علماء التاريخ والآثار ومنهم الفرنسي راو في كتابه "العراق القديم" بوجود وحدة جغرافية ثقافية في مثلث ركنه الايمن بحيرة اورمية وركنه الغربي في حلب وركنه الجنوبي في مصب النهرين او شط العرب قبل التاريخ الميلادي بألفيات. الوحدة الجغرافية تنبع من كون المثلث يحوي وديان وسهول النهرين التوأمين دجلة والفرات، والوحدة الثقافية تنبع من وجود مشتركات عديدة بين الشعوب التي تقطن المنطقة في الفخار والادب والكتابة والزراعة وحتى الوحدة السياسية في زمن الاكديين والبابليين والاشوريين.

    سياسات اقليم كردستان الحالية في النفط والغاز، الامن الوطني والسيطرة الحدودية، المالية والموارد، وفي شراء الولاءات والذمم تدفع العراق نحو الحل اليوغسلافي وفيه سيخسر الشعب الكردي اكثر من مكونات العراق الاخرى اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا حيث ان الظروف الاقليمية والدولية لن تساندهم في تحقيق نصر على العراق واستقطاع اراضيه التي يعتقد قادة الاقليم بأنها كردية. ان السند الحقيقي لحقوق الشعب الكردي المشروعة هو الشعب العراقي اما سند شركات النفط والحكومات التركية والاسرائلية والقطرية والسعودية فما هو إلا مصالح وقتية تدفع الكرد نحو التهلكة من اجل ابقاء العراق في دوامة المشاكل ومنعه من بناء اقتصاده الانتاجي ومجتمعه الديمقراطي ومن ادارة موارده وبالاخص النفطية والمائية بشكل جيد ووفق القوانين والاعراف الدولية، وما على مثقفي وقادة كرد العراق إلا ان يقرأوا الاوضاع بشكل صحيح وان يكبحوا الغلو القومي فهو يعمي البصيرة وآمل ان لا يقطعوا الغصن الذي يدعمهم. 

    على قادة ومثقفي المكونات العراقية وبالاخص الكرد منهم مناقشة وتحديد الطريق الذي سيأخذه العراق ومكونه الكردي وفي هذا آمل ان يفكروا بالحقائق (او الاصح ما اعتقده بأنه حقائق وقد اكون مخطأ هنا او هناك وبدرجة ما) التالية:

    اولا، بعد قرون من الصراع والحروب في اوروبا (بضمنها حربين عالميتين) تمكنت المكونات الاوروبية في تشكيل دولها القومية المستقرة بثمن باهض. منذ ستينات القرن الماضي وشعوب هذه الدول تنظر الى مصالحها المشتركة وترفع الحدود بسماح التنقل الحر للبضائع والرأسمال والبشر وتتنازل عن سيادتها في مجالات عديدة لصالح العام المشترك الى درجة تأسيس الاتحاد الاوروبي. فهل تستحق الدولة القومية التضحيات بالناس وبمعيشتهم وباقتصاد البلد من خلال استقلال يكسب بالحرب والدمار ليترك طواعية بعد عقود؟

    ثانيا، في كل ملة وقوم يوجد الطالح والصالح والسافل والملائكة والارعن والحكيم ولا يمكن ان نحمل قوم وزر مجرميهم اتجاه الاقوام الاخرى ونصرخ بالمظلومية. من اضطهد اكراد وشيعة العراق ليس سنة العراق بل حكومة او حكومات جائرة يكثر فيها من السنة ولكن فيها شيعة وكرد ومسيحيين. ألا يكفي ما رأيناه من قادة وسياسيين مرضى بحب السلطة والجاه والمال الحرام يستغلون البسطاء والسذج باسم القومية والمظلومية؟ عندما تختار المكونات ممثليهم في الادارات المحلية والمحافظات ومجلس النواب والوزراء والقضاء يصبح من الصعب اثبات تهميش مكون ما.

    ثالثا، تجربة الفكر القومي الالماني وما جلبه من مصائب على المانيا واوروبا والعالم وتجربة الفكر القومي العربي وما جلبه من دمار وتخلف على الشعوب العربية تشير الى وضع علامات استفهام على الفكر القومي وما يفرزه من تطرف وقصر نظر في السياسات وتنافر وكراهية بين الشعوب وتشنج وهستريا لدى الافراد. كما وان الفكر القومي كثيرا ما ينزلق الى العنصرية المقيتة والتي هي الان ممنوعة في الشرائع الدولية وكل دساتير العالم. يبدو ان امراض الفكر القومي تنتشر وبقوة في هذه الايام بين اوساط وقيادات الشعب الكردي وقد نرى ظهور حزب البعث الكردي الاشتراكي (اوالديمقراطي !) يقود كردستان الى الصراع مع شعوب المنطقة والدمار بدلا من الحوار والبناء التدريجي.

    رابعا، لقد عانى الاكراد والسريان تاريخيا من هيمنة العرب والاتراك والفرس على المنطقة ولكنهم لم يُضطهدوا الى حد الالغاء خاصة وان الكرد اصبحوا بغالبيتهم مسلمين مثل الفرس والاتراك واصبح كثير منهم جزءاً فعالا في ماكنة اضطهاد المسيحيين. كثيرا من القرى الكردية والعربية حاليا كانت سريانية او مسيحية تاريخيا. ان هذا يعني بالتحليل العميق بأن مناطحة شعوب المنطقة لن يؤدي الى مكاسب مضمونة على المدى البعيد ولكن ما يؤدى الى ذلك هو الحوار والمطالبة السلمية لحقوق عادلة.

    خامسا، لقد فهم السيد مسعود البرزاني خطأ القيادة الكردية بزعامة والده في مناهضة حكومة عبد الكريم قاسم الوطنية وفهم ايضا اهمية عرب العراق في نصرة الكرد وحقوقهم، ولكن مع الاسف توقف ولم يعبر الى دعم دولة المواطنة العراقية فيها يجب وضع سياسات مشتركة في المساوات والعدل، المالية والاقتصاد، الامن والدفاع، والعلاقات الخارجية وادارة المنافذ الحدودية، وفي ادارة الموارد الطبيعية، ولم يفهم استحالة استمرار حصول اكراد العراق بشكل شرعي وغير شرعي على امتيازات تفوق ما يحصل عليه عرب العراق وغيرهم مهما برعت حكومة الاقليم في السياسة والابتزاز والتحالفات وشراء الدعم والذمم. سياسة نوافق اذا اعطيتونا كذا وكذا قميئة وانتهازية ولا تنفع الكرد او اي مكون على المدى البعيد.

    سادسا، زمن الملوك والعسكر والدكتاتورية قد ولى، نأمل بدون رجعة، من تركيا وايران والعراق ومن يحكم في هذه الدول الان مجالس تشريعية وحكومات منتخبة قابلة للتغيير وتعطي قدرا اكبر من الحرية والمساواة العامة والمطالب المشروعة لحقوق الاقليات المشروعة. هذه الدول مرشحة الان لتكون مجتمعات صناعية ومتقدمة تقودها ثقافة الحوار والمواطنة، فهل هناك ضرورة للعمل المسلح لتلبية الحقوق المشروعة اذا كان بالامكان تلبيتها سلميا وتدريجيا عن طريق الحوار والتفاهم مع الشعوب المحيطة.

    سابعا، لعنة النفط اصابت وتصيب الان اقليم كردستان رغم انها لا تحوي ولا تنتج كميات كبيرة من النفط وحاليا تمول الدولة الاتحادية من خلال حصة الاقليم 70 - 90% من ميزانية حكومة الاقليم وصرفياتها المعلنة وغير المعلنة. كما وان كميات النفط الموجودة في كردستان قليلة رغم سياسة السري للغاية التي ورثها الاقليم لخلق ضبابية حول الحسابات والاحتياطيات ولكن توجد كميات لا بأس بها في المناطق المتنازع عليها وبالاخص كركوك ومحيطها.

    وثامنا، رغم دعم الحكومة التركية وامراء قطر والسعودية الانتهازي لحكومة الاقليم فان الظروف الجيوسياسية والاستراتيجية الغربية ليست في صالح استقلال كردستان. فالسياسة الامريكية مثلا لا يمكنها التخلي عن العراق والقبول بتقسيمه لان ذلك متعلق بهيبتها وزيادة نفوذ ايران بالجزء الاهم من العراق نفطيا وتاريخيا. فمن غير المتوقع ان تساند الحكومة الامريكية شركة اكسون موبيل في الحفر في مناطق متنازع عليها بدون موافقة الجانب العراقي، ولا الحكومة التركية في اثارة المشاكل للعراق.

     بعد هذه الملاحظات التي يجب ان تقرأ بشكل صحيح من قبل كرد العراق نعود الى الخيارات الثلاثة اعلاه التي سيكون استبعاد الاول منها واختيار الثاني او الثالث من مسؤولية مثقفي وقادة المكونات العراقية وبالاخص الكردي لانهم الوحيدين القادرين على خفض سقف امتيازات ومطالب الشعب الكردي ولأن بامكانهم ان يعودوا امل العراقيين في المشاركة الفعالة في بناء دولة المواطنة الرافضة لاي تعسف ديني او سياسي او اجتماعي. لا يمكن استبعاد تأثير العامل الخارجي خاصة وهناك من الحكومات من هي مهددة من نجاح بناء العراق الديمقراطي التعددي ولديها من المال الكثير الذي يمكن ان تصرف منه بدون حساب ورقابة في افساد بعض المسؤولين والمثقفين، وهناك شركات اجنبية، وتابعين محليين، لا تسرها عقود النفط التي صاغتها ونجحت فيها الحكومة الاتحادية وتريد حصة من النفط وارباح اكبر، ولكن مع ذلك يبقى القرار مسؤولية العراقيين بكردهم.

    تجنب واستبعاد الحل الاول، الحرب الاهلية بين الكرد والعرب، يستوجب البدأ في مناقشة حل الطلاق المتحضر وحل دولة المواطنة والمساوات على كافة الاصعدة لتعرف شعوب الامة العراقية مضمون وتبعات كل منهما على المدى القريب والبعيد. من المؤسف ان تصل الامور الى درجة استقواء السيد مسعود البرزاني بشركة نفط امريكية متنفذة عالميا ولعبت دورا في الاطاحة بعدة حكومات وطنية ضد الجكومة الاتحادية العراقية بقوله: "شركة اكسون موبيل لها قوة تعادل عشرة فرق عسكرية واذا دخلت بلدا فلن تغادره". ليس هناك افضل من النقاش وطرح الحقائق والحجج في هدوء وبدون جعجعة السيوف وصياح الانتهازيين في مجابهة وتجنب الحلول العاطفية التي قد يندم عليها الافراد والمجتمع.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media