خصصة الكهرباء : اللاعدالة بلغة الارقام
    الأحد 14 يناير / كانون الثاني 2018 - 10:13
    أ. د. حسن خليل حسن
    أستاذ وباحث في جامعة البصرة/ مركز علوم البحار
             درجت الشعوب المسالمة على التحرك بإسلوب ردّة الفعل ضد تعسف حكوماتها، ولطالما كان الرد باهتاً وبخطوات متواضعة، لذا غالباً ما تُستغل ردة الفعل الضعيفة والغفلة عن ادراك حقائق الارقام الخاصة بثرواتها الوطنية تسليماً بفرضية تسخير تلك الثروات بما يتناسب مع الاحتياجات الاساسية للشعب، وهو ما لم يحدث في الحكومات المتعاقبة في العراق قديماً وحديثاً.

      وتعد الكهرباء من اهم مستلزمات الحياة المعاصرة للشعوب سواء في القرى او المدن، وقد  شكّلت هاجساً يوميا لدى العراقيين كونها تضررت كثيرا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بفعل الحروب المتلاحقة والتخريب المتعمّد من قبل اعداء الشعب العراقي، لذا تصدّر ملف اعادة كفاءة الشبكات الكهربائية اهتمام الحكومات واصبح على رأس اولوياتها وجاء ثانياً بعد الملف الامني، واصبح لساعات التزوّد بالكهرباء تأثير مباشر في حياة المواطن ومستوى رضاه عن اداء الحكومة، كما تربّعتْ الكهرباء على صدارة الانفاق الحكومي في الموازنات الاتحادية، بل اصبحت الكهرباء بعد العام 2003 تستنزف الارقام الكبرى من تخصيصات الخدمات الاجتماعية، واضحت الخدمة الابرز التي تظهر فيها الدولة كطرف اساسي بعد خدمة الامن، وقد تعاقبت عقود على تردي منظومة الطاقة الكهربائية رغم الانفاق الهائل والارقام الفلكية المُعلنة، بسبب ضعف الاهتمام بصفقات تطوير قطاع الكهرباء والفساد المستشري في القطاعات الحكومية وهي نتاج طبيعي للمحاصصة والمزايدات وضعف الكفاءة في ادارة هذا القطاع المهم.

     وفي الوقت الحاضر ظهرت بوادر تحسين نسبي في هذه المنظومة رافقها دعوات حكومية بضرورة وضع نظام استثمار جباية اجور صارم، وهو جزء من نظام ضريبي واسع طال كل الخدمات في العراق خلال الاعوام الثلاث الاخيرة، وربما كان الشعار الحكومي العريض هذه المرة حفظ موارد الثروة الوطنية ووقف الهدر اللامسؤول والتجاوزات الكبيرة على منظومة توزيع الكهرباء، وهو وان كان حاصلاً فبسبب ضعف السيطرة الحكومية وبروز واقع مليء بالفوضى.

    ولان الاجراءات المقترحة خاضعة لاجتهادات وآراء شخصية مبنية على عدم وضوح في قطاع الكهرباء فسنحاول تدقيق بعض الاحصاءات المتعلقة بملف الكهرباء ونضع رؤية لما يجري فيها.

      تقديرات الكهرباء المُنتجة محلياً:ـ 
        هنالك  ضبابية في حجم الانتاج الحقيقي للكهرباء، فبينما تتحدث  وزارة التخطيط عن ارقام فلكية تصل الى 63،000 ميجاواط(*) منذ العام 2013، بدأت التصريحات الحكومية بتقليل هذا الرقم خلال السنوات الاخيرة، وعلى العموم تشير آخر التصريحات الحكومية والتقديرات الفنية الى ان انتاج الكهرباء يتراوح ما بين (20،000 -14.500  - 11،000 – 7700 ميجاواط)  حيث كان آخر رقم حكومي معلن في نهاية 2017 مع الاعلان عن تطبيق مشروع الخصخصة هو 7،700 ميجاواط ، وهذا يشير اما لعدم المعرفة الدقيقة بحقيقة الثروة الوطنية والتخبط في ادارة هذا الملف الوطني الاستراتيجي،  او ان الارقام المعلنة رسمياً غير دقيقة وتخضع لتحكّم بعض الاطراف غير المحايدة. وسوف نعتمد في هذه المقالة الرقم الاقرب للواقع وهو 14.500  ميجاواط بالاستناد الى تصريح سابق لوزارة الكهرباء وتأكيدات من بعض الخبرات الفنية المحايدة من داخل العراق.

    تضارب حول تكلفة انتاج الكهرباء المنتجة محلياً:ـ 
              تكاليف توليد وتوزيع الكهرباء في العالم معلنة ويجري تحديثها باستمرار بينما يوجد تضارب كبير بهذا الشأن في العراق، فبينما تشير تصريحات وزارة الكهرباء العراقية ان سعر الكيلوواط/ساعة(*) يكلف الدولة (50دينار)، يشير التقرير الاحصائي لسنة 2015 لنفس الوزارة بأن سعر الكيلوواط/ساعة يكلف الدولة (106 دينار)، بينما اعتمدت الدولة مؤخرا على ان سعر الكيلوواط/ساعة يكلفها (154 دينار) أي (13 سنت) وهذا السعر الذي تم على ضوئه حساب التسعيرة الجديدة، وعلى اساسه تمت عقود الخصخصة، وقد ارتكزت الحكومة على ان الطاقة المنتجة من الكهرباء مقسّمة على نسب: 43%  من محطات التوليد في العراق غازية، و32%: محطات بخارية، و15%: مستوردة،  والنسبة المتبقية 10%  من محطات كهرومائية ومحطات ديزل ومحطات متنقلة وساندة، ولان وضع تلك النسب تغير حالياً في العام 2018 ، بالأخص من ناحية الكهرباء المستوردة، اعتمدنا على احدى الدراسات الفنية المحايدة (**) حول الموضوع التكلفة الحكومية والتي افترضناها  بحدود (26 دينار عراقي او2 سنت لإنتاج كيلوواط/ساعة (وهو رقم يخص توليد الكهرباء فقط (وهو مدار البحث هنا) ولا علاقة له بالمراحل اللاحقة، كما انه رقم مقارب لتكلفة الانتاج في العالم والدول المجاورة بالذات. 

    نصيب الاسرة العراقية من الكهرباء
    باعتماد ان ما يولّد من كهرباء محليا في العراق 14.500 ميجاواط/ساعة او 63.366.363.6 امبير ( بعد تحويل ارقام القدرة الى تيار كهربائي محسوب)، وبقسمة الطاقة المّولدة محلياً على  نفوس العراق البالغ 37 مليون  نسمة حسب آخر التقديرات السكانية للعام 2017 وباعتماد حجم العائلة 6.4 اشخاص(مستندة على دراسة علمية بهذا الخصوص)، يكون نصيب الأسرة الواحدة من الطاقة المنتجة محلياً 2.42 كيلو واط /ساعة ( 11 أمبير/ساعة)، وهنا نشير الى ان هذا  الرقم هو الحد الادنى المحسوب لحصة العائلة العراقية، اذ ان الاستهلاك المنزلي لا يتجاوز نسبة 60% من مجمل الطاقة المنتجة اذ ان 40% تُستهلك من قبل المؤسسات الحكومية والمصانع والقطاع الخاص (وهي ملزمة بالدفع بنسب مغيرة للاستهلاك المنزلي).  

    وبضرب اجمالي انتاج الكهرباء المحلية في الكلفة المقدّرة للكيلو واط الواحد26  دينار عراقي ( 2 سنت) تقريباً تكون التكلفة الاجمالية لتوليد الطاقة في العراق حوالي 2.540.400  دولار/سنة (3.175.500.000 دينار عراقي)،  وهذا الرقم متطابق تقريباً مع  قيمة الانفاق الحكومي المخصص لملف الكهرباء في الموازنة الاتحادية للعام 2018 البالغ اكثر من 3 ترليون دينار عراقي.

    حقائق ادق من التصريحات:
    وما يهمنا بعد نصيب الاسر من الكهرباء المنتجة محلياً هو الكلفة المترتبة على كل اسرة عراقية، حيث يتضح ان الرسوم الشهرية التي تكفي لتسديد كامل اجور توليد الكهرباء في العراق من قبل الاسر العراقية البالغ عددها 5.781.250 عائلة هي 19.85 دولار ( حوالي 25 الف دينار عراقي شهرياً) لكل أسرة  لتحضى ب (11 امبير مستمر لمدة شهر كامل)، بينما تريد الدولة وفق مشروع الخصخصة ان تستقطع مبلغ 35 الف دينار مقابل حق المواطن في خدمة ممولة من الموازنة..!!

      واذا اعترض احد على ان حساباتنا بُنيت على ارقام اجمالية لتوليد الطاقة فأننا نعي ذلك جيدا، فقد  استبعدنا  التحميلات الإدارية المترتبة على انتاج الطاقة التي تتذرع بها الحكومة، مع ان معظمها اجور موظفين ووقود وصيانة وجميعها ذات ابواب واسعة جدا في الموازنة الاتحادية، وهي من الامور التي لا دخل للمواطن بها كما انه غير مسؤول عن الطاقة الضائعة ولا طاقة الاستهلاك الداخلي).

    في الخصخصة المواطن سيدفع ثمن مدفوع سلفاً: 
     عند مقارنة مقدار الاتفاق الحكومي في آخر موازنة اتحادية على ملف الكهرباء حوالي 3 ترليون دينار عراقي تقريباً وعند محاولة معرفة كم يدفع المواطن جراء الحصول على نصيبه المُتاح من الكهرباء الوطنية (11  أمبير) وفقاً لنظام الجباية المقترح، يظهر ان الدولة ستجبي من الاسر العراقية ما مقداره 202.343 مليار دينار كأجور لكهرباء محلية تم تمويلها من الموازنة الاتحادية..!! فكيف يدفع المواطن اجور جباية لثروة وطنية تم تمويلها من الموازنة الاتحادية التي هي اموال الشعب، ونجيب على ذلك بأن هذا الرقم الكبير هو ربح خالص للشركات الاستثمارية من الكهرباء، وهو غير متعلق بتكلفة الانتاج المدفوعة سلفاً من الموازنة الاتحادية، وهذا اجحاف بحق المواطن في ظل نسبة فقر عالية ومعدلات غير مسبوقة من البطالة وغياب السيطرة الحكومية على الاسعار، ناهيك عن عدم وجود خطط لتوفير خدمات اجتماعية من عوائد هذه الارقام  التي ستضاف الى الميزانية الاتحادية من دون الاعلان عن رصد ابواب لإنفاقها..! بل ان معظمها سيذهب الى  شركات الجباية التي ستحقق الربح على حساب المواطن المغلوب على امره في ظل واقع انعدام الثقة بين المواطن والحكومة.

    استفتاء وزارة الكهرباء غير واقعي:ـ  
        من المؤسف ان نرى مخاطبات رسمية من وزارة الكهرباء موجهة لمؤسسات  حكومية خارج الوزارة تزعم انها نتائج استفتاء لموظفي الوزارة في عدد من احياء من بغداد، وان نسبة رضا موظفي وزارة الكهرباء عن مشروع الخصصة وصلت لأكثر من 87%!! الغريب ان نفس الوزارة قامت قبل اشهر قليلة بأخذ تعهدات من موظفيها في جميع المحافظات تلزمهم بقبول نظام الجباية على انفسهم كشرط لاستلام الراتب الشهري !!  هؤلاء يذكروني بحكم البعث ونتائج الاستفتاء الشعبي التي بلغت نسبة 99،9% واستفتاء كردستان الذي قاده مسعود برزاني بنسبة قبول شعبي تجاوزت 92% .

           خلاصة القول ان الكهرباء العراقية الوطنية تولّد محلياً وتموّل عمليات الانتاج والتوزيع والخدمات والصيانة من الموازنة الاتحادية التي هي ملك الشعب العراقي، ولا يمكن للحكومة ان تستثمر اموال وطنية في فرض ضرائب اخرى  مقابل استمرار التيار الكهربائي، الذي تبيّن انه يمكن ان يكون مستمراً وفق التقدير السكاني والطاقة الانتاجية الحالية وبوتيرة افضل مما هو عليه الان، وان مشاريع الخصخصة عقوبة ضريبية كبيرة وبأسعار باهظة غير مبررة، ناهيك عن دهاليز شركات الجباية ومآل عوائدها في ظل واقع مليء بالمفاسد والاحتيال في ملفات حكومية خالصة فكيف بمشروع عملاق يديره القطاع الخاص، مع الاشارة الى عدم جدوى وضبابية في نشاط القطاع الخاص في العراق خلال السنوات التي اعقبت التغيير في العام 2003 ، ولا يخفى على احد تلكؤ هذا القطاع  في تنفيذ معظم المشاريع الوطنية الموكلة اليه، كما ان استثمار الجباية مشروع اعمى في ظل ضعف السيطرة على التجاوزات وعدم التحكم الحكومي بالمشروع الاستثماري الذي هو نقلة خطيرة من النظام الاشتراكي الى رأسمالية بلا اساس او سيطرة على رأس المال وضعف رقابي على معظم الانشطة الاقتصادية الخدمية. 

    ان  التخبط الحكومي في ادارة الكهرباء وعدم الواقعية في التخطيط والتوقيت الخاطئ في قرارتها يرافقه سوء استخدام وتطاول على هذه الثروة الوطنية وضعف وعي وادراك جماهيري يستلزم القيام بالخطوات التالية:
    1- تدقيق الارقام المعلنة لحجم انتاج الكهرباء الوطنية والاعلان عن خطط زمنية لسد العجز ان وجد.

    2- ان يجري الاتفاق على مبدأ ان ما يموّل من الموازنة الوطنية لا يخضع للاستثمار او لاي شكل من اشكال الضرائب المبالغ بها، وان تقتصر الاجور المستوفاة من المواطن على الخدمات خارج ابواب الموازنة.

    3- من الخطأ عدم وجود قاعدة صفرية في قوانين اجور الكهرباء في نظام الخصخصة، فمن المهم ان تكون قاعدة هرم اجور الكهرباء ما فوق 10 امبير (التي يجب ان تكون مجانية)، وان تكون رسوم الكهرباء التي يدفعها المواطن العادي عن الخدمات اللاحقة بالتوليد، 
    4- على الجانب الشعبي من الواجب اجراء حملة شعبية لترشيد الكهرباء المنزلية، لنبرهن على اننا حريصون ايضا على موارد الطاقة في بلدنا، ولنقلل من حجة الحكومة بأن الهدر بالكهرباء يكّلف الحكومة ملايين الدولارات الضائعة.

     5- كما يجب على المؤسسات الدينية والمدنية والاعلامية توعية الجماهير بواجب دفع فواتير الكهرباء وفق اسعارها الحالية وتسديد الديون المترتبة على المواطنين وتجنّب التلاعب بالمقاييس من قبل الجميع (منازل ومحلات ومصانع ومقرات احزاب ومؤسسات حكومية ودور عبادة، وشجب  الاسراف في استخدام الاضاءة والاجهزة الزائدة عن الحاجة في كل مكان، ورفض كل اشكال التجاوز على منظومة الكهرباء.

    6- وعلى الخبراء والمهندسين والباحثين في مجالات الطاقة تطوير طرق انتاج الكهرباء التي تعتمد على مصادر الوقود الاحفوري، والبحث في مجال توفير مصادر الطاقة البديلة غير التقليدية  المعروفة عالمياً (الطاقة الخضراء) من مصادر طبيعية دائمية كتطوير منظومة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح واستخدام حركات المياه البحرية.


    الهوامش:
    ابراهيم المشهداني، هل الحل في خصخصة الكهرباء، 2017 http://www.iraqicp.com/index.php/sections/2016-04-17-20-22-47/53602-2017-01-21-20-51-13
    رشيد السراي، تكلفة انتاج الكهرباء في العراق، موقع كتابات: https://kitabat.com/2017/01/23
    موقع السومرية نيوز: http://www.alsumaria.tv/mobile/infograph/
    رشيد السراي: 2017 لماذا نرفض خصخصة الكهرباء في العراق بهذه الصيغة؟ موقع كتابات https://kitabat.com/2017/04/13
                      .............
            (*)ميجاواط=  1000 كيلوواط  ( او مليون واط ) 
           الواط هو وحدة قياس القدرة في النظام الدولي  والكيلو واط = 1.3 حصان تقريباً  
    (**)  رشيد السراي، تكلفة انتاج الكهرباء في العراق، موقع كتابات: https://kitabat.com/2017/01/23 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media