(قصة قصيرة) أغاني أسى.. من اجل كاثرين..
    الخميس 18 يناير / كانون الثاني 2018 - 07:16
    أ. د. حسين حامد حسين
    كاتب ومحلل سياسي/ مؤلف روايات أمريكية
    بعد هبوط الظلام ، سرعان ما تتشنج أحشاء المدينة الصغيرة " مونرو" ، والواقعة في الجنوبي الغربي لولاية لويزيانا، مبتلعة ألحياة وألق نهار حاول ان يدرأ عن المدينة وحشة ليل قادم . فبعد رحيل الشمس يطفح الصمت في المدينة ، وتتكدس مشاعر حزينة تمنح "ماركو" حزنا وضجرا وشعورا قاسيا بالغربة ليعيش وحدته المعتادة . ويمر عملاق الليل مشبعا بالصمت من حوله، محرضا الشاب على هجر المدينة ، لولا ان ماركو سرعان ما يتذكر معاناته المضنية في بحثه عن عمل ولخمسة الشهور الماضية حتى استطاع الحصول اخيرا على عمله هذا.  
    و"ماركو" الذي ولد في كولومبيا ، كان قد هاجر الى الولايات المتحدة منذ ان انهى الدراسة المتوسطة لينهي دراسته الجامعية فيها. وبعد تخرجه ، حاول أن يجرب حظه في البحث عن عمل في حقل اختصاصه النادر، في عدد من المدن لكنه لم يفلح . واخيرا استطاع الحصول على عمل في احدى مصحات التأهيل العقلي لكبار السن ممن يعانون من امراض الخرف المبكر"الزايمر".
    كان يتعين على "ماركو" في عمله اليومي اعداد برنامجا يتعلق بالترويح العلاجي من اجل توفير المتعة وقدرا من التركيز الذهني لهؤلاء المرضى . حيث يتخلل البرنامج موسيقى ورقص بسيطا وبعضا من الالعاب الترفيهية المسلية وعرضا لبعض الافلام الفكاهية . كما وكان على ماركو أيضا القيام بقراءة الصحف الصباحية على هؤلاء المرضى واطلاعهم على اهم احداث الحياة لذلك اليوم.  
    كان العمل مرهقا على الرغم ما يبدوا من بساطة . ففي نهاية كل يوم يكون ماركو قد استنفذ كل قواه وخصوصا عندما كان ينبغي عليه الرد على اسئلتهم التي لا تنتهي . فكان ماركو يعود بخطى تائهة الى غرفته الصغيرة التي استأجرها في الطابق العلوي في ذلك المبنى العتيق ، حيث الوحدة والصمت بانتظاره. 
    في غرفته ، تمطى ماركو بكسل فوق سريره الصغير، وللحظات راح ينصت وبلا فضول لصوت مذياع قادم من جيرانه راح يتحدى اكداس الصمت. وبسرعة مرقت بذهنه صور كثيرة لاحداث ذلك اليوم . ثم لم يلبث ان غط في اغفاءة قصيرة طوح بها رنين الهاتف ، 
    " هلو ...ماركوا...ماذا تفعل...هل انت مشغول الان؟" 
    "......"
    "هلو...ماركو...ماركو ...هل تسمعني ...أنا كاثرين" سمع ماركو الصوت بنبرته الملحة التي اعتادها.  
    "هلو...نعم ...كاثرين ...اسمعك...كيف حالك؟.." 
    "انا بخير...هل وجدت عملا أخر...؟" 
    "ذهبت لمقابلة تخص عمل ، ولم أعرف النتيجة بعد " رد ماركو وهو يصارع النعاس. 
    "هذه اخبار طيبة على كل حال...أأمل ان تحصل عليه".
     ساد صمت قصير ، ثم سمع ماركوا صوت كاثرين ثانية،  
    "ماركو...غدا السبت ، موعدنا الازلي، وأنا واثقة انك سوف لن تنسى شيئا كهذا، وسأكون بانتظارك. أن سياج الحديقة الخلفية للبيت يحتاج بعضا من التصليحات. سوف أعمل من اجلك فطائر بالجبن مع قهوة بالعسل وكما تحبها. سنتحدث ونستمع لبعض السمفونيات، ستأتي يا ماركو...اليس كذلك ؟" 
    "لا أدري...لست متأكدا من ذلك" رد بعد فترة قليلة من الصمت . 
    "لماذا يا عزيزي...ما الذي حصل، هل انت مريض؟ بدا على الصوت الواهن نوعا من لهفة . 
    "لا...أنا بخير ، لكن لا أشعر برغبة في القيام بأي عمل في الغد" 
    "طبعا ...طبعا ...لست مضطرا للقيام بأي عمل ...اطلب منك ان تأتي فقط...من اجلي.." 
    " لا أدري ، ربما سأزورك ظهرا بعد ان اذهب الى البريد أولا..."
     "بالتأكيد ... وعسى ان تجد رسالة تحمل لك اخبارا عن عمل جيد..سأصلي من اجلك. سأكون بانتظارك غدا ... والان سأتركك لتنام . ليلة طيبة...مع السلامة..."  
    هاجم ماركو الاسى بعد ان أغلق سماعة الهاتف. فها هي الاكذوبة تكرر نفسها كل مساء. فليس هناك حديقة ولا فطائر بالجبن ولا قهوة بالعسل ولا سمفونيات. انها مواعيد عالم "كاثرين" الضائع في انتظاره الابدي. انها فقط تلك الرغبة الحزينة الضامئة تنفث أشوقها مثل احتراق الشموع. خيط باهت من وهم تسوقه المقادير . 
    نفس المأساة تتكرر بلا ملل كل مساء وبكل عذوبة الدنيا التي يتمناها قلب جريح وحيد وهو يتطلع لبعض من اماني لماضي انتهى ولن يعود. هي الروح الوحيد التائهة في ضباب الماضي والتي تبحث عن نفسها . انها اوهام لا تتوانى من استقبال هدايا من ايامها العتيقة في زحمة الضياع والاجهاز على الحاضر، من اجل نشوة من سراب. نفس الصوت الحزين ألغارق في عبودية عقل واهم طالما كان شاهدا على انهيار الباقي من امانيه ، يختنق بدخان المرارة من حوله . فذلك القلب وان كان لا يزال نابضا كأي مضخة للدم ، يحاول ان يعيش ترنيمته كل ليلة بصدى باهت ، تحسبه "كاثرين" انه قادرعلى تمزيق الكفن لينهض من بين عشرات الارواح المسجاة ، بانتظار قدوم السيد الموت. 
    ففي ذلك البيت الصغير الذي خصصته  دائرة الرعاية لحكومة الولاية من اجل احتضان الكهولة المشردة والتي لم يعد لها من احد ليبالي بادميتها كثيرا ، بعد غرقها العارم في الشيخوخة أو المخدرات أوالادمان على الكحول ، اللهم إلا بقدر ما يستطيعه انسان مجهول قادم من احد زوايا هذه الحياة الهزيلة مثل "ماركو" من اجل يمنح القلب الوحيد طعما من ادمية وامل واهن وسعادة واهمة. 
    فعندما تهيم السعادة بوهم ماساوي كذاك، لا يهم عند ذلك ان ارتعش القلب الهرم الى حد الذعر ، وبقيت الاسلاك الباردة قادرة ان تحمل رغبة لا تعرف التهيب،
    " ماركو...دعنا نذهب غدا للبحيرة ...خذني يا ماركو الى البحيرة كما كنا نفعل دائما. دعنا نجلس في زورقنا القديم وننظر بتلك الغرابة الى اسماك "السلمون" وهي تضع بيوضها على جرف الشاطئ ، وكيف تستجيب لغرائزها لتسبح ضد التيار حتى تنفق وتموت!! خذني ارجوك يا ماركوا الى البحيرة، لنسير معا على الساحل ، وننصت بشغف لطيورتغني من اجلنا . ثم نغفو في القارب تحت الشمس الذهبية ، كالاطفال ".
    وبنفس الرغبة الضامئة الممعنة في اضطهاد الروح ، وبنفس الوجع المستفز للحلم الواهم والرغبة الماكرة لمنح الحرمان طعما من رضأ لا يخلوا من تعاسة ، يمكن ان ياتي جواب ماركو مشوبا بنوع من تضايق لمطالب لا تنتهي ،
    "ولكن هل نسيت هكذا سريعا ، يا كاثرين؟ فقبل اسيوعين فقط ذهبنا الى البحيرة، أليس من نهاية لهذه الرغبات المتوقدة فيك؟ ألم يكفي اننا معا تركنا اثارنا في هذا العالم؟"
    عندها تتفجر براكين الهناء في ارجاء القلب الهرم العليل. ويبرق امل طائش بعمر الطفولة قافزا فوق اسوار سجن الضيم . وتجرف سيولا فزعة سنينا هرمات حاملة معها أطمارا من حنين الى ماضي بعيد. يبرق الفرح مغمسا بدغدغات وهمس مبحوح في اعماق الجوف الغارق في الظلمة . يبرق محملا بكل ما يستطيع القلب الهرم من حمله من اماني ضامئة ابدا للحياة، 
    " نعم ... يا ماركو نعم... لن تمل روحي ابدا من الابحار في بهجة هذا العالم معك. خذني معك الى اقصى مجاهل الارض ودع روحي الكسلى تشم من جديد عطورا طواها النسيان" 
    وبنفس القدر من الاسى الذي يغمر له روحه في تلك اللحظات عن سعادة قلب كاثرين الهرم، والذي تغمره ألان غبطة غريبة تفوق في عنفوانها كل ما لا يعرفه هونفسه عن حب للحياة ، فيلفه ذعر وارتعاش طفيف ، كارتعاش جناح فراشة تموت وحيدة بين الزهر. ويروح يسأل نفسه ، 
    "ترى كيف تستطيع انسانة مثل كاثرين ان تعيش حلما ازليا كهذا وبنوع من سعادة استثنائية بينما قد تستطيع هي وبلا عناء ان تتلمس اثارها الذاوية في كل مكان من كيانها؟ كيف يمكنها ان تعيش حاضرا مسرعا الى الزوال رغم كل الغبطة ورعشات الفرح التي تمنح قلبها الهرم امالا كتلك؟ وكيف لمرأة مثل كاثرين تستطيع أن تفجر امانيها الغارقة في الوهم هكذا، وتطمأن الى تأوهات قلبها الحزين الراقد في كفنه الصغير؟ وهل سينتحب القلب الهرم انذاك من اجل عقل عليل لم يعد يمتلك معاني كافية عن العالم؟ ذلك القلب الهرم الذي تسوطه الام وحدته ، من أين يأتي بذلك الشعور بالسعادة؟"
    اثناء عمله اليومي وسط كبار السن المرضى، طالما استرق "ماركو" النظر الى كاثرين وهي تجلس امامه فيروح يتمعن بها طويلا. فهي تبدوا في منتصف الثمانينات ، تعاني من مرض "الزايمر" ، لكنها مواضبة على استخدام مساحيق التجميل وبشكل كثيف ، كما وهي مولعة على تغير الوان شعرها . لكنها وحيدة وبعينين حزينتين. لا تبالي باحد ، حتى به نفسه اثناء العمل. ويروح ماركو سارحا وهو يتأملها ويتسائل مع نفسه،
    "كيف للعذوبة ان تهجر الناس هكذا وبلا مبالات ؟ ولماذا ينطفأ الوهج في العيون وتجف نضارة رحيق الوجه وتهمد رغبات الامس الممعنة في الطيش؟ كيف للعواطف الرقيقة أن تشيخ وتهرم في الحنايا؟ وكيف للمرارة والحنين والسأم ان يبقى بعافية في النفس بين اكوام الصعيق؟ هل الحياة تستحق منا كل هذا الوهم؟ ام ان التشيث بالحياة يعني نوعا من ايغال في القسوة التي جعلتنا نألفها؟ ولماذا يا ياكاثرين يبقى قلبك الهرم راضيا بتلك الاكذوبة السعيدة؟ أهي الوحدة والضياع والضجر من تبني جسورا من الوهم اللذيذ بين خريف يموت ببطيئ في دوامة التشرد في زحمة المدن البعيدة؟ بين خريف استنفذ كل ما يختزنه من وداد وبدأ يقضم بقايا هيكله الادمي ، وبين ربيع ترتطم احلامه كل يوم بجدار التعاسة وهو يواصل خدمته لهؤلاء البؤساء والذين فقدوا حتى عناوين وجودهم في الحياة؟ وبين خريف كان يوما ربيعا زاهيا بالانوثة والامال لكنه انتهى الان واصبح ليس سوى عاطفة ضخمكة من الوهم تزيد في المأساة. 
    لطالما زلزل الالم اعماق ماركو خلال مكالمات كاثرين له . فكاثرين تتحدث عن اشياء لا تعرفها حياته . وكان يشعر دائما بنوع من غرابة ان امرأة مثل كاثرين قد وجدت ان في الحياة نفسها جمالا وبهجة لكن ذلك وكما يبدوا لم يكن كافيا .  لكن ماركو يحمل احتراما كبيرا لذلك النبل الذي تحمله كاثرين نحو الحياة. 
    ستبقى الاسلاك الباردة كل مساء قادرة على ان تبعث رعشة في القلب الهرم . وسيستمر القلب قانعا بأساه حتى ينطفئ الوهج ، حينذاك تنتهي الغبطة وتنعتق الروح من عبودية الوهم . ومن يدري لعل ماركو سيتشبث ذات يوم بالحياة ، تماما مثلما كانت تفعل كاثرين ، بعد ان يكتشف ان الحياة احيانا تستحق شيئا من الوهم. 

    تكريت - العراق
    19 رمضان - 1996
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media