أحلام آفلة
    الجمعة 19 يناير / كانون الثاني 2018 - 04:52
    علي شايع
     كان من المفترض أن نسافر سوياً بعد ثلاثة أشهر الى مدينة ماجدانك البولندية، حتى وجدتني معه على طائرة واحدة باتجاه الأردن؛ هو في تابوت محكم بمكان لا أعرفه على الطائرة الهولندية، وأنا دامع القلب والروح، مستوحشاً هذه الرحلة، إذ اتفقت والفنان زياد حيدر على زيارة متحف المدينة البولندية الذي يضم في مجموعته الدائمة إحدى لوحاته.

    لم يكن يعلم إنها ستكون أحلاماً آفلة، وهو يوزع بطاقات الدعوة لافتتاح معرضه التشكيلي الأهم في مكان أراد له جاهداً أن يغدو مشغله الخاص، بعد طول انتظار وسنوات ضاعت بين السجن والمنفى، في تجربة فنية زاخرة لأكثر من ثلاثين عاماً، جعل الفنان من سنواتها الأخيرة محطّة لا تنسى لمن عرفه عن قرب، ودخل بيته الحافل بلقاءات فنية وثقافية وموسيقية، كان تعيد للحاضرين أمسيات الوطن، بروح مبدعة مرحة، وبيد حانية سخية عليها أثر لوني على الدوام، ساعة يطوف بترحاب فريد، وبوجه دائم الإشراق.. آه "ما علمت قبل موتك.. ان النجوم في التراب تغور".. هكذا بقيت ومن فقده نردّد لرثاء نجمنا المشرق الحزين.

    في اليوم الثالث من بداية سنة 2006 فقدناه، وكم من مناسبة وطنية أو رياضية بقي فيها ذلك البيت الأمستردامي عراق أصدقاء خلّص يستذكرونه بالحنين الدائم، مستشعرين لوعة الفقد، والفراغ الذي يتركه الإنسان الحق، وهو يصنع من روحه وبيته وطناً للخلان، غير إن القدر جعل الأصدقاء يلبون دعوته ويحضروا بالفعل في مرسم فاضت فيه روحه المبدعة، لتحلق بين لوحاته وأدوات رسم تركها ولما تجفّ بعد من أثر اشتغاله المتواصل، في فترة ظلّ يعد فيها العدّة لاستقبال أصدقاء اجتمعوا لاحقاً للرثاء؛ محتفلين بيوم كان حلماً لفنان عاش حياة خاصة، ورحل بخصوصية وتفرّد يليق بمبدع أجاد أبجدية الفن بأقصى تمامها.

    كان الفنان زياد حيدر يحمل هماً عراقياً خاصاً جداً، فهو من ضحايا النظام الديكتاتوري، وأضاع خمس سنوات من حياته، بعد أن حُكم عليه بالسجن عشر سنوات بسبب مواقفه البطولية، وشجاعته في الوقوف بوجه الظلم والاستبداد، وكمشاكس ثوري فذ، بقي يحمل تلك الروح ويستحضرها بصور أخرى بعد خروجه من الوطن، وبإبداع نال إعجاب من تابعوا منجزه، مغترباً من بداية التسعينيات.
     
    حلم آخر شغله لسنتين عاشهما قبل رحيله، وهو ينجز تصميماً للعلم العراقي، في رغبة للمشاركة بمسابقة فنية كانت وزارة الثقافة تعدّ لها في تلك الأيام. أصدقاء الراحل وكلّ من عاصر حلمه يستذكرون لوعته متابعاً ما أرسله إلى الوزارة، ليبقى في أرشيفها حلماً آفلاً، ليته يكون أيضاً ضمن ما يوثّق ويسجّل له، ويعرّض بعد تسجيله رسمياً باسم الفنان، بدلاً من ضياعه. إذ يكفي ما ضاع له من جهد وسنوات ختمت بضياع عمر كان في أوج عطائه وإبداعه في المُغترب.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media