(قصة قصيرة).. لهيب تحت بحيرة الصقيع..
    السبت 20 يناير / كانون الثاني 2018 - 07:00
    أ. د. حسين حامد حسين
    كاتب ومحلل سياسي/ مؤلف روايات أمريكية
     وهي تقف أمامه ، شعر "مايكل" نفسه كفرس هرم جريح يحاول اللحاق ببقية القطيع أمامه. فزيارة "سارة" غيرالمتوقعة تركته لاهثا بذهول وحيرة. لم يكن متأكدا تماما من أنه كان مستعدا لرؤية المرأة التي كانت في يوم ما مجنونة بحبه، ومع ذلك، هجرته عندما كان في أمس الحاجة إليها . 
         وعلى كرسيه المتحرك، بدا مايكل صامتا ومرتبكا، وراح يتفحصها بدقة، وفي عقله كانت رؤى الذكريات المدفونة تعود للحياة. ذكريات كانت تمثل حياتهما الواحدة معا واعتقد انها هلكت وتم قبرها ، ولكنها عادت الان من اجل شنقه.  ومضى مايكل يقاوم تلك الذكريات  فهي الان مصدرلحزن والم كبيرين. فبعد الحادث الذي حصل له، وحينما كان "مايكل" يخضع الى عمليات جراحية وإعادة تأهيل طويل، تركته سارة وتزوجت من رجل آخر. وظلت المرارة في تلك اللحظات تملأ كيانه ، فكان عليه أن يقاوم أفكارا مفعمة بذكريات كان يجد بها تقويضا للباقي من ارادته. وبعيون مرهقة، استمر مايكل يتمعن بها، واستمرت الذاكريات تتزاحم في عقله، ولم يكن بوسعه سوى أن يعترف ان حياتهما انذاك معا، كانت حياة سعيدة فعلا. 

         ففي الماضي ، وفي عطل نهاية الأسبوع الجميلة ، حيث لا يمكن له أن يتناساها الآن، كانا يبحران في قاربهما الشراعي، بعيدا عن كل شيء. وفي وسط المحيط، وتحت سماء شديدة الزرقة يتمدد مع "ساره" في الزورق بلباسي السباحة وبشعور من عواطف حب لا نهاية له . وفوقهم، كانت النوارس ترفرف بأجنحتها وتطلق صرخاتها كما لوكانت تحاول كشف أسرار الحبيبين. وتحت سحر غروب استثنائي للشمس ، يبدوا الشروق هو الاخر في روعة اعظم ، حيث يمنح الخالق بهجة ضياءه بسخاء للجميع.  

           وفي الربيع، كانا يسافران بمقطورتهم السياحية في عمق الغابات لاستكشاف الطبيعة الخلابة التي طالما استدعت ألالهام في اعماقه ، فوجد نفسه وقد هيأ أدوات الطلاء والزيت وألألوان وراح يرسم بلا كلل، تغمره مشاعر من نشوة وسعادة لا يمكن وصفها.

    و مايكل وسارة كانا يعشقان الشتاء ايضا ، فكانا يذهبان إلى مناطق سياحية لممارسة رياضة التزلج على الجليد والاستمتاع بتلك الهواية الرائعة رغم خطورتها . ولسوء الحظ، وقبل ثلاثة شتاءات، كان القدر قد حكم على مايكل أن يمارس رياضته تلك وللمرة الأخيرة. فقد حدث لمايكل حادث مروع بينما كان يتزلج بسرعة كبيرة فوق احد التلال، وحاول القفز، ولكن، حدث خطأ ما، وفقد توازنه وسقط ، وعانى من كسرفي فقرات عنقه. ومنذ ذلك الحين، ومايكل يعاني من الشلل النصفي. وعندما كان مايكل لا يزال خاضعا للعمليات الجراحية واجراءات العلاج الطبيعي الطويلة، تركته سارة وتعلقت برجل اخر. فكانت الصدمة المروعة على مايكل اكثر ألما وفضاعة من الحادث نفسه. وراح مايكل حينها يسأل نفسه بحيرة ، "هل يمكن أن يكون قد وثق بسارة اكثر مما ينبغي؟ هل ربما أتخذ من حبهما لبعضهم البعض أمرا مفروغا منه؟ أوهل يمكن أن يكون قد اعتقد أن لا "سارة" ولا الحياة نفسها سيتخليان عنه يوما؟"

     لقد تركته سارة وتزوجت رجلا آخر لم تكن قد تعرفت عليه تماما، في وقت كان فيه "مايكل" يعاني من الشلل ويكافح للبقاء على قيد الحياة.  
        مرقت تلك الافكار سريعا في ذهن مايكل بينما كانت سارة تقف أمامه. فهو لا يزال يراها نفس المرأة ألانيقة الجذابة قبل ثلاث سنوات مضت. فلقد فشل الزمن في تلك السنوات الثلاث من أن يمسها بأي تغيير. فهو يستطيع ان يرى في عينيها الزرقاوين ذات النظرة المتسمة بالغرور وتأكيد الشهوة. وهذا الجسد الغني لا يزال قادرا على جلده بلا بخل. ومع انها كانت وكما يبدوا ، تضع قليلا من مساحيق من اجل تحدي ألمها النفسي ، لكنها لم تكن بحاجة لتلك المساحيق من قبل.  

    راحت عيون مايكل تتبع عينيها وهي ترنوا للحائط الانيق، وتتفحص لوحاته القديمة. كل شيء كان لا يزال معلقا بالطريقة التي تركتها. لوحة "لحظات الوداع" لا تزال هناك. عاشقان يعانقان بعضهما البعض تحت شجرة جرداء إلا من ثوب من ثلج ثقيل يغطي اعضاءها المصلوبة. وكذلك لوحة "الجبال الموحشة"،  لمتزلجون يهبطون من التلال بقفزات هائلة ، ومن بعيد كانت تلوح جبال تكسوها ثلوج كثيفة. وتبدوا السماء باهتة تمنح القلب لوعة . ولوحة اخرى بعنوان "الصياد المنفي"، وفيها صياد يبدوا محاصرا بين مجموعة من الذئاب، وهي اللوحة المفضلة لدى سارة. 
    وراعها كثيرا ان تجد لوحة لصورة لها لا تزال أيضا معلقة في نفس المكان وكما كانت. غزاها شعور بالذنب ، وأجبرت على ابتسامة باهتة،
     قالت بشيئ من الحزن."صورتي لا تزال على الحائط ، يا للمفاجأة؟"
    "بالتأكيد، انها جزء من عملي الفني، بغض النظر عن كل شيئ اخر" خرجت كلماته بطيئة وصعبة .
    "هل وصلتك اليك رسائلي؟" سألته بلهفة.
    وبعد صمت جاء صوته خافتا،
    "وصلت ولم اقرأها. احرقتها جميعا حال وصولها",

    تحرك مايكل بكرسيه نحو النافذة وعالج ببطئ ازاحة الستارة ، فبدا شلال الشعر الاشقر تحت الضوء امامه كشمس صغيرة ، وبدت العينان بذات الجمال والألق القديم نفسه.   

    "هل ما زلت قادرا على الرسم، يا مايكل؟" سألت مرة أخرى ، وكانت تعتملها رغبة  في أن تسمع ما كانت تعتقد"
     بعد صمت ، أجاب مايكل،
    "أحيانا أحاول استخدام ذراعي اليسرى، ولكنها تخونني ، لا استطيع الاعتماد عليها تماما. فذراعي اليمنى والنصف الآخر لم يعد تحت الارادة ، لا احساس هناك، مجرد اعضاءا تلتصق بالجسد. ولكن، وبغض النظر، ما زلت أشعر ببعض الإغراءات الكبيرة في الرسم ، وأفكر أحيانا بالعض على الفرشاة باسناني لرسم ألمي وتشوهي".

    "لكم يسعدني سماع هذا التصميم. أنه النبل لرجل يحاول تحدي ألم المحنة. أستطيع الان أن أشعر بارادتك القديمة نفسها وانت تكافح ضد قدرك والبقاء مواليا لفنك الرائع وخصوصياتك. " 
           أخذت مقعدها بالقرب منه، وشعرت بعضا من الراحة . تجولت عيناها في ارجاء الغرفة، ثم تلاقتا عيناهما. لكن مايكل شعر بالاستياء. وتساءل في عبوس،
    "ما الذي جاء بك، ماذا الذي يمكنني أن أفعله من اجلك؟"
    "جئت لرؤيتك، أشتقت لك" أجابت بخوار.
    نظر إليها باستهزاء ،
    "أه ...حقا؟ يا لهذا الاهتمام الذي تفعلينه بعد ثلاث سنوات؟"
    "كنت معك طيلة تلك السنوات، ولك ان تصدق أولا تصدق" أجابت وأسبلت بعينيها نحو الارض.
    "طبعا .... أنا متأكد من وفاؤك!" قالها باستهزاء مؤلم. 

    " اني أفتقدك، يا مايكل" ردت عليه فلاحت دموعا في عينيها.
    "ما الذي تريدينه مني، ياسارة؟ هل أنت بحاجة إلى بعض المال؟ قولي بصراحة ، فأنا أعلم جيدا أنك لست بالمرأة الخجولة ، وخصوصا عندما يتعلق الأمر برغباتك الشاذة؟"
     "لست بحاجة لشيئ، يا مايكل . اني افتقدك فقط . لا تزال لدي مشاعر كبيرة نحوك أعتز بها. نعم، أنا كنت مخطئة بتركك. لم أعد اطيق أن أراك تعيش بتلك الالام ، عاجز ويائس وصريع. لكن مشاعري بالنسبة لك ظلت سليمة. أنت لست مضطرا لأن تصدقني. كما وأني أعلم أنك لن تفعل ذلك ، وأعلم أيضا أنك سوف لن تغفر لي أبدا" 
    ساد صمت مشبع بالهموم في الغرفة. ومضت سارة في حديثها ،
    "أني أآسف إذ زيارتي كانت غير متوقعة ، وقد ازعجتك"
     رد عليها وهو يشيح وجهه عنها ." نعم ، حصل هذا فعلا، إذ  لم ادعوك للمجيئ ، "
    "ولكني، اتصلت بامك وأخبرتها بأني آتية لرؤيتك"
    "لم أستطع أن أصدق أنك سوف تجرأي على مواجهتي بعد ما فعلته بي. لقد رميتني وحيدا ، وتركتني اصارع من اجل الحياة وذهبتي لرجل آخر، والآن تأتي لتقولي أن لديك مشاعر نحوي؟ فلماذا أحتاج إلى قسوة أكثر منك؟ ألست أمتلك الان ما يكفيني من ألم؟ 
    كانت دموعها تهطل بغزارة ، وراحت تستغرق في تفكير عميق، 
    "هي تدرك أنها قد قست عليه ، فهي تستطيع الان أن ترى كيف أنه قد استحال بعد الحادث الى حطام أدمي. وعندما كانت تستمع إليه وهو يتحدث معها، فانها لم تكن تسمع صوتا طبيعيا لرجل، كانت تسمع شهقات متقطعة تتخللها غصات وزفرات مؤلمة مشوبة بنوع من غضب " . 
    "لم أكن سعيدة أبدا بزواجي من الرجل الاخر" ردت سارة وهي لا تزال تجهش."لقد حاولت تيسير الامورمن خلال الاعتقاد اني سأنساك ، لكني لم استطع ، بقي ظلك ساحقا على حياتي".

    "وما الجدوى الان؟" رد بغضب. " لقد فات الأوان على أي حال، فأنا الآن لست كما كنت في الماضي . لم أعد ذلك الرجل القوي المعافى . أنا الآن، لا أستحقك، إني مريض ، رجل ميت لا أستطيع أن أعيش من اجل الحب والرومانسية كما كنت، بينما أنت لا تزالي بأنوثتك وجمالك الجارح. أنا لا يمكن أن أكون الشخص الذي ترغبي في أن تكوني له".

    "لا أحتاج إلى شيء منك سوى أن أكون معك، نظل معا فقط، ولن أتركك مرة أخرى أبدا. نحن بحاجة إلى بعضنا ، ولا يمكن أن تكون سعادتنا حقيقية دون بعضنا البعض. سوف ندفن ذكرياتنا المؤلمة هذه. أحتاج منك فقط أن تعشقني ثانية ، وسوف لن يفرق بيننا سوى الموت". 

    وهي تجلس امامه ، استمر مطر دموعها ، وظلت ترنو اليه بعينين حانيتين ، فأحس مايكل انها بدأت تنفح في عروقه الذاوية نبضا من الماضي يكاد يكون مستحيلا. وأحس رغم كل وهنه، ان وجودها بقربه الان كحلم يهيم في كيانه, وأن كلماتها كانت تتسلل كشمس دافئة في اوصاله المقرورة. وبكل ما كان يحمله قلبه من اشواق مطمورة تحت ركام الهجر واليأس ، راح يمعن في الوجه الذي تأكد ومنذ زمن بعيد أنه لم يعشق يوما سواه. تأمل عينيها الجميلتين فحملته أعاصير وجده القديم بعيدا نحو افق مصلوب باللذة والتوجس . نحو عالم قصي مجهول لم يستطع بكل امانيه من الوصول لتخومه. نسي "مايكل" اذرع الموت التي تسجن له نصفه الاخر من جسده . فقد كان هناك في وجودها المفاجئ شيئا دافئا قد غمره وراح ينفث فيه حيرة اعظم من تلك الحيرة التي كانت تكتنفه حينما كان يحاول ان يهتدي الى سبب تركها له.    
    كان مايكل يحاول بصعوبة المسك بمنديله في جيبه لمعالجة دموعه المنهمرة ، فوقفت سارة على قدميها وسارت إليه، وراحت تجفف دموعه، وضمته إلى صدرها. 

    "ها هوالسندباد يعود من ابحاره الطويل محملا بالجراح والهموم والاثام والبيارق المنكسة. لقد عاد اليوم بعد ابحاره الطويل من رحلة امتصت رحيق العمر ولم تمنحه سوى الضياع في اروقة العيون الملونة . عاد يمضغ اساه بصمت بعد ذلة رفقة قصيرة مشدوهة تحمل قليلا من عذوبة لا ترمز سوى لعبوديته . لقد عاد من اجل التصالح مع روحه المنسية . كفارس مخضب بالجراح واللعنات ، عاد ليقضم شاربه الثلجي الممتد بعرض هزيمته ، ليبتسم بمرارة لكل تلك العيون التي لم يعد يهمها ان تعرف شيئا عن المه وجراحه." 

    لم يستطع مايكل ألمقاومة ، كان يشعر نفسه مغلفا بنفس ذاك الدفء القديم الذي لم يكن قد شعر به لسنوات. كان يشعر بها، شمسه القديمة ، نفسها تدثره بالدفئ واللذة والعافية . ذاك الحب البدائي المذهل الذي كان دائما يملي عليه الاستسلام لرغباتها والذي غاب عنه رغم توقه الشديد اليه ، قد عاد اليه مرة أخرى ليعيشه الآن بين ذراعيها كحقيقة. 

    وهو على صدرها ، لا يزال مايكل يستطيع ان يسمع دقات قلبها الراكض ، وأن يتنفس رائحتها بشكل آمن وسعيد. ونسي مايكل غضبه، وهجرها له. ومع كل لحظة، وهو يستريح على صدرها، راح يستعيد ما فقدته سنواته من حب ضائع لم يستطع أن ينساه. "سارة" هي نفسها المرأة التي طالما امتلكت عواطفا مجنونة نحوه، وكان عطشها لا يرتوي، هي الان حبا يتفجرفيه، ويضرم النار في اوصاله.

    بدأ مايكل تدريجيا يشعر بوهن كبير ويغرق في رؤى عميقة وأوهام. كان يرى نفسه عند غروب الشمس، مع سارة في ذاك المحيط الشاسع وهما يبحران في أعماقه معا من جديد، وقد بدت القوارب الشراعية البيضاء البعيدة كالبجع البيضاء. كان مايكل لا يزال سعيدا أن سارة كانت بقربه، ولكنه كان يشعر بوهن كبير وبحاجة إلى النوم. 

    كان الأفق متوهجا، يبتلع بقايا غرق الضفائر الذهبية للشمس الطافية على سطح المحيط. وحاول مايكل النظر الى الشمس ولكن، كل شيء من حوله بدا فجأة قاتما. وهب نسيم لطيف جعله يشهق، وتعرض لغصة وسعال عنيف. 

    حينذاك ، وهو لا يزال على صدرها، شعرت سارة أنه لم يعد قادرا على التنفس، واحست بذراعه حولها تسقط ، وصرخت بفزع ، 
    ""مايكل ... مايكل ...!" ولكنها، عندما تفحصته ، وجدته قد مات

    ألموصل - العراق
    5/5/1987
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media