خلفاء بلا خلافة
    الخميس 11 أكتوبر / تشرين الأول 2018 - 13:16
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    (1)
    في الستينيات تشكلت في بغداد وزارة باسم (وزارة الوحدة) رأسها المرحوم الدكتور عبد الرزاق محيي الدين الذي كان أستاذا في إحدى كليات جامعة بغداد. بعد استيزاره بأسابيع قليلة ذهبت مع صديقين حميمين لزيارته في مقر الوزارة. علمنا أن مقره في المجلس الوطني، وأتذكر أنه كان في مقابل دار الإذاعة العراقية (خريطة بغداد غائمة في ذهني الآن فأنا أتحدث من الذاكرة مباشرة).
    المهم في الأمر، كانت الوزارة غرفة واحدة في طابق من طوابق المجلس الوطني.
    عند الباب فراش، استأذن لنا. دخلنا.
    وجدناه وراء طاولة في غرفة صغيرة مستطيلة ضيقة أشبه بقفص الدجاج. وأمام الطاولة بضعة مقاعد كأنها مقاعد المقاهي. جلسنا، تحدثنا.
    سألته: أراك وحيدا دكتور؟ قال بمرح: ألا تدري أني وزيرٌ وَحْدَهُ (بالهاء)! فقال له أحد مرافقي: انطبق الاسم على المسمى. يقصد وزارة الوحدة، ووزيرٌ وَحْدَهُ.
    (2)
    كنا نقرأ في صحف تلك الأيام وما تلاها تشكيل وزارات في العراق ودول عربية تحت مسمى (وزير بلا وزارة) ثم عدلت إلى وزير دولة.
    (3)
    في رواية رأفت الهجان المشهورة، لمحة تلفت النظر وتستدعي التأمل. فبعد أن حدثت هزيمة حزيران التي غيرت وجه المنطقة، بكى رأفت الهجان أمام سرينا أهاروني متسائلا عن سبب الهزيمة بعد أن وضعَ الجيشَ الإسرائيلي وقواعده العسكرية أمام القيادة المصرية؟ أثناء الحديث، قالت له أهاروني وهي يهودية من أصل مصري متعاطفة مع الهجان: لعلهم في الجانب الآخر مغلوبون على أمرهم.
    (4)
    تذكرني هذه الأحداث وما شابهها، بحوادث من التاريخ لم يتوقف عندها الدارسون كثيرا. مما أحب ذكرها لكم هنا.
    في فترة استيلاء البويهيين ثم السلاجقة على بغداد ضعف شأن الخلافة العباسية جدا، حتى صار الخليفة بلا خلافة. سأنقل لكم بعضا مختصرا (مع الإشارة إلى بعض المصادر) مما ذكرته في مقدمة كتابي (مجمل اللغة) الصادر من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الألكسو، معهد المخطوطات العربية سنة 1985م.
    كانت بغداد قبل دخول البويهيين في حالة من البؤس والدمار والفساد لا نظير لها حيث كثر اللصوص وكبست الدور وخرج الناس عنها هاربين إلى كل وجه على انسداد طرقهم، ولو أمنوا لخرج أضعاف من خرج حسب تعبير المؤرخين عامة. وقد روى الصولي في كتابه (الأوراق) حالة بغداد عام 333 هـ، إذ: (كثرت الكبسات ووثق اللصوص بالمصانعات والغرم (يقصد الرشاوي) فكبسوا الناس ليلا ولم يهابوا نهارا، واجتمعوا فكان يوافي دار الرجل المقصود جيش اللصوص بالليل بالسيوف والنشّاب، لو حوربوا لما وفاهم القليل... أما القواد فقد انصرفوا للاقتتال فيما بينهم وإلى أن ينهب بعضهم بعضا، فضج الناس من أعمالهم) ثم إن الخليفة المستكفي استتر عن الناس خوفا من الأتراك حتى دخل البويهيون بغداد وهرب الأتراك الذين سبق أن استجلبهم الخليفة المعتصم.
    ومنذ تلك اللحظة زالت الخلافة تماما، وصار الخلفاء بلا خلافة. يحدثنا المؤرخون أن معز الدولة البويهي أقدم على قتل الخليفة المستكفي ونهبت دار الخلافة. وهكذا كل من جاء بعده. حتى أن الخليفة المطيع كتب رسالة إلى معز الدولة حين طالبه هذا بمال للجهاد، قائلا: (المال يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وإليّ تدبير الأحوال والرجال. وأما الآن وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف فما يلزمي شيء، وإنما لكم الخطابة باسمي على منابركم تسكتون به رعاياكم. فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضا وتركتكم والأمر كله) (تجارب الأمم لابن مسكويه 2/307)
    ولم يكن الحال أفضل حين دخل الأتراك السلاجقة فكانوا يبايعون الخليفة ثم يقتلونه أبشع قتلة ويبايعون غيره، وهكذا. وقد حدث مرة أنهم حين بايعوا خليفة بعد أن قتلوا سابقه، سأله أحد شهود البيعة: كم ستطول مدة خلافتك؟ فأجابه أحد الحاضرين، ساخرا: سل بجكم وبقية الأتراك. وبجكم هذا كان خادما للخليفة. ولعل حَسَن الحظّ مِن أولئك الخلفاء مَن دامت خلافته شهرا قبل أن تُسْمَلَ عيناه وتُقَطّع أطرافُه.
    يا لبؤس تلك الأيام.
    ولله في خلقه شؤون.

    د. هادي حسن حمودي
    (باحث وأستاذ جامعي عراقي – لندن)
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media