شيء من اللغة.. يا رافلا بالخير
    الثلاثاء 16 أكتوبر / تشرين الأول 2018 - 12:58
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    في العربية تسميات جميلة بألفاظها ودلالاتها، ولكن قلّ اللجوء إليها والإفادة منها، لأسباب معينة، تعود لطبيعة المجتمع من ناحية، وللنوازع النفسية من ناحية أخرى.
    من ذلك اسم (رفل) الذي أطلق على حفيد لأستاذنا الكبير المرحوم الدكتور أحمد مطلوب وعلى صديق عراقي عزيز اسمه (رافل إسماعيل) فسألني المتابع الفاضل (بوعزة) من الجزائر، والصديق (أحمد محمود فاضل) من مصر عن معنى الرافل، وما يتفرع منه فاستطبت الحديث.
    يمكن تناول معنى هذا الاسم من عدة مداخل، أبرزها مدخلان، هما:
    1- أصل كلمة (رفل).
    2- تطور المعنى، من البادية إلى الحاضرة.
    أما أصل كلمة رفل فسأكون به بخيلا ضنينا، وذلك لتشعب الموضوع وسعته وعديد الأدلة والشواهد، من جهة، ولأن بعض الأفاضل استكثروا على كاتب هذه الحلقات الكثير مما نشر فنسبوه لأنفسهم أو لأساتيذ من بلدهم، تعصبا للقطر والانتماء، فارتكبوا إثما. ولمّا كنت لا أريد لهم ارتكاب مزيد من الآثام، فسأترك هذا الجانب من معالجة الموضوع إلى الكتاب الذي (أحلم) بإصداره متضمنا هذه الحلقات وأمثالها بتفصيلاتها وتفاصيلها. وأكتفي بشيء من معالجة النقطة الثانية، وإن كانت سرقتها إثما أيضا، ولكن هذا، إن وقع، شرّ لا بد منه. فأقول:
    إن تطور المعنى من البادية إلى الحاضرة شمل جميع الألفاظ العربية، وكمثال على ذلك، لفظ الحِكْمَة، فقد تطورت من الحَكَمة، بفتح الحاء والكاف، وذلك لمعنى جامع بينهما. فالحَكَمة بفتح الحاء والكاف تعني الحديدة التي توضع في لجام الفرس ليتحكم فارسها بمسيرها، ولولاها لانطلقت الفرس على سجيتها. ولا شك في أنكم شاهدتم عيانا أو في أشرطة السينما والتلفاز رفض الأفراس الأصيلة للجام وحَكَمته، حتى يروّضها المروّض على ذلك.
    والحِكْمة تؤثر في سلوك الإنسان كما أثرت الحَكَمة في الفرَس أو الحصان.
    كلمة (رفل) تعني في أصلها السعة فيما يُحب ويُراد. ولَمّا كانت الخيول في مقدمة ما كانوا يحبونه، حتى رووا حديثا (الخيل معقود في نواصيها الخير) فقد أطلقوا الرفل والترفّل عليها، فقالوا: ترفّل الفرسُ إذا كان سريع الجري واسع الخطو. وكانوا يحبون فيه غزارة شعر ناصيته وذيله، فأطلقوا عليه الترفل فيهما أيضا. وكذلك أطلقوها على الإبل والوعول وسائر ما أحبوه.
    ومن ذلك ما وصفوا به الثياب السابغة، خاصة ما كانت النساء تفتخر به، فتجر أذيالها مختالة متبخترة دالّة على جمالها وتعززها. وحتى الاختيال نفسه أخذ من لفظ (الخيل) لحب العرب لها. فهي تختال بجمالها، ولا أظن امرءا ينكر على الخيل اختيالها بنفسها وإدلالها بجمالها بطريقة مشيها. وأطلقوا ذلك الوصف في غزلهم أيضا، فقال قائلهم:
    يَرْفُلْنَ في سَرَقِ الحريرِ وقَزِّهِ
    يسحبنَ من هُدّابهِ أذيالا
    وكانوا إذا أرادوا تعظيم الرجل رفّلوه ليسود قومه، أي يصير سيدهم، كما في قول الشاعر:
    إذا نحن رفّلنا امرءا سادَ قومه..
    ودارت الأيام، واتسع معنى اللفظ ليشمل أمورا أخرى، فقالوا: عاش فلان حياة رافلة، أي واسعة الخير، سعيدة طيبة. وكان القوم يتمنى بعضهم لبعض حياة سعيدة فيكتب أحدهم لصاحبه: رفّلك الله بكل خير، أو جعل الله حياتك رافلة بالعزة. كل هذا استعارة ونقل للمعنى اللغوي الذي هو رفَلٌ لك من ربك، وأنت الرافل بذلك.
    وهذا الترفل قد يشمل بسطة الجسم فحسب، وليس هذا بموضع فخر، وقد يشمل الجسم والعقل، وهذا موطن فخر ومُنّة من الله كالذي جاء في قوله، تعالى: (قال إنّ اللّهَ اصطفاهُ عليكم وزاده بسْطةً في العِلْمِ والجسمِ).
    فالترفل توسع في كل معاني الخير، ولم أعرف ترفلا بالشر. ولكن لا يصح أن يأخذنا هذا الترفل إلى التكبر والاختيال في المشي والمسير، ولا الإدلال بالنفس وصفاتها.
    نعم، لك أن تترفل بعلمك وكرمك وشجاعتك وطيبتك، وان تترك الترفل الآخر لأهله، حسب قول الشاعر الهمام عمر بن أبي ربيعة، ساخرا:
    كُتب القتلُ والقتالُ علينا
    وعلى الغانيات جرّ الذيولِ
    يقصد ترفُلَهنّ بثيابهنّ، حتى لو كانت سراويل (الكاوبوي).
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media