تزامنت ذكرى ميلاده مع رحيله.. إيطاليا تستعيد «الرسام الفرويدي» جورجو دي كيريكو
    الأربعاء 17 أكتوبر / تشرين الأول 2018 - 17:06
    موسى الخميسي
                        بمناسبة الذكرى الـ 130 لميلاده والذكرى الـ 60 لرحيل الفنان الايطالي جورجو دي كيركو ، تشهد العديد من المتاحف والكاليريات في عموم ايطاليا ، معارض فنية احتفاءا بهذا الفنان. فهذا الرسام الذي ولد العام 1888 في اليونان من ابوين ايطاليين وقضى طفولته وصباه ما بين مدينتي فولا واثينا في اليونان، انتقل بعد وفاة الاب بصحبة  الام واخية  الكاتب الروائي البيرتو الى  مدينة ميونخ في المانيا ومن بعدها الى باريس، حيث صخب الحياة الفنية الفرنسية في ذلك الحين، يتشبع بكل الاساليب الرمزية والتعبيرية والسريالية التي طبعت اعمال كبار الرسامين في ذلك الحين.   
    ما زالت عملية تمثل الانتاج الفني العالمي من قبل بعض النقاد، ومنهم النقاد العرب، تصطدم ببعض المعوقات التي تعود بالأساس الى نقص في المعرفة والمعلومات والمصادر، ذلك بأن العمل الفني هو رهين بمعرفة العديد من الامور التراثية والميثولوجية التي يجب ان تمتد بموازاة الانتاج الفني كي تسد النقص الذي تحمله العلاقة ما بين العمل الفني والمشاهد، وسد هذا النقص لا يأتي الا من خلال توفر مفاهيم سائدة للتخيلات والقياسات والاطلاعات القائمة على معلومات مكتملة لا تحكمها القطيعة، ونحن نسوق هذه المقدمة من اجل ان نعيد الوقفة أمام لوحات هذا الفنان الايطالي التي حملت نتاجاته الفنية والتي امتدت الى اكثر من ثمانين عاما، الكثير من التساؤلات والاتهامات في الوسط الاوروبي، وكذلك الوسط الفني والنقدي العربي ووصل بعض هذه التهم الى الجدل في قضية تطور عمل الفنان والتكرارية في باطن اعماله، وشكل انتاجاته الفنية ومضامينها، ومراعاته الدائمة للقيمة التسويقية، مما حمل بعض اللوحات من الركاكة والضعف حداً كبيرا.

                           ان حياة الفنان جورجيو دي كيريكو( 1888- 1978) والذي اعتبر في فترة ما احد اركان المدرسة السريالية، وقد وصفه اندريه بريتون بأنه (الحارس في طريق يمتد على امتداد العين البشرية) مع انه انكر حتى آخر أيام حياته من خلال لقاءاته وتصريحاته، انه يمثل الاتجاه السريالي، بأنه قد اعتمد على مصادر واحدة تتحدد بالانحناء فترة ثمانين عاما على مضامين متماثلة، مثلت ثلاثة اتجاهات رئيسية في عمله، وهي رسم الساحات الموحشة ذات الانصاب العالمية، ورسم الانسان الحديدي ذو القناع الخالي من الملامح، ورسم الخيول، فكان اسير تلك المنظورات والتي بدأت ما بعد فترة الستينيات اقل اثارة مما لحق بفن الرسم في العالم من تطورات وصلت حدا أن يطلق على هذا التطور عبارة (التطرف الفني) ذلك ان مصادر الفنان الثقافية ظلت من دون ان تمتلك جاذبيتها في الوقت الذي يلاحظ به زميل له هو الفنان بيكاسو، يستعيد وباستمرار الصورة الانسانية ضمن اساليب ومعالجات بدأت غير مألوفة للموضوع الانساني، حيث اضحى كل اسلوب من هذه الاساليب التي ابتدعها يمثل سلسلة منهجية لها قوانينها الخاصة بها، وبهذا ظل بيكاسو الشخصية المهيمنة على التطور.

                           ان لوحات الفنان (دي كيريكو) التي وصفها الشاعر الفرنسي ابوللينير بأنها (الاكثر اثارة للدهشة) تتطلب العودة لخلق مراجعة لطبيعة المرحلة التي نمت بها الاتجاهات الفنية المختلفة ما بعد أعوام 1850 والتي تفجرت على شكل نزعات حديثة في بداية القرن العشرين، فخلقت مفاهيم واستخدامات متنافرة، ولا تمت بصلة لما يُسمى بفن الرسم التقليدي، وقد صاحب ذلك النهوض الكبير واقع الازمات الاقتصادية الدورية للمجتمعات الرأسمالية في ظل واقع نمت فيه المنافسات والكساد الاقتصادي، وسيطرت فيه التروستات والاحتكارات في الحياة الاقتصادية. وبدأ العالم الرأسمالي يقسم مواقع ثروته الاستعمارية، فكان عالم (دي كيريكو) نسيج ايقاعي ملون، ومحدد دار في تلك البقع التي مثلت ازمات المجتمع البرجوازي.

                           فاتجهت أعماله الى محاولة احتضان الطبيعة الانسانية من خلال الحلم، ومحاولته للاطاحة بالمظاهر الاجتماعية والقانونية، ووضع اللاشعور ليخلق العوالم الجديدة. وكان لتأثيرات نظرية فرويد اثر كبير على الفنان الذي انصب حلمه الطويل على الانسان الآلي، والساحات الموحشة المحملة بالرموز والاساطير، وظلت رسومه حتى السنوات الاخيرة من حياته، لا تمتلك صفات انسانية، فهي تتسم بالعزلة والوحشة الكبيرتين ، وتسودها المخاوف، فأول ما تعطيه للمشاهد هو ذوبان الواقع الذي يحيط به فيصبح المشاهد اسيراً مختنقاً لتلك العوالم السريالية التي تكمن وراءها كل الدعوات من اجل التخلص من الواقع، وترمز الى ان كل ما يحيط بالانسان هو عالم مخترع وصناعي مبتعد عن الحياة، ومما يزيد من تلك المشاعر هو استخداماته للخطوط الثقيلة والقوية والحادة التي تتدفق بالألوان المعتمة، وتشكو أكثر لوحاته الزيتية من العتمة في حين يلاحظ قلة الكثافة اللونية وهدوئها في سطوح اعماله الجرافيكية التي اعتمدت موضوع الحصان.

                           والفنان (دي كيريكو) الذي كان من أوائل الايطاليين الذين وقعوا على بيان الدادائية سنة 1920 كما انه اسس مع الفنان الايطالي (كارا) اتجاه المدرسة الميتافيزيقية، التي فسرها على انها (استشفاف الخيالات الاولى لفن اكثر اكتمالا، اكثر عمقا، واكثر  تعقيداً)، ويعتبر من وجهة النظر النقدية الايطالية بأنه أهم فنان ايطالي ساهم بأعماله في تعميق ودعم وتطوير الاتجاه السريالي وانجز اهم وأشهر أعماله ذات الطابع الخيالي اللاواقعي ما بين 1910-1917 اي قبل ما لا يقل عن ست سنوات من ظهور الحركة السريالية.

                            وقد ذاعت شهرته خلال السنوات العشر التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، تلك السنوات التي يسميها النقاد (سنوات الأوهام العشر) فقد حملت هذه السنوات الخلافات الاوروبية ومسبباتها وحق الدول المنتصرة في اقتسام مناطق النفوذ في العالم، وما رافقها من تضخمات في الثروات واتساع الحركات المطلبية التحررية، والتطورات العلمية في استخدام الآلة على أوسع نطاق، كل تلك الرياح عكست نفسها على المثقفين والفنانين الاوروبيين لتخلق لهم انطباعاً يحمل الانكسار بكل القيم التقليدية التي قامت عليها الحضارة الغربية.

                           وبعكس ما كان متوقعاً من دور لهذه التحولات في خلق التماسك الروحي والاخلاقي، فانها أدت الى زيادة الشعور بالغربة وساعدت على ازدياد حالة القلق، مما جعل الفنان على وجه خاص يتجه نحو الغموض والتعميه وتغليف الواقع. وقد تحول الشعور بالغربة لدى معظم الفنانين خلال السنوات العشر هذه الى يأس كامل أصبح هذا اليأس سمة اساسية من سمات العديد من الأعمال الفنية والتي خلقها الفنان الاوروبي كترجمة لمشاعره القلقة اعتقاداً منه بأن الفن لا يمكن ان يبدل شيئاً من الاوضاع القائمة.

                          وقد تفجرت هذه المشاعر في جماعة (ضد الفن) ومن بعدها بسنوات قليلة في جماعة (الدادائية)، الا ان السريالية التي ولدت في أحضان الدادائية عام 1924 واتخذت شكلاً محدداً في بيانها الشهير الذي اصدره الشاعر (اندريه بريتون) جاءت لتتخطى الحاجز الواقعي ولتحفر في المسيرة الثقافية الانسانية مجالاً جديداً للهروب، وذلك من خلال الالتصاق بالذات وبمكتنزات اللاوعي، وقد اعتبر مؤسسوا السريالية أعمال (دي كيريكو) اكثر عمقاً واثراً في الحركة السريالية من أية أعمال فنية أخرى.

                           ومع (دي كيريكو) انتقلت اللوحة لتعكس غربة الانسان عن عالمه وشعوره بالعجز والمخاوف المجنحة للحد الذي اصبح هذا الانسان وكأنه شيئاً من الأشياء، يحمل الضآلة والانحلال، والتفكك والعزلة والفراغ وهو يعيش داخل مدن مقفرة للحد الذي اصبح وجوده لا يعدو ان يكون آلة اشبه بمنتجات المصانع يمكن تفكيكها الى أجزاء صغيرة، فأصبحت لوحاته أيضاً نماذج منبثقة عن العوالم الداخلية، عوالم أقرب الى الحقيقة الذاتية من العالم الخارجي المعروف، وهذه العوالم هي عوالم العقل واللاشعوري أو الباطني.

                           وقد عززت هذا الاتجاه المدرسة الفرويدية التي وجدت مفتاح كل تشابكات وتعقيدات الحياة في مادة الحلم الانساني، ولهذا فان (دي كيريكو) وجد الهامه في ترجمة الاحلام والغور بعيداً من اجل النفاذ الى محتويات اللاشعور المكبوتة للانسان، حيث يمثل الشطر الاعظم من الحياة وهو مغمور، والانسان حسب رأي فرويد ينجرف في تيار الزمن كجبل الجليد، لا يطفو منه سوى جزء صغير فوق مستوى الوعي، وهدف الفنان هو محاولة ادراك أبعاد وسمات هذا الكيان المغمور.

                           أعماله التي رسمها بين 1910-1930 تمثل عالما غريباً لا حياة فيه، اشبه بعوالم المدن الاسطورية المتهدمة تجتمع فيه الاعمدة والأبراج والجدران والقطارات والحراشف والتماثيل اليونانية القديمة، والمدافع والمعادلات الرياضية والمعابد القديمة، كلها رموز مرسومة بدقة تبدو وكأنها منبثقة من حالة التخيل اللاواعي، ويساعد على السمات الايهامية المثيرة والمقلقة للاطمئنان النفسي الذي تثيره سطوح لوحاته والتي تصل بعض الأحيان الى اقصى حدودها الحسية في خلق المزاج الكئيب. تخطيط الشوارع أصبح محيراً بصورة غامضة وكأنه يرى من خلال العينين المغمضتين للذاكرة وللحلم، يتجمد الزمن ويقف وقفة ازلية في مساء يبدو كل شيء فيه هادئا، وتتوقف فيه عقارب الساعات التي تزين واجهات القصور: انه لغز الساعة.

                           كما تعبرعنه العديد من لوحاته. في الشوارع المقفرة تبدو اللحظة (كما وصفها الفنان في قصته المعنونة (ايبدوميروس) وكأنها لعبة ضخمة وضعت بعد محاولات عديدة في مكانها النهائي، الا ان الظلال القاسية للتماثيل وللقصور تبدو أكثر واقعية وأكثر حضوراً من نسخها الاصلية.

                           كتب (دي كريكو) يقول احدى المرات (لكي نصف نتاجا فنيا بالخلود، يجب ان يتجاوز هذا النتاج الحدود البشرية: التفكير السليم، والمنطق يعتبر ان نقيضه اذا وجد في النتاج. وهكذا يقترب الأثر الفني من الحلم ومن التفكير الطفولي).


    روما: موسى الخميسي 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media