نَهْيٌ... وعَتَب
    السبت 3 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 - 08:24
    أبو تراب كرار العاملي
    في الحالة الأولى: حوارٌ بين طرفَيْن، أَخْذٌ ورَدٌّ، قيلٌ وقال، خلافٌ في وجهات النظر، تبايُنٌ في الآراء، انقسامٌ في التوجه، إلا أنه في واقع الحال أحدهما على حق والآخر خِلافُه، أي على باطل. والذي على باطل يُسيء التصرف ويتَّبِعُ مساراً غير أخلاقِيّ بتجلياته المختلفة: غَصْبُ حقّ، رفع صوت، قلة احترام، حركات استفزازية وتصرفات غير عقلائية، تسلح بالكذب واستعانة بالحرام، وغيرها من المسلكيات المُشينة التي تُظهر دناءةً في مستوى فاعلها. وفي المقابل، ردّةُ فعلٍ طبيعية من المظلوم، سنقتصر على بعض مصاديقها ـ ذات الطابع السلبي ـ والتي قد تتجسد بشتم الظالم والانهيال عليه بالألفاظ البذيئة ونحوها من الإساءات الكلامية المنبوذة عند أهل العقل والتعقل وذوي الألباب الحضارية والعقول الراقية. وعليه، في هكذا سياقات، حيث التهجم السلبي الظالم والرد غير المنضبط... نقول: نَهْيٌ... وعَتَب.

    في حالة ثانية، في ميدان الإجارات، مُؤَجِّرٌ ومُستأجِر، حان وقت الدفع والاستلام، وإعطاء الحق لصاحبه، فيطالب الأخير بحقه فلا يلقى تجاوباً، يحاول مرة وأخرى، حثيثاً وتداوماً، فيضيق ذرع "المُطالَب" وينفجر غضباً ومعلناً عن عدم نيته الدفع، لتكون النتيجة المقابلة انهيال الشتائم من المغصوب حقه على الغاصب و"تزفير" اللسان بما هبَّ ودبّ من مفردات كذائية مذمومة ومرفوضة، يرفضها الدين والعقل، لنعاود ونكرر المقولة ذاتها ـ للمنتَهِك والمنتَهَك ـ ومفادها: نَهْيٌ... وعَتَب.

    أما ثالث الحالات، فقد تُلمَس في عالم الخدمات الاجتماعية، السلطة والحكم، حيث الرئيس والمرؤوس، فالأول مُناطٌ به تقديم الخدمات ولوازمها للثاني، وإذ به يتخذ من التقصير منهجاً ومن السبات منزلاً ومن التقاعد مآلاً مبكراً، ويغدو مُغرّداً في صومعة من "التخدر" لا يُعلَم زمان استيقاظه لتزداد الأوضاع سوءاً وانهيارا، فتحضر الطريقة المقيتة من الطرف الآخر: شتمٌ وألفاظ فاحشة... فيحضر التعليق ذاته: نَهْيٌ... وعَتَب.

    لا بأس برابعة، وذا في محضر الأبوَيْن قد يُلاحَظُ، أمٌّ تطلب من ضناها خدمة، وهي في واقع الحال كنزٌ أُخرَوِيٌّ تَشْرَئبُّ له أعناق الأولياء الصالحين إذ أنها تقذف بهم أميالاً في سُلَّم الارتقاء والتقرب من الباري(جلَّ وعلا)، بيد أن الغلام "المسكين" ينتفض مُتَأَفْئفاً لا يعجبه الحال ـ لسببٍ تافهٍ أو لآخر أتفه ـ فيرد ـ بئسما رَدٍّ ـ على مَنْ أنجبته ورعرعته وتحملت المشاقّ في تنشئته ويرفض تلبيتها، هذا فضلاً عن المكاسب التَّرقوية التي فوّتها على نفسه في لحظة غفلة يعتريها جهلٌ وقلة عزيمة وفقدان بصيرة، فتعود "منبع المحبة وإكسير الحنان" بالدعاوي الغير المسؤولة ـ كلا لستِ معذورة يا غالية ـ على مَنْ مرَّ في زمان ما في حشاها... فتأتينا العبارة ذاتها: نَهْيٌ... وعَتَب.

    محطةٌ خامسة تُعَرِّج بنا الى الأحياء السكنية، حيث الواحد يُجاور جارَه، فتبوح لنا الجيرة بالتحامات تنفضُّ مفرداتها على حسنٍ في التعامل وسوءٍ في التعاطي، وفي الثانية روايات من قبيل "ماء يتساقط من الأعلى" و"موقف قد أُخِذَ غصباً" و"صراخ يعلو" و"هتاف يدنو" و"كهرباء قُطِعَت" وما شِئْتَ فاستكمل من الأمثلة، فيستنفر المُستضعَف مُجرِياً على لسانه فاحشَ الكَلِمِ ودنيء العِبَر... فنعود الى الوضعية نفسها: نَهْيٌ... وعَتَب.

    أما سادس الحالات وسابعها وما بعدهما فنتركها لِمُخَيَّلة القارئ العزيز ونذهب نحن الى لَمْلَمة تقييمية تفيدنا بقاعدة عامة مشتركة لجميع الحالات ومفادها: نَهْيُ عن المنكر للظالم... وعَتَبٌ على طريقة رَدّ المظلوم عندما تكون غير أخلاقية وبعيدة عن المسار الأدبي. فعلى الظالم - بشكل عام - أن يتَّقي الله في عباده ويكف عن الظلم والإجحاف، وعلى المُستأجر أن يقوم بمهامه - إيصال المُستحق لأهله - حين دُنُوّ موعده، وعلى الحاكم أن يدرك أن السلطة مسؤولية خطيرة في عنقه قد ترقى به الى أعلى عِلِيّين كما أنها قد تودي به الى أسفل سافلين، وعلى الابن - والابنة - أن يكونا على حذر في التعامل مع الأبوَيْن والحرص على عدم إزعاجهما - فضلاً عن إغضابهما - وأن يخفضا لهما جناح الذل من الرحمة، وعلى الواحد التنبه - بشدة - على عدم أذيَّة الجار من حيث يدري أو لا يدري، ومعاملته بحضارة وإنصاف والترفع عن توافه الأمور وصغائرها (وطبعاً هذا منحى عام يشمل جميع الخلق وليس فقط الجار)، ويُستطرَد المسلك الحسن والتصرف الخلوق في باقي الحلات وتفرعاتها.

    أما الوقفة في دائرة العتب، فتستقر على إرشادٍ عام يقضي بأن على المظلوم عدم التهور وأن يحذر من فلتات لسانه، ففاحش القول لن يُرجِع حقّه وقد لا يضر الظالم بشكل مباشر، بل على العكس فإنه يضر نفسه ويسيء إليها ويُنزِل من قيمتها المعنوية وتوجهها المسلكي، فالمطلوب مجابهة الظلم بالطرق المشروعة والقانونية والله المُوَفِّق. وعليه، عليك بالصبر أيها المُؤجِّر ونَظِرةٌ الى مَيْسَرة، وابتعد عن التجريح أيها المواطن وانتقد بالأطر القانونية، وإياكما والانجرار خلف الدعوات الشيطانية - أيها الأبوَيْن الحبيبَيْن - والتي لا تخرج من قلبَيْكما على الأغلب، وتمهَّل أيها المتضرر من الجار وبادل الآخر بالتي هي أحسن لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرا، وتُستطرَد وجوه الخير في باقي الحالات، لتنمو حصاداً باهراً في تلك الدار، فما كان لله ينمو، ولا يضيع عنده عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى... والله خير الرازقين... والمُعَوِّضين.

    [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].

    أبو تراب كرار العاملي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media