الصدريون – من اجل استعادة الحوار 1- السياسة وحاجز التقديس
    الأثنين 5 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 - 08:29
    صائب خليل
    لا اذكر إني كتبت قبل عام 2009 مقالة انتقدت فيها سياسة التيار الصدري أو السيد مقتدى الصدر او قراراته، بل كان موقفي دائما دفاعاً عن هذا التيار الأنقى في معارضته للاحتلال ولكل ظلم، حتى الظلم الكردستاني والـ 17% التي فرضها مرشح التيار الحالي، الذيل الأمريكي سيء الصيت، عادل عبد المهدي. وربما انني أيضا لا أذكر مقالة انتقدت فيها التيار بعد ذلك التاريخ (لانقلاب مواقفه السياسية لتصب في صالح اميركا، رغم استمرار العمليات العسكرية لأكثر من سنة بعد ذلك)، إلا وتحولت تعليقات المقالة الى شتائم، واحياناً ابشع أنواعها! 
    هذا مؤسف حقاً، فأنا متعاطف جداً مع معظم المواقف المعلنة لمقتدى الصدر، وكذلك مع آل الصدر عموماً، وخاصة السيد محمد باقر الصدر الذي كتبت عنه اكثر من مرة ممتدحاً كتابه "اقتصادنا"، وربما أكون الوحيد الذي قمت بالدعوة إلى دراسة إمكانية تطبيقه فعلياً في العراق. 

    القصد من هذه المقدمة ان ابين ان انتقاداتي الحالية للتيار، لا تنبع من معاداتي للسيد مقتدى ولا لعائلته، كما اني لم اغير قناعاتي ومواقفي، إنما اعتقد بأن السيد مقتدى الصدر، قد تغير، بل انقلب تماما، ولم يبق من مواقفه السابقة إلا ما اسميه "قنابل صوتية". وما دفعني الى كتابة هذه السلسلة من المقالات (أتصور انها ستكون ثلاثة) هو اعتقادي الجازم بأن التيار الصدري يحتوي مجموعة من اكثر العراقيين اخلاصاً لبلادهم وربما اكثرهم طيبة، رغم قساوة كلامهم أحيانا. وايماني أيضاً بأن مواقفهم وقلوبهم لا تختلف بأي شيء عما أؤمن به بالخطوط العريضة، إلا أن المشكلة الأساسية هي في انقطاع إمكانية التواصل والنقاش، ليس فقط بين الصدريين وبيني، إنما بينهم وبين كل المختلفين معهم، وهذا خطير، فالمختلفون مع الصدريين بطبيعة الحال، هم الأغلبية. 

    الصعوبة في مناقشة الصدريين هي انهم ينطلقون من الثقة التامة بكل ما يقوله السيد مقتدى الصدر. وهذه الثقة المطلقة لا تشمل صدقه وأمانته فقط وإنما أيضاً حكمته ووفاءه بوعوده وقدراته السياسية الفائقة وكل ما يتعلق به! وقد ازدادت هذه الثقة خاصة بعد النجاح في الانتخابات وتشكيل الحكومة الأخيرة. 
    ومشكلة الصدريين في الحقيقة هي إنهم ينقلون "القدسية الدينية" إلى الميدان السياسي! فيتعاملون مع السياسة تماماً كما يتعامل الآخرون مع الإيمان، بل أن المؤمن يقول كفراً احياناً في حالة الغضب مثلا، أما الصدريين فلم اسمع من أي منهم يوماً كلمة توحي ان هناك حتى إمكانية خطأ يقوم بها السيد مقتدى الصدر. ولأن اغلب الناس لا يشاركون التيار هذه الآراء، دع عنك ان يعتبرونها بديهيات ومسلمات فوق النقاش، فقد صارت هذه القدسية حاجزاً بين الصدريين والآخرين.

    ويبدو لي ان هناك من يعملون عمداً لزيادة ارتفاع ذلك الحاجز، من خلال دفع الصدريين نحو المزيد من التطرف، وبأساليب نفسية مدروسة ومنتشرة بين الجماعات الدينية. وفي الاعتصام البرلماني الشهير، كان هناك جماعات تزحف على الركب لتصل الى خيمة السيد مقتدى، وآخرين يتباركون بعجلات سيارته، كما كان هناك شخص يهتف بشعارات مبهمة وكأنه تحت تأثير مخدر، توحي كلماتها ان الصدر لا يقل عن الإمام الحسين، بل قد يزيد! 
    هؤلاء ومن يقف وراءهم، حسب علمي، غير معروفين حتى بين الصدريين انفسهم. فحينما ظهرت انشودتان تقدسان الصدر وتحتويان عبارات عنف وإرهاب لخصومه وتحريض واضح ضد من لا يطيعه، وهما منتجتان بإتقان وفق الحان حقبة الحرب الصدامية الإيرانية، بدا من النقاش أن لا الصدريين ولا غيرهم يعرفون من انتج تلك الأناشيد!

    ولا يقتصر التقديس على رفع مقتدى فوق الحسين، بل النبي نفسه، ليشبه أحياناً بالذات الإلهية نفسها! على مقالتي الأخيرة كتب احدهم معلقاً بأن الصدر "هزم الأحزاب وحده!" (في إشارة الى حديث يشير فيه النبي إلى الله). فسالته هل الصدر هو الله إذن؟ فلم يؤكد ولم يرفض، بل اجابني بشكل غامض " ما كان لله ينمو"! لست هنا بصدد اتهام الصدريين بأي شيء، إنما اشير الى الجو المقلق الذي يعيشون فيه ويتحدثون فيه فيما بينهم حين لا يكون هناك من يعترض. وما "ينمو" في هذه الأجواء هو "الغلو والتطرف" لا غيرها. 
     
    إن بدا هذا للبعض اتهاماً ظالماً للصدريين، فأقول بل ان نسبة ليست قليلة منهم لا تخجل من ذلك الغلو والتطرف، بل هي سعيدة به وتتلذذ بالشعور بالقوة وبلعب دور (تابع لـ) الدكتاتور الذي يجبر الآخرين على طاعته! كتبت في المقالة السابقة: "واجزم ان معظمهم، ولأسباب نفسية اجتماعية تعود لما تعرضوا له من تهميش طويل، سعداء بهذا المشهد الذي يجعل منهم "كباراً" ويعطيهم دور "المخيف" بدلا من "الخائف". وهناك بالفعل كما يبدو من يحاول بث هذا النوع من "السعادة" في داخلهم عمداً. وهذا يعني ان هذا الأسلوب سيأخذ زخماً اكبر في المستقبل على مستوى الشارع أيضا." 

    وبالفعل عبر البعض عن اعجابهم بما حدث، وكتب احد الصدريين: "الحكم للقوي والصدر هوة القوي بعد الله"! لا حاجة للقول بأن هذا لم يكن خطاب الصدريين عندما كنت أدافع عنهم بكل قوة، عندما كانوا يتعرضون للقتل وحرق البيوت من قبل عصابات القوات الخاصة التي اسستها اميركا، وكان غالبية افرادها من المجلس الأعلى، بل كانوا، رغم بسالة موقفهم، يشكون "الظلم" ويطالبون بـ "العدل"، ولو قال أحد لهم حينها بأن "الحكم للقوي"، وأن الأمريكان "من حقهم" ان يبقوا في العراق لأنهم أقوى الدول، أو أن من حق عصابات المجلس الأعلى أن تقتلهم لأنها "الأقوى"، لاستشاطوا غضباً واعتبروه منافقا. ما يحدث اليوم هو النفاق بعينه، حين تطالب بـ "العدل" و "احترام القانون" مادمت ضعيفاً، وترفع شعار "الحكم للقوي" عندما تشعر أنك لم تعد بحاجة للقانون، لأنك ترى أنك أنت الأقوى! 
    طبيعي ان هذا الإحساس بالقوة، لذيذ بشكل يصعب مقاومته، لذلك يحتاج الإنسان الى الأخلاق والثقافة لتذكره وتنبهه إلى حقيقة مشاعره، وتساعده على مقاومة الإغراء بالتسلط، وأن يرفض ان يكون في خندق الظالمين. ولا اعتقد ان احداً يشك بأن هذه النقطة من اساسيات مدرسة آل الصدر، وأدبيات الإمام علي، والإسلام ككل، بل والإنسانية عامة، وأن من يستسهل التخلي عنها لأية حجة، يضع بنفسه علامات استفهام على انتمائه إلى كل من هذه المدارس. 

    الصدريون يقتنعون بكل ما يقوله او يفعله مقتدى الصدر، لمجرد أن مقتدى الصدر يقوله او يفعله. إنهم لا يقرون صراحة بأنه "معصوم" (لأن هذا خطأ واضح من الناحية الدينية) لكنهم يعاملونه كمعصوم بالفعل! 
    والسؤال الأساسي الذي يجب ان يواجه الصدريون به انفسهم هو: هل يطمحون إلى حكم العراق وحدهم وحسبما يأمرهم الصدر به، وبغض النظر عما يراه الآخرون، ليؤسسوا دكتاتورية جديدة باسم آل الصدر؟ أم يطمحون إلى أن يسهموا في الوصول إلى حكم ديمقراطي لجميع العراقيين؟ إن كان الجواب على السؤال الأخير بالإيجاب، اليس صحيحاً أنه لا مفر من أن تكون لهم قدرة على اقناع الآخرين وكسب أصواتهم، كضرورة من ضرورات الوصول الى شكل الحكم الذي يرضيهم؟ اليس من البديهي ان يطوروا مهارة النقاش وفعاليته لكي يمكن لهم إقناع المقابل بفكرتهم؟ 

    فمثلما ان من حق الصدريين ان يقتنعوا أو يشككوا بما شاءوا ومن شاءوا، لغير الصدريين الحق أن يقتنعوا أو يشككوا بكل ما يقوله ويفعله مقتدى الصدر. وهم يرونه شخص اعتيادي ليس له اية ميزة بل ان حظه من التعليم قليل، ويطالبونه بالبرهان على ما يقول وبالوفاء بالوعد. إنهم لا يشعرون بأنهم مضطرون لقبول ابسط الحجج كأدلة وبراهين كما يقبلها الصدريون منه، بل يتعاملون مع الحقائق بقسوة، كما يفعلون مع بقية الساسة، لأن مقتدى الصدر في نظرهم شخص سياسي يجب ان يطالب بتقديم براهينه وأدلته مثل غيره. أما بالنسبة لأتباعه فهو رجل ذو قدسية دينية، وهنا المشكلة. 
    لماذا لا ينسجم الدور السياسي مع شخص مقدس؟ ولماذا يكون من الصعب ان تمارس مجموعة ما، السياسة بقيادة شخص مقدس دينياً، ولا يصعب ذلك عندما يقتصر الأمر على المشاعر الدينية وطقوسها؟  
    نقطة الفرق الأساسية هي ان القدسية الدينية شأن خاص بكل فرد وكل جماعة، ويمكن للجماعة ان تنعزل بمعتقداتها دون ان تؤثر بالضرورة على بقية الناس. اما السياسة فتحدد مستقبل البلاد كلها، أي ان تأثيرها لا يقتصر على الجماعة وحدها بل على مجموع الشعب. وبالتالي فمن حق جميع افراد الشعب ابداء رأيهم بشكل الحكم السياسي ومن الذي يقوده. وأن يكون للناس حرية النقد والحديث عن الساسة والقادة بكل حرية، وبدون تمييز في الاحترام والتقديس. فمثلما يمكن ان يتهم سياسي ما بأنه "لص" او "كذاب"، يتوجب على أعضاء الجماعة الدينية أن تقبل مثل هذا الوصف لقائدها من قبل الآخرين، وأن لا ترد بخشونة. لكن هذا مستحيل، فنلاحظ في المناقشات السياسية تكرار مطالبة الصدريين الآخرين بالكلام عن مقتدى باحترام خاص، والآخرون يرفضون معاملته بأية خصوصية تزيد عن غيره لأنهم يرون في ذلك تحيزاً يضع الصدر فوق قياداتهم، ولا مبرر له من وجهة نظرهم. فالسياسة مكان عام للجميع، وليست معبداً خاصاً لتقديس شخصية دون غيرها، ومن لا يتحمل أن يعامل قائده كما يعامل قادة الآخرين، عليه ان يتوقع رفضهم له.

    إذن، قدسية القائد السياسي، رغم فعاليتها الكبيرة المدهشة من جهة، في اخراج التظاهرات مثلا، فإنها من الجهة الأخرى تمثل صعوبة حقيقية في التواصل، وحاجز بين اتباعه وبين الناس التي لا تراه مقدساً وتريد معاملة عادلة لقياداتها وآرائها. والمشكلة المستقبلية الخطيرة هي أن للتطرف في تقديس القائد، لذة لا تسهل مقاومتها، ولذلك فهي تتمدد بذاتها. وكما قلت، فهناك مؤشرات أن هناك جهات مجهولة تسعى كما يبدو إلى تسريع ذلك التمدد وتقوية ذلك الحاجز، من خلال تأليف الأناشيد المشحونة بالعنف والإرهاب تجاه الآخر الذي قد تسول له نفسه الوقوف بوجه التيار. والحقيقة ان من يدرس النشاطات للجماعات الفاشية والنازية، يكتشف أن الأدوات التي استعملت لدفع تلك الجهات إلى التطرف والانعزال والعنف، تشبه إلى حد بعيد ما تحاول به الجهات المجهولة التأثير على جمهور التيار الصدري وعزله عن بقية الشعب، وتشويه سمعة كل من لا يتفق معه. 

    لا احد يستطيع ان يمنع احد من ان يقدس من يشاء، ولكل منا مقدساته، لكن علينا ان نفهم أن ذلك التقديس إن تعدى الحدود الطبيعية، فإن فائدته ستنقلب ضرراً، وأنه سيزيد صعوبة الحوار، ويزيد عزلة أصحابه ونظرة الاخرين اليهم بقلق كتهديد لمستقبل بلادهم وليس كعون لهم، مهما كانت نوايا ذلك التيار طيبة ومخلصة. فربما لم يكن هناك في بريطانيا انقى وأصدق من البيوريتانيون، لكن ذلك لم يمنع أن يكرههم الشعب إلى درجة أنهم قبلوا بإعادة الملكية لمجرد التخلص منهم! 

    الوعي بهذه الحقيقة قد يساعد على تجاوز اشكالاتها ودرء أكبر اخطارها. وأهم ما يمكن عمله هنا هو وقف هذا الاتجاه في تطرف التقديس المتمدد بلا حدود عقلانية، وتقلص متزايد في دور العقل في الحكم، وإعادة التواصل بين الصدريين وغيرهم ووضع أسس صحيحة وسليمة للحوار، وبلا تأخير. فالوطن في وضع خطير جداً ولا يتحمل اصطدامات كبيرة بين أبنائه. المسؤولية الأكبر في هذا الأمر يفترض ان يتحملها قادة الصدريين انفسهم، فهم الأقدر على تعديل الخلل، لكني لا أجد أية طريقة للتواصل مع هؤلاء، فلا يبقى إلا ان نأمل أن يقوم الجمهور الصدري بنفسه بهذه المهمة وأن يكون لديه الوعي لمقاومة إغراء القوة وكشف من يريد جرجرته إلى الانعزال، ورفض ذلك بحزم والإصرار على البقاء مع الشعب كمعين له، وليس تهديد لحريته. 
    في الحلقة الثانية أحاول تلخيص رأيي في ما يجب اتباعه بشكل محدد من اجل القيام بخطوة مؤثرة في اتجاه تصحيح العلاقة بين الصدريين وباقي الشعب العراقي، وفي الحلقة الثالثة سأضع أهم النقاط المحددة التي نختلف فيها نحن غير الصدريون مع الصدريين، وكيف يجب حلها في تقديري، مع اقتراحات محددة لتطوير فعالية النقاش والخروج من حالة الشتائم إلى حالة أرقى بكثير، تخدم من يتبعها، بغض النظر عن رأيه الذي يدافع عنه. 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media