إرهاب العشائر في العراق
    السبت 17 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 - 18:33
    صادق الطائي
    وجه مجلس القضاء الأعلى، يوم الخميس 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بالتعامل مع قضايا ما يعرف بـ»الدكات العشائرية» وفق قانون مكافحة الاٍرهاب. وقال المجلس في بيان صحافي رسمي، إنه «يعتبر جرائم التهديد عبر ما يعرف بـ(الدگات العشائرية) صورة من صور التهديد الإرهابي، وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الاٍرهاب». موجهاً بـ»التعامل مع هذه القضايا وفق القانون المذكور». إذ تشهد عدة أحياء في بغداد والمحافظات تنامي المظاهر العشائرية المسلحة، وصولا إلى معارك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل الأحياء السكنية، وتسبب بسقوط العديد من الأبرياء ضحايا نتيجة كثافة الرمي بمختلف الأسلحة في هذه الاشتباكات، ما مثل تهديدا لحالة الاستقرار الأمني الهش الذي تتمتع به مدن العراق.
    «الدگة» العشائرية مظهر مسلح خطير، يقع عادة بعد حدوث مشكلة بين عشيرتين، إذ تلجأ العشيرة الأولى إلى اشعار العشيرة الخصم عبر تهديدها بمظاهرة مسلحة، وتكون عادة بقدوم عدد من المسلحين وإطلاق النار على بيت الخصم بشكل كثيف بغية إخافتهم، بشرط عدم قتل أو جرح أحد من ساكني البيت، لتكون العشيرة المهددة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاعتراف بالخطأ وجلب وفد للتفاوض وحل المشكلة عبر ما يعرف بالفصل أو الدية العشائرية، وهو دفع مبالغ مالية، أو مواد عينية، وقد يصل الامر في بعض الاحيان إلى اعتبار النساء جزءا من الفصل العشائري، أو اللجوء إلى الخيار الثاني، وهو التجهز للقتال الذي سيبدأ وفقا لضوابط النزاعات العشائرية المتعارف عليها.
    العشيرة، وكما هو معلوم، بناء اجتماعي أساسي في مجتمعات ما قبل الحداثة، ومن الطبيعي أن تكون لها سطوتها في المجتمع الريفي أو البدوي في العراق حينذاك، كما كان الأمر متماشيا مع ظروف العمل في مجتمعات ما قبل الحداثة التي تشمل النشاطين الزراعي أو الرعوي بشكل رئيس. وكان بإمكان السنن والاعراف العشائرية أن تحل المشاكل البسيطة التي تواجه مجتمع بسيط وغير معقد، ومن ناحية أخرى لم تكن سيطرة أجهزة الضبط في الدولة، كالشرطة والمحاكم والسجون تمتلك القوة والكفاءة الكافية التي تمكنها من توفير شروط الحياة الامنة للمواطن في تلك المجتمعات. لذلك لعبت العشيرة دور الحصن الذي يحمي أفرادها من هجوم الأعداء، كما يضمن نظام تكافل اجتماعي صارم على كل فرد من أفرادها في حالات الكوارث الطبيعية أو الحروب أو المجاعات والأوبئة. لكن مع تغير المجتمع العراقي، وتحوله نحو أنماط الحداثة في الحياة منذ حوالي قرن من الزمان، أصبح وجود نسق العيش العشائري في المدن حالة غريبة مرفوضة، لكن لم يتم التخلص منها بشكل تام.
    المتابع للمجتمع العراقي يعرف جيدا أن العشائرية، كنمط عيش، كانت قد وصلت أدنى مستوياتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأدى زحف الحداثة المتنامي الذي وصل حتى الأرياف، إلى تراجع نمط العيش تحت ظل العشيرة، وبات التعلق بسننها ونواهيها وضوابطها من الأمور التي تحسب على التخلف. لكن هذا لا يعني إنكار وجود هامش كبير نسبيا من أنماط السلوك التقليدي، أو المحافظ في العراق، إلا أن ذلك يمكن أن يعزى إلى عدة أسباب وليس للعشائرية فقط، ومنها نمط السلوك الديني في مجتمع محافظ كالمجتمع العراقي، وإيقاع التغيير الذي تباطأ لأسباب سياسية أو اقتصادية عديدة، ومع ذلك كان الأمر يبدو وكأنه، بخطه العام، سائر باتجاه انحسار السلوك العشائري والتوجه بقوة نحو المدينية والحداثة.


    العيش في المدن، وحتى في الارياف التي تتواجد بقرب المدن، لتقدم خدماتها للمدينة، يفرض نمط حياة قائما على الفردية والاعتماد على النفس، ويشمل ذلك الرضوخ للمنظومة القانونية التي تتعامل مع العقوبات بشكل فردي في حالة الخطأ، كما تتعامل من ناحية أخرى مع المكاسب والمكافآت على أسس فردية في حالة النجاح. بينما يتطلب العيش في ظل قيم العشيرة التعامل مع نمط حياتي معاكس لذلك تماما، إذ تختفي قيمة الفرد مقابل سيادة قيم الجماعة، التي هي العشيرة، لتعم منظومة العقوبات المجموع نتيجة خطأ فرد واحد، وقد يقود ذلك إلى حرب ضروس تدافع فيها العشيرة عن أحد أفرادها، وهذا أمر طبيعي وكثير الحدوث، كما أن ريع الإنتاج ومكاسب المعارك يتوزع على الجميع. فهل توجد إمكانية للعيش بهذه الطريقة في مدننا اليوم؟
    وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة في موضوع القيم العشائرية ونوعها ونمط العشائر الموجودة في مدننا اليوم. فقد يحلو للبعض القول إن المجتمع العراقي بطبعه مجتمع عشائري، واعتبار هذه المسألة من المسلمات، لكن الحقيقة أن هذا الامر من الخرافات الاجتماعية التي يحاول البعض ترسيخها، فعشائر بداية القرن العشرين التي كانت تعيش ظروفها التاريخية الطبيعة، تختلف بشكل كلي عن عشائر نهاية القرن العشرين التي نفخت فيها الروح، بعد أن كادت تنتهي كظاهرة اجتماعية، وقد حدث ذلك لأسباب سياسية. الذي حدث أن نظام صدام حسين في التسعينيات، وبعد خروجه مدحورا من الكويت، وبجيش مدمر بسبب الانتفاضة الشعبية، التي سلبت ثلثي مدن العراق من سيطرة حكومة بغداد، أحس بالحاجة إلى نفخ الروح بهياكل اجتماعية تكاد تختفي من المجتمع. كما فرض النظام تماسكه بفضل تحويل نظام الحكم من سيطرة الحزب الواحد إلى نمط من السيطرة العشائرية على الحكم، لعبت فيه عشيرة الرئيس والعشائر القريبة منها الدور المحوري في الإمساك بزمام الحكم، لذلك سعى النظام لدعم العشائرية لتساعده في استعادة سيطرة قبضته الحديدية على المجتمع، بعد أن تراخت ووهنت بسبب العوامل المذكورة، وبشكل خاص في مجتمعات المدن البعيدة عن العاصمة، التي لا تستطيع الدولة السيطرة عليها، فولدت حينها ظاهرة عرفت بـ»شيوخ ام المعارك» أو «شيوخ التسعينيات»، وهي مشيخات قبلية غير حقيقية، ولا جذور تاريخية لها، دعمها النظام بالمال والسلاح، مقابل أن تلعب دور السوط الذي يجلد به نظام الحكم رعاياها القبليين المغلوبين على امرهم المتضورين جوعا بسبب العقوبات الاقتصادية.
    تنامت ظاهرة العشائرية المزيفة وتغولت بعد سقوط النظام، فقد تحركت زعامات كارتونية في مجتمع انهكته الحروب والحصار، لتشكل هياكل وهمية بأسماء من قبيل «تجمع قبائل مدينة بغداد»، أو «اتحاد قبائل الفرات»، أو «إمارة قبائل..»، لتقدم نفسها لإدارة بول بريمر بحثا عن الدعم المالي والنفوذ السياسي، في ظل مجلس الحكم الذي حظي بعضويته، عدد من هؤلاء الزعماء العشائريين. وبجهود بعض الكتاب الانتهازيين الذين كتبوا التقارير الوهمية التي ادعت أن القبيلة نمط من انماط مؤسسات المجتمع المدني، التي تمثل هياكل اجتماعية منوط بها أن تلعب دورا وسيطا بين الدولة والمجتمع. وكل ذلك عار من الصحة العلمية طبعا، وهو عبارة عن خلط ولغو غير علمي.
    ان «عشائر المدن» في عراق اليوم اصبحت ذات سلوك هجين، وقد ضيعت جميع (المشيات)، فلا هي عشائر تقليدية تتبع سلوكا محافظا متمثلا بقيم الشرف والحمية والعفة والاستقامة وما تمثله من قيم تفخر بها العشيرة التقليدية، ولا تغيرت اجتماعيا أو حلت نفسها وتحولت إلى تجمعات مدينية، من قبيل المنظمات أو التجمعات النقابية التي تدافع عن منتسبيها، وفق شروط المجتمع المدني، إنما هي عبارة عن تجمعات قائمة في الأعم الاغلب على الاستغلال ونشر الفساد والدخول في صفقات مشبوهة في مجالات التهريب والإجرام والإرهاب وتجارة المخدرات وتجارة السلاح، ورؤوس هذه التجمعات العشائرية اليوم يلعبون على كل الحبال، السياسية والاقتصادية والدينية، وغايتهم القصوى جني أقصى ما يمكن من أموال السحت الحرام التي تتسرب لشراء قصور وفلل وإقامة حفلات ماجنة في دبي واسطنبول وعمان وطهران وبيروت، وبالتأكيد سترمى بعض فتات الارباح للاتباع الذين نخر وعيهم نتيجة التجهيل والفقر ونمط التدين المنغلق، الذي يعتاش على الطائفية.
    لقد تحولت بنى عشائرية اليوم إلى نمط من مافيات الفساد المتحالفة مع المليشيات والارهاب والاحزاب ورجال الدين الفاسدين، وأصبح لديهم السطوة والقوة المسلحة، ما يستوجب امتلاك الدولة للقوة والقدرة والحزم للوقوف بوجه هذه الكارثة. وربما مثّل تفعيل القانون من قبل القضاء ضوءا أخضر لبدء العمل على معالجة هذا المرض العضال الذي ينهش المجتمع، لكن يبقى الدور الأكبر من المسؤولية ملقى على عاتق السلطة التنفيذية التي يجب أن تقف بحزم بوجه هذه الظاهرة، فهل تستطيع ذلك؟

    "القدس العربي"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media