من خلف صمت الشفاه
    السبت 17 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 - 18:34
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    (1)
    بعد ثلاثين عاما من أول لُقيا أتاحها لي الزمان الماضي، سمحت أقدار هذه الأيام بلقاء آخر.
    وما إن تراءينا حتى تمثلت بقول جميل:
    خليليّ، ما ألقى من الوجدِ باطنٌ         ودمعي بما أخفيَ، الغداةَ، شهيدُ
    ألا قد أرى ، واللهِ أنْ ربّ عبرة ٍ      إذا الدار شطّتْ بيننا، ستَزيــــدُ
    إذا قلتُ: ما بي يا بثينة  قاتِلي،       من الحبّ، قالت: ثابتٌ، ويزيدُ
    فافترّت شفتاه عن بسمته المعهودة، وقال: ما زلتَ مُعجبا بجميل بثينة؟ ما السر في ذلك؟
    عرفت قصده وتهربت من الجواب قائلا: ومن لا يحب اسم الجمال مُرْفَقًا ببثينة، ومعناها يا سيدي العزيز: الزبدة الطرية الناعمة، والأرض الخصبة الممرعة.
    التفت لسائرٍ معنا، قائلا: احذر مناقشته في اللغة فستغرق، فهو ليس بحرا بل محيط.
    وعرّفني بصاحبنا وهو من أجلة الناس وألطفهم.
    أذهلني الوصف، فأنا أعرف أنه لا يجامل أحدا، بل هو صريح كحدّ السيف.
    ويبدو أنه قد رأى على وجهي علامات الذهول، فأثنى ما طاب له الثناء. شكرته وأنا في غمرة من الدهشة.
    (2)
    وفي خيمة أوتادها النجوم وركائزها أنوار القمر، ما بين ضفتي البحر والصحراء، حيث تتغازل انعكاسات النجوم مع الأمواج، ويفرش القمر بساطه الأصفر فوق الرمال فيزيل عن وجهها ما سكبه عليه الليل من لونه الدامس. فترتقي نفوس السامرين إلى سماوات من الفكر والثقافة وحديث الأمس واليوم والغد.
    هناك تكررت لقاءاتنا منذ لمعان الفجر وإلى غياب الشفق، ثم يسمر السامرون بأغاني الصحراء ولهفة عودة المبحرين شرقا وغربا.
    (3)
    تنثال من بين شفتيه الحِكَم، وعلى راحتيه تصحو حروف الكَلٍم، وفي إطلالة ناظرية تجول المعاني، فكأنك أمام شلال من الطيب والطيبة وعطر العلوم.
    وقد سمعت مقولته أن كل ما فعله ويفعله لله تعالى فحسب، ولذلك لا يحبذ ذكر اسمه ومزاياه، ولا الثناء على لطفه وسجاياه.
    ولكنْ، هل ثمة شاعر أو عاشق يقوى على قمع ما توحي له به المزايا واللطف والسجايا؟
    لا أعتقد ذلك.
    وكل من خبَرَ (ذاتَ الشوكة) يدري أن انحباس الفكر بلا انعتاق، وحجز الشعر بلا انطلاق، يسببان للأحاسيس جنون القلق. فهل أستطيع كبح جماح أفراس الحروف وأجراس الكلمات، ونجوى المعاني ما بين المزايا واللطف والسجايا؟
    إنها، إن حدثت، فهي زلزلة القيامة داخل الجسد، وعبر الشرايين والأوردة، وانهتاك الأعصاب، وعربدة صخب الصمت في تلافيف ما في جمجمة الرأس.
    فأي جسد يتحمل ذلك؟ وأي رأس من فوق الرقبة والكتفين يقر له قرار الصمت والسكون والسكوت؟
    (4)
    والحياة – بعد هذا وذاك – أنفاس. وهو يدري، فقد عاناها وشدّت تلك المعاناة أزره. وإن كلف واحدا من الحاضرين بإنجاز عمل، فسأله عن الزمن المتاح له؟ فجوابه: نَفَس. أي السرعة القصوى المتزنة بالعقل والحكمة. وما الحياة إلا أنفاس، وما أروع أن نعلم أن كل نَفَس لا مرد له ولا مرجع، ولا عودة مرتقبة.
    وما العمر إلا أنفاس، وطوبى لمن وظفها في إعمار الأرض ونشر الحب والسلام.
    وتلك هي حركية الحياة وتألق إشعاعها، مما يشكل الفارق الوحيد، بين الحياة والممات. بين الإبداع والتقليد، بين الانطلاق والجمود، بين الوفاء والجحود. وزدت عليه بالقول: وبين الفَناء والخلود، يوم تشرق الأرض بنور ربها ويوضع الكتاب.
    هناك بين مسرى النجوم وإطلالات القمر تتلألأ الكلمات بعطر الزمان، وتنتشي بروح المكان. ولا أحب الكلمات المكتوبة والمنطوقة ما لم توشّج بين ذاك العطر وهذا الانتشاء.
    قال: ما أكثر المداحين، وأقل المادحين بصدق لمن يستحق المديح.
    قلت: وما أقل الممدوحين الذي يستحقون المديح في زمن العثرات.
    قال: لا أرى المديح إلا ما كان حقا، ومعبرا عن واقع يستحق الثناء.
    قلت: وقد أنصت نبينا الكريم للمديح، وأثنى عليه، فكانت قصيدة كعب بن زهير:
    بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
    متيم إثرها لم يُفد مكبولُ
    سببا للعفو عنه، بل وإكرامه.
    وكانت البردة، عبر الزمن حتى وصلت للبوصيري:
    أمن تذكر جيران بذي سَلَم
    مزجت دمعا جرى من مقلة بدمِ
    ومنها:
    محمد سيد الكونين والثقليــــن والفريقين من عُرْب ومنْ عجــمِ
    هو الحبيب الذي ترجى شفاعـته لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــمِ
    قال: صدق البوصيري وأجاد.
    قلت: حين يقول الشعر حقا، فلماذا يُدان إن مدح من يستحق المديح والثناء؟
    قال: لا اعتراض على قول الحق شعرا ونثرا.
    (5)
    فلَمّا آنستُ منه إصغاء لصوت التاريخ، صممت أن أُثْنِي على مزاياه ولطفه وسجاياه، من غير ذكر اسمه، فذاك فوق المحال. ولذا أقول له:
    بحرٌ من اللطف أو فيضٌ من الحِكَمِ
    تحيا بها الروحُ إذ تسمو بها هِمَمي
    أنت الحبيبُ الذي إنِّي لأُوثــــــرهُ
    على المعانِي التي جادت بها كَلِمي
    أنت العزيز الذي في القلب منزلُه
    أزحت من لطفك الفياض لي ألمي
    أزحتَ عنِّي هموما لستُ أُنكرُها
    وكم أنا، كم أنا قاسيتُ من ظُلَــــمِ
    وللقصيدة تتمة طويلة سأوصلها إليه.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media