التمرد على العقل
    الأحد 18 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 - 18:15
    هاني الحطاب
    نواصل  في هذه المقالة ، عرض ما قال فردريك باسر عن التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية ، ففلاسفة  ألمانيا هم أول من تمرد على العقل ، بعد أن أله، وعد عقل شامل وغير منحاز ، فتبين لهم بعد طول استخدام ، ليس عقل غير منحاز وشامل ، وأنما منخرط في الصراعات السياسية ، ويتأثر بالمناخ الأجتماعي والثقافي ، وخاضع إلى الغرائز والأهواء . ومن ثم هو نسبي وليس شامل ، وغير عابر للحدود القومية . وهذا ما بين فردريك باسر في عرضه للعقل الألماني . ولكن ما للاحظناه على عرض باسر وما قد للاحظه القارئ معنا أيضاً ، هي أنه لم يعرض لتعريف وتاريخ العقل ، لأنه في الحقيقة  ، لم يكن هذا موضوعه في هذا الفصل الذي قدمنا ، فما كان يهمه هو التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية ، وقد يكون فعل ذلك في  مكان ما من كتابه الكبير هذا . وبما تعريف العقل وتاريخية بحد ذاته موضوع شائك ومعقد ، ويحتاج لوحده لمقالة  مفرد له ، فسنكتفي ، من طرفنا ، بذكر الاختلاف بنظر لعقل في الزمن المعاصر وقديماً ، فقد تغيرت النظرة  لكيف يعمل العقل في زمننا الحاضر عما كان عليه في السابق . فالعقل ، قديماً ، نظر له ، على أنه شيء مكتمل وجاهز الأستعمال دون حاجة إلى أي عون من الخارج ، أو بما تمد الحواس من أحاسيس . فهو أعطى كامل ، ودفعه واحدة ، وما عليه سوى أن ينظر حوله أو إلى الأعلى ليعرف كل شيء ، ويقدر أن يستنجً ويصل إلى ما يريد بما لديه من ملكة من التفكير . فهو لدى أفلاطون مكتظ بالذكريات لعالم سابق ، ولدى أرسطو  عقل منطقي . يقوم بالأستناج بما يضعه من مقدمات . 

    أما في الفترة المعاصر ، فقد تغيرت النظرة للعقل ، ولم يعد ينظر للعقل على شيء مكتمل منذ البداية ، وأنما نظر له نظرت  تاريخية ، وأنه لا يولد مكتمل ، وأنما يمر بمراحل وأطوار مختلفة . فهو في البداية عقل بدائي  ، لا يعرف المنطق ، والتفكير بطريقة مرتبه ، أي عقل خرافي ، ولهذا يراه ، أنه مر بمرحلة ، خرافية ، وآخرى ميتافيزيقة  ، حتى وصل أخيراً المرحّل العلمية ، ونظر جون لوك للعقل على انه صفحة بيضاء في البداية ، وأنه فقط من التجربة والخبرة يكتسب معرفته ، ولا يعرف ما يتعد حدود التجربة ، أما كانط فقد قال ، لا توجد فيه سوى مقولات ، أو قوالب فارغة تملئ من قبل التجربة ، وهو مثل لوك يؤمن بأن لا يعرف شيء أبعد ما تمده الحواس ، ولهذا نفى أن يعرف العقل وجود الله لأنه هذا أبعد من حدود التجربة  ، وجعل الأيمان ، والأعتقاد بوجد الله الأغراض عملية . فالفلاسفة في زمنا المعاصر ، نظروا للعقل ليس على أنه شيء كامل  وهبة من الله ، وإنما نتاج طبيعي ، وكل نتاج طبيعي مر في مراحل من التطور . أما من وجهة نظر دينة ، ومن نظر القرآن والإسلام ، فهو فطرة ، وهبة من الله جاهزة الاستخدام ، لا تحتاج سوى أن تنظر فيما حولك لتعرف  اسرار الطبيعة ، وتستنج وجود الله  ، ولذلك ، كثرة في القرآن عبارة ، مثل إلا ينظرون ، ويفكرون ، ويتعقلون . فالله وهب الإنسان  أحسن ما لديه ، وهو العقل  ، الذي إذا قيل له أقبل أقبل ، وإذا قيل له أدبر أدبر ، فالعقل في الاسلام استعداد فطري منحه الله للإنسان ، حسب رأيه رجال الدين . غير السؤال الذي يحتاج أن يسأل والذي ، فيما نعرف لم يطرحه أحد من قبل  ، لأنه لم يكن ممكن طرحه قبل كانط ، هو كيف منح الله العقل ، فهل منحه فارغ ، وخلو ، من أي إفكار  ، أو ممتلئ ، مع محتوى وعقائد ! فلو أن أعطاه مع عقائد  لما اختلف الناس ، في رؤية الأشياء ، لأن كل الناس لديها عقل ومن خلق الله ، وبه نفس الأفكار ، وهذا بخلاف ما نراه باختلاف الناس في عقائدهم وأفكارهم عن  الأشياء . ولو منحه الله كأطار فارغ ، يملء بالتجارب ، لما أصبح ، هناك ، لوم على أحد  لو عاش حسب عقيدة مجتمعه التي  قد تكون متعارضة مع الدين السماوية . ويبدو أن الإسلام ينظر لعقل  على أنه كامل ، وذو محتوى ، وليس فارغ ،  ومزود بكل ما يحتاج  لمعرفة ما حوله بدون عون التجربة ، والقرآن دائماً يقول إلا ينظرون إلا يتفكرون ، بما في العقل من محتوى ، فالعقل  لا يستطيع أن يعقل الأشياء وهو فارغ ، ما لم يزود بأفكار سوى من قبل الله ، أو التجربة ، فهو لا يفكر من الصفر ، ولا يعقل الأشياء ، بمجرد النظر ، والتأمل ، وهو فارغ . ولعل قصة حي أبن يقظان التي كتبها الفيلسوف العربي أبن طفيل هي خير من يعبر عن وجهة النظر الإسلامية بخصوص العقل ، وطريقة عمله ، فهنا ، نرى العقل  ، بحالة حي ابن يقظان ، بجهد الذاتي ، وبدون دعم ، من الخارج ، من التجربة أو العيش في المجتمع يصل إلى أستنتاجات عقلية بدون أي عون من أي خبرة ، فحي ابن يقظان الذي ولد في جزيرة منعزلة لا يسكنها أي بشر وتربى عن طريق ، ذئبة ، تمكن من معرفة الحسيات والآلهيات ، بدون أن يختلط مع البشر أو يلقن أي دين . فالعقل ، حسب الفهم الدين منحه الإلهية ، ولا يمكن ، يعطى فارغ ، من كل محتوى ، فالفطرة ، التي يكثر تريدها ، لدى المفكرين المسلمين ، تعني ، في الأكثر ، على ما وهب الله العقل  وصاغه ، ويفكر من ذات نفسه ، وليس نتاج تطور ، وخبرة من الحواس ، أو المجتمع . وهذا ما يبدو لنا ما قد يسد النقص في عرضنا لمقولة باسر حول التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية . بتقديم هذه التعريف المؤجز للعقل . وإلى الجزء الثاني منها . 

                                  (٢)

    (١٥) أزمة عدم الثقة في نهاية القرن الثامن عشر تعمقت عندما واحد آخرى من القناعات العزيزة على التنوير أصبحت في دائرة الشك - بأن العقل شامل وغير منحاز . فالمحكمة لنقد تكلمت بتلك السلطة الرهيبة ليس فقط بسبب أن مبادئه واضحين بذاتهم ، وأنما أيضاً بسبب أنهم شاملين بمعنى أنهم حقيقين إلى كل كائن عاقل ، بغض النظر عن حضارته ، وثقافته أو فلسفته . وهم غير منحازين بمعنى أنهم يستطيعو أن يصلو إلى أستنتاجاتهم بشكل مستقل عن ، وحتى ضد المصالح والرغبات . وأيمان التنوير في شمولية وعدم التحيّز إلى العقل يقوم بشكل كامل على الأعتقاد والذي هو حتى أكثر أهمية من المعتقدات الاساسية الآخرى ، الذي هو أستقلالية العقل  .

    فالعقل أعتقد أن يكون ملكة مستقلة بالمعنى الذي يكون فيه حاكم لنفسه متبعاً القواعد التي أقامها لنفسه ، باستقلال عن المصالح السياسية ، والتراثات الثقافية ، والرغبات ما دون الوعي . وإذا ، بالعكس ، العقل خاضع للسياسة ، والحضارة ، أو التأثيرات ما دون الوعي ، فمن ثم ، لن يكون هناك ضمان بأن أستنتاجاته شاملين وضرورين . فقد ينقلبون إلى تعابير مقنعته إلى الهموم السياسية ، والثقافية ، والمصالح لا واعية  . ولعل أوضح مثال عن هذا المعتقد في الاستقلال إلى العقل  كان هو ثنائية النومين noumenon - والظاهرة ( الأشياء في ذاتها والظاهرة ) .  ومن المهم هنا ملاحظة القصد لكانط في هذه الثنائية  ليس أنقاذ فقط  أمكانية الحرية ، وأنما أيضاً الشمولية وعدم الأنحياز إلى العقل . 

    (١٦) ولربماً أبرز وأكثر قوة وأصالة وأمضى النقد تأثير لهذا المعتقد ، أي أستقلالية العقل كان جي ، أج ، هامان في أحد مقالأته ، فهامان هاجم الفرضية الرئيسيّة التي يقف عليها معتقد كانط في أستقلالية العقل فيما يسمى النومين -noumenon والظاهر ( الأشياء بذاتها والظاهرة ). وعلى غرار التحليل الأرسطوطاليسي ، ونقد كانط للأفلاطونية ، ، عارض هامان بعنف ما يدعو الصفائية purism إلى العقل ، يعني البنية الأساسية للعقل عندما يجرد من اللغة ، والثقافة المكتسبة ، والتجربة . فإذا أردنا أن نصل البنية الأساسية للعقل ، يقول هامان ، علينا أن نرجع إلى سؤال أرسطو القديم  " أين هو العقل ؟ " فبأي الأشياء المفردة يوجد ؟ ونحن نستطيع أن نجيب عن هذين السؤالين، يؤكد هامان ، فقط في مطابقة تجسد العقل في اللغة والفعل . ولذلك فالعقل ليس نوع خاص إلى مملكة والتي توجد في النومين ( ما لا يمكن معرفته ) أو مملكة عقلية متعالية ، وأنه ، في الواقع ، فقط طريقة في التكلم ( الخطاب ) والعمل في لغة محددة وثقافة . وعليه يشدد هامان على البعد الأجتماعي والتاريخي للعقل . واللذان أهملا في فترة التنوير كثيراً . وكما يلخص هامان موقفه من العقل ، أن أداة ومعيار العقل هو اللغة ؛ ولكن اللغةً، هي ليس أكثر من أن تكون العادات والتراث للأمة . 

    فتشديد هامان على البعد الأجتماعي والتاريخي إلى العقل واضحه تماماً . وهو من ثم يؤمن بالنسبية بأستخدام العقل . فإذا اللغة والعادات لثقافة تحدد المعاير للعقل ، وإذا اللغات والعادات مختلفة إلى وحتى متعارضة مع بعضها، فعليه سوف لن يكون هناك مثل هذا الشيء الذي العقل الشامل الواحد لدى الجميع . فالعقل سوف لن يكون قادر أن يقف خارج الحضارة ( الثقافة ) ليحكم بينهم طالما أن معايره تقرر بواسطتهم . وهذا الأستخدام النسبي للعقل ، لم يستنتج بهذا الوضوح من قبل هامان ، بيد أنه طور في التفصيل من قبل أؤلئك الذين تأثروا به ' وأكثرهم بروز ، هم  ، هيجل ، هردر ، شلنج ، فمثلاً ، هردر جادل ، بأن محكمة التنوير لنقد ، فقط عممت القيم ومصالح القرن الثامن عشر للأوربا . ولهذا ، فأن فلاسفة ذلك الزمان ليس لهم الحق بنقد معتقدات وعادات الثقافات الآخرى ، بما أن لا يصح الحكم على ثقافة ثانية بمعيار عصر التنوير . 

    (١٧) والأيمان في أستقلال العقل وقع تحت نيران هجوم من أتجاه آخر من قبل أف ، أج ، ياكوب . بينما أصر هامان وهردر ، بأننا لا يمكنا أن نجرد العقل من المجتمع والتاريخ ، شدد ياكوب بأننا لا يمكن لنا أن نفصله عن الرغبة والغريزة . فعلينا أن ننظر إلى العقل كجزء من كيان عضوي حي واحد ، حيث ينظم ويدير  كل وظائفه الحيوية ، كما يقول ياكوب . فالعقل ليس قوة لا مبالية لتأمل ، ولكنه ، أذن ، أداة إلى الأرادة والتي تستخدمه لسيطرة  والهيمنة على البيئة . فالعقل واقع تحت تأثير الأرادة لهذا الحد ، ويؤكد ياكوب أكثر ، بأن حتى المعاير إلى الحقيقي والكاذب تملئ عليه من  قبل الأرادة . فما هو حقيقي وكاذب يصبح ما هو ناجح وغير ناجح في تحقيق غايات الحياة . وبدون أن يخشى أو يتجنب الأستخدام النسبي لعقل ، فأن ياكوب يلمح بأن تلك الغايات قد يختلفوا من حضارة إلى آخرى . 

    (١٨) وحجة ياكوب بأن العقل خاضع للأرادة وجدت تعضيد أضافي لها في البصيرة ما قبل علميه لدى هامان وهردر ، بأن الوعي والفعاليات العقلية هم تعابير عن ما دون الوعي والحوافز لا عقليه . ولذلك ، رأى هامان بالطاقة الجنسية كمنبع إلى الخلق والأبداع ، وأصر بأن حتى التعقل هو فقط تسامي . وأكد هردر بأن المصدر لكل أبداعنا يكمن في " القوى المظلمة " ، والتي علينا أن نقمعها من أجل أغراض الحياة اليومية . وتلك الأيحاءات والبصائر البدائية كانو ما يزالون بعيدين عن النظرية الواضحة والمنهجية ، للنظرية فرويد ، ونظرية نيتشه . ومع ذلك فهما يشيران لنفس الشيء ، فهما ، على كل حال ، يشككان في معتقد التنوير في أستقلالية 

    العقل . 

    (١٩) والعديد من الانتقادات إلى أستقلالية العقل والذين ظهروا في نهاية القرن الثامن عشر كانوا فقط جزء من الحصاد المر إلى برنامج التنوير للشرح العلمي . فإذا نحن قبلنا بالشعار القاضي بأن علينا أن نفسر كل شيء وفقاً إلى قوانين الطبيعة ، لذا ، علينا أن نكف أن نرى العقل كملكة تكتفي بذاتها والتي توجد منفصلة عن الطبيعة ، وعلينا أن نبدأ بتفسيره كجزء  آخر من الطبيعة ، مثل أي شيء أخر . فمحاولة أنقاذ أستقلال العقل بوضعة داخل مملكة نومين خاصة  المتعذرة إلى الدراسة العلمية ، يعادل ، من ثم ، لا شيء آخر سوى ، جعله فائق لطبيعة ، أو تصوفيه ، أو جعله نظام صوفي mysticism أو وقوعه في الظلامية obscurantism ، بستخدام المصطلح الذي أستخدمه نقد كانط إلى فرضه عالم النومين ( ما لا يمكن معرفته ) . وهكذا ،  في النهاية ، أصبح معتقد التنوير بأستقلال العقل صعب أن يلائم المذهب الطبيعي العلمي . وهنا ، مرة آخرى، فأن الأنعكاس على الذات لعقل يأتي ليلعب دوره ، في تفكيك سلطته . فإذا العقل يجب عليه أن يفسر كل شيء وفقاً لقوانين الطبيعة ، فعليه ، من باب أولى ، أن يفسر نفسه بحسب قوانين الطبيعة ، فالموضوع والذي يفسر الطبيعة لا يقف في موقف متعالي ومتميز عن الطبيعة التي يشرحها ، وأنما ذلك ، يعني ، بأن العقل يخضع لتأثير القوى الطبيعية ( مثل ، الغريزة ، والرغبة ) ، ولهذا ، فهو ، ليس بعد مستقل . 

    (٢٠) أيمان التنوير يرتكز أخيراً وليس آخراً ، على المذهب الطبيعي ، الأعتقاد بأن العقل يستطيع ، إذا فقط مبدأياً ، أن يفسر كل شيء في الطبيعة . وهذا المعتقد الجريء ، رغم أنه ، يظهر يملك كل نجاحات العلم الحديث في صالحه . والعديد من المفكرين والفلاسفة ، فأن الفيزياء الجديدة إلى غاليليو ، ونيوتن ، وهايجن ، بينوا بأن كل شيء في الطبيعة قابل لتفسير وفقاً إلى نظام قوانين الرياضيات والذين هم واضحين إلى أن يكتشفوا من قبل العقل . ومثل تلك الظواهر المتنوعة ، مثل سقوط التفاحة ، والجزر والمد ، ودوران الكواكب حول محور الشمس كلهم يمكن شرحهم بقانون واحد شامل ، قانون الجاذبية . وهذا القانون وحده أظهر أنه يمد بدليل أخاذ لوجهة النظر بأن العقل له بصيرة في بنية الطيبعة .  

    والفلاسفة اعتنقوا بالهفة الفيزياء الجديدة ، لأنها تبدو تدافع عن واحدة من أكثر معتقداتهم العزيزة ؛ هارمونية ( الانسجام ) العقل والطبيعة ، تشابه التفكير والوجود . فالقرن الثامن عشر ورث ، ولم يشك أبداً بهذا المبدأ للقرن السابع عشر للعقلانية . وهو ، فعلاً ، أي القرن الثامن عشر أنفصل عن العقلانية  ؛ غير أن هذا الانفصال لم يكن يشك بوجود هذه الوحدة أو الهارمونية ، وإنما كيف نوضحها أو نقيمها . فالنيوتنين إلى ما بعد النقد والفلاسفة هجروا الطريقة الأستنتاجية إلى العقلانية لصالح الطريقة الأستقرائية التجريبية . فلكي نعرف المنطق خلف الطبيعة ، جادلو ، علينا ، أن لا نبدأ بعد من المبادئ الواضحة بذاتها ومن ثم نهبط إلى أستنتاجات محددة . فهذا مجرد فرض نظامنا الاعتباطي ( تركيب ، بنية ) على الطبيعة . ففي الواقع ، علينا أن نبدأ مع الملاحظة والتجربة ، ومن ثم فقط نصعد إلى القوانين العامة . ومع ذلك ، سوى كانت طريقتنا أستنتاجية أو أستقرائية ، فأن الدافع خلفهم هو نفس الشيء ؛ هو توضيح الهرمونية بين العقل والطبيعة . 

    (٢١) وكانت مهمة كانط أن يتصدى لتهديد شكوكية هيوم في نقدالعقل الخالص لينقذ أيمان التنوير بالعلم . وكانط يبدأ في دفاعه عن مبدأ السببية . وهو ، يجادل هنا بأن هذا المبدأ شرط ضروري لكي تعزو الموضوعية إلى التجربة، بتميز بين النظام الذاتي إلى الأحساسات والنظام الموضوعي إلى الأحداث ذاتهم . وعلى أي حال ، فالنظام الموضوعي لا يعط لنا ، وأنما يخلق من قبلنا . فالعقل يعرف البنية لتجربة فقط بسبب أنه يفرض أشكاله ( مقولاته ، قوالبه الفكرية  ) عليها ؛ ومن بين تلك الأشكال ( المقولات ) مبدأ السببية ، وفي عبارة آخرى ، فهذا المبدأ يستخدم لتجربة فقط بسبب فعالياتنا المسبقة جعلت التجربة تطابقها . 

    وأعظم تهديد إلى معتقد التنوير بنسجام ( هرمونية ) العقل والطبيعة ، جاء في وقت مبكراً من عام ١٧٣٩ مع هجوم هيوم على السببية في رسالته عن العقل البشري . فبحسب ، هيوم ليس هناك من تبرير تجريبي إلى الافتراض بأن هناك أرتباط شامل وضروري بين الأحداث . فإذا نحن تفحصنا أنطباعتنا الحسية ، فأن كل ما نجده هو سلسلة من التكرار العرضي وليس أرتباطات ضرورية ، والتي ، هي ببساطة نتاج الخيال وتداعي العادات . وبالاصرار على أن الانطباعات الحسية تماثل الارتباط الضروري ، أربك هيوم فلاسفة التنوير فيما يخص معيارهم التجريبي للمعرفة . فالنظرة الفاحصة إلى التجربة تبدو تكذب أكثر من أن شهد لوحدة العقل والطبيعة . وهكذا ، فأن ارباك الثنائية ، يظهر حيث المبادئ الشاملة والضرورية إلى العقل تقف في تناقض عنيد مع المفرد والعارض 

    بالتجربة . 

    (٢٢) غير أن دفاع كانط عن مبدأ السببية كان له تأثير مزدوج على الأيمان بهرمونية العقل والطبيعة . فهو بين بأن الأنسجام ( الهارمونية ) يصح فقط على المظاهر وليس على الأشياء بذاتهم . فنحن نقدر أن نعرف الطبيعة طالما هي تتماثل مع مفاهيمنا المسبقة ، ولكن ليس ما دام توجد منفصلة عنهم وقبلهم . فهرمونية العقل والطبيعة ، قصرت ، لذلك ، داخل مملكة الوعي نفسه . فهي لا تدل على التطابق بين الوعي والحقيقة الخارجية  ، وأنما على أنطباق الوعي مع قواعده المفروضه ذاتياً أو مفاهيمه المسبقة . وعليه ، إذا تحدي هيوم قد واجه ، فأنه فقط بدفع ثمن حد العقل في مملكة الظواهر . 

    ورغم صعوبة وغموض نقد كانط في نقد العقل الخالص ، إلا أنه واجه بموجة من النقد في عام ١٧٩٠ ، فهو ، بسرعة ، أصبح هدف إلى الهجوم المضاد إلى أنصار هيوم الجدد من أمثال ميمون ، بلانتر ، هامان ، شولتز ، فهم ، قالوا ، بأن كانط فقط يطلب الاختلاف مع هيوم . وحتى لو كان كانط على حق بأن مبدأ السببية شرط ضروري إلى التجربة الموضوعية ، فليس هناك أي سبب ، إذا كنا من جماعة هيوم الشكاكين ، أن نقبل مثل هذه الموضوعية  . فلماذا لا تكون التجربة مجرد أفتتان بالأنطباعات مثلما تخيل هيوم ؟ وأكثر من هذا ، فأن الدفاع بأن العقل هو المشرع للطبيعة ، فأن كانط ببساطة يفرض مسبقاً مبدأ السببية ، والذي كان القصد الأصلي في دفاعه . لأنه ألم يكن يعني بأن فعالياتنا المسبقة هي بمعنى ما السبب إلى 

    تجربتنا ؟ 

    (٢٣) وكل أنصار هيوم الجدد الذين شكوا في دفاع عن مبدأ السببية كان له نتائج مدمرة  على أيمان التنوير في الأنسجام بين العقل والطبيعة . فتلك الهرمونية ليس هددت فقط بالهوة بين العقل والأشياء بذاتها وأنما أيضاً بالفجوة بين العقل والمظاهر . فحتى داخل مملكة التجربة ، لا تزال هناك ثنائية حادة بين المبادى الشاملة والضرورية للعقل والمعلومات المفردة والعارضة إلى الانطباعات الحسية . ولهذا ، بدأ للعديد من الفلاسفة في نهاية القرن الثامن عشر ، كما لو أن العقل ينسج شبكته بدون أي ارتباط إلى الحقيقة الخارجية . فكيف ، رغم كل شكوك أنصار هيوم ، يكون ممكن  الدفاع وأعادة ربط العقل مع الطبيعة ؟ وهذا المسألة ، في الحال شغلت ، فخته ، شلنج ، هيجل . 

    (٢٤) وعلى أي حال ، فلم ، يكن الأكتائب والموت هو الذي أحاط نهاية القرن الثامن عشر، فقد كان هناك وعد في التطور، والذي قدم بعض الأمل في أنهيار سلطة العقل . وهذا تدريجياً أعاد أحياء النماذج الغائية teleology في منتصف القرن . فالآن يبدو أن التنوير في نبذه التفسير الغائي في صالح التفسير الميكانيكي  ، أو السبب الكافي لم يكن ناضج . فبعض نتائج العلوم الطبيعية الأخيرة يظهر أنها أعطت دليل قوي في صالح الغائية . فتجارب هللر في التهيج ، وندلهام ، ومورباتوس في نظرية التوليد العفوي ، أظهرت ، لكي تبين بأن هناك قوى عضوية في داخل المادة . فالجوهر للمادة لا يستنفذ في الأمتداد الميت ، وفِي الواقع ، أنه مؤلف في التنظيم الذاتي والقوى الذاتية الفعالة . فالمادة أظهرت حية  ، بما أنها مثل كل الأشياء الحية تتحرك وتنظم نفسها ، حينما لا يكون هناك سبب واضح وأضح يدفعها للعمل . وعليه ، يمكن عزو المقاصد للمادة ، حتى ولو كانت ليس وعي بشكل صحيح . وهذه المادية الحيوية الجديدة ، والتي طورت من تولاند وبرسلي في أنكلتر ، وديدرو ، وهولباخ في فرنسا ، نشرت ودافع عنها من قبل هردر وفورستر في عام  ١٧٧٠ و ١٧٨٠بالمانيا . 

    (٢٥) فاحياء الغائية في نهاية القرن الثامن عشر بدى أنقاذ إلى التنوير من قرنين المأزق المزعج . طالما أن مفكري التنوير تبنو النموذج الميكانيكي إلى التفسير . فهم كان لديهم أختيارين فقط في فلسفة الذهن  ؛ الميكانيكي أو الثنائي dualism . غير أن كلا  من هذين الأختيارين كانوا من الواضح غير مقنعين . فالمكانيكي دمر الحرية ولا يمكن أن يعد نسيج وحده للظواهر العقلية كأهداف . والثنائية قصرت الشرح العلمي إلى العالم المادي بأفتراض مملكة عقلية فائقة لطبيعة ، وعليه لا يبدو يكون هناك أي شرح علمي بعد غير مختزل إلى الظواهر العقلية . 

    وعلى كلً ، فأن المادية الحيوية الجديدة ، قدمت تفسير  الذهن (العقل ) الذي حل المأزق . ونحن الآن نستطيع أن نشرح العقل ( الذهن ) كأعلى درجة لتنظيم والتطور إلى القوى الكامنة في الجسد . وهذا سوف يتجنب الميكانيكية طالما الجسد لم يعد بعد ماكنة وأنما عضوية organism  ؛ ويتفادى الثنائية بما أنه ستكون هناك أستمرارية بين العالم العقلي والمادي حيث كل منهما يتألف من درجات مختلفة من التنظيم إلى نفس القوة الحية ؛ فسيكون العقل شكل عالي من التنظيم والتطور إلى القوى الموجودة في الجسم ؛ والجسم سيكون شكل بدائي إلى القوى الكامنة في العقل . 

    فبرغم من أن المادية الحيوية بدت واعدة ، فأنها لا يمكن أن تؤوسس نفسها بدون مقاومةعنيفة  .. فالسؤال قد أثار في الحال ، فيما إذا الغائية تستطيع فعلاً أن تمد بقوانين طبيعية يمكن التحق منها ، أو فيما أنها لا ترق إلى أي شيء اكثر من العودة إلى السكولائية القديمة . ففي وقت مبكّر من عام من عام ١٧٧٠ كان هامان قد أثار بالضبط هذا السؤال حين هاجم بعض الافتراضات الحيوية خلف نظرية هردر عن أصل اللغة . فاوفقاً لهامان ، أفتراض هردر إلى قوى عضوية ، هو فقط أعادة تقديم الصفات السحرية ، والتي هي  أعاد وصف الظواهر التي تفسرها ؛ أضاف لهذا ، أن الحيوية ما تزال لا تملك أجوبة إلى شكية هيوم حول السببية فيماإذا نحن نبني السبب كقصد أو لحدث سابق ( متقدم) فلا يزال لا يوجد هناك أرتباط ضروري بين السبب والنتيجة .

    (٢٦) ومسألة الوضع العلمي إلى الغائية أصبح قضية رئيسية مع نقد كانط إلى هردر وفورستر . فقد جادل كانط بأن الغائية تساوي الضرورة الميتافيزيقا بسبب أن تفسيراتها لا يمكن التحقق منها في أي تجربة ممكنة . فنحن لا نقدر أن نتحقق من الأدعاء بأن العوامل الغير واعية تعمل وفقاً لغايات ، بسبب فقط أن تجربتنا إلى فعالياتنا المقصودة تستمد من وعينا . ونحن نفترض بأن الأشياء في الطبيعة تعمل وفقاً إلى غايات فقط في مماثلتها إلى فعاليتنا الواعية ؛ غير أننا لا نستطيع أن نثبت تلك المماثلة ، طالما نحن لا نعرف شيء عن العالم الداخلي إلى النباتات ، والمواد الغير حية ، والحيوانات . وكل ما نحن نستطيع أن نفترضه ،  من ثم ، بثقة ، هو أن الطبيعة  " تظهر  أن تعمل ، كما لو كانت " لها أغراض . وعليه ، فأن الغائية لها بالدقة دور تنظيمي ، وليس بنيوي في العلم . 

    وهجوم هامان وكانط على حيوية هردر أثار أسئلة جديدة حول الأمكانيات إلى الغائية كمنموذج من التفسير في العلم الطبيعي . لأنه يبدو إذا العقل لا يقنع في البقاء داخل الحدود إلى التجربة الممكنة ، فعليه أن يقنع نفسه مع النموذج الميكانيكي إلى التفسير ، بيدأن هذا ليس مقنع أيضاً، طالما أنه فقط يعيد أيقاظ المأزق القديم  إلى الثنائية أو الميكانيكي . لهذا فأن فلاسفة القرن الثامن عشر بلغوا طريق مسدود . فهم رفضوا كل الخيارات المتاحة لهم . فالحيوية لم تنل رضاهم ، لأنها لا تلبي طلبهم في التحقيق ؛ والثنائية حدت من حدود العلم ؛ والميكانيكية لا تستطيع  أن تفسر الظواهر العقلية . فهناك يبقى طريق واحد للخروج من المأزق ؛ وهو مواجهة اعتراضات كانط ضد الغائية ومحاولة تحقيق بأخر النتائج العلمية . وهذا الطريق أنبثق فقط في أوأخر عام ١٦٩٠ مع الفلسفة الطبيعية إلى شلنج وهيجل .

                      هاني الحطاب
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media