النبوة -1-
    الثلاثاء 4 ديسمبر / كانون الأول 2018 - 21:03
    آية الله الشيخ إياد الركابي
     النبوة :   -  [  هي  المعرفة  اليقينية  يوحي بها الله إلى البشر   عن شيء ما  ] -   راجع  كتابنا  رسالة في التوحيد والسياسة ص 73  -  ،  وفي هذا الوصف لمعنى  -  المعرفة  اليقينية -   التي   (  يوحي  الله  بها  إلى  البشر  )   ،  يدلنا  ذلك  على طبيعتها  وعلى معناها  العام الذي  يشمل  جميع  البشر من غير تمييز   ،  وهي  التي  تحصل  للذكور وللإناث  على حد سواء    ،   وهذا   المعنى  هو  رد  لما  ذهب إليه غير واحد  من علماء الكلام  [  في تقييد  النبوة بالذكور دون الإناث ]    ،   وليس  من  شك  إن ماهب إليه  هذا البعض  في حقيقته  دعوة جاهلية   ،   ذلك أن  - المعرفة اليقينية  -    التي يحصل عليها البشر   عن طريق الوحي  لم يرد فيها حصر أو تخصيص   بالذكور دون الأناث  كما توهم  هؤلاء   .
      ثم إن  - الكتاب المجيد  -  لما  عرف  لنا  النبي  قال هو -  إصطفاء -   ،  ولم يجعل  معنى الإصطفاء خاصاً بالذكور دون الإناث    ،  ومعنى فعل    -  أصطفى   -  :  يدل على الإختيار والإنتخاب بعناية ،  المأخوذ من الأصل اللغوي للفظ  والدال على الصفاء  ضد الكدورة والتلوث من كل شائبة  ،  نقرأ ذلك في :
    قوله   تعالى  :  [  إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ]  - الأعراف 144  ، 
    وفي قوله    تعالى  :  [ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ]  - آل عمران 33  .
    وفي قوله   تعالى  :  [  إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ]  -  البقرة  247  .
    والمعنى  في هذه النصوص   واحد  وهو الإختيار  ، الذي  لا يكون ممكناً  ومنطبقاً  على معناه في مسألتنا إلاَّ  حينما يكون  من قبل الله  ،  الذي لديه علم تام   بهذا المختار من بين  الناس   ،   وفي نفس سياق المعنى  وكما قلنا  بإن  -  المعرفة  اليقينية -  لا تختص بالذكور دون الإناث  ،  فكذلك  -  الإصطفاء -  لايكون منحصراً بالذكور دون الإناث   ،  وإليكم الدليل   .
      قال تعالى  :  [ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ] – آل عمران 42 -  ، وهذا النص واضح  الدلالة في أن -  المعرفة اليقينية -  التي حصلت عليها  مريم العذراء  جعلتها  من فئة  الإنبياء  مع  قيد  وبيان -  إن الله  أصطفاك -   ،  فيكون  - إصطفاء – مريم  دليلاً  على نبوتها  ،  وقد عزز ذلك المعنى القول  التالي  من سورة مريم :
    قوله  تعالى :  [  إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ  ]  -  مريم  45   ،   ففي  هذا  النص  نلتقي مع ذلك  الجدل  المعرفي  الطوعي الذي نجده  في صدر البيان ،  بقوله -  إذ قالت الملائكة -   وفي لغة العرب  حين يكون  الخطاب  موجهاً لشخص ما   بأسمه وصفته  فذلك دليل على الأهمية   ،  وجملة  -  يبشرك  -  جملة خبرية  يُفهم منها المُراد  في السياق  الذي ورد  جاء بعد  حالة -  الإصطفاء  - ،   وفي هذه الحالة  تكون مريم يقيناً  من الأنبياء من غير شك   ،  بل  ولها درجة فوق  درجات  كل نساء العالمين  اللائي  بلغن شاءاً  من القرب  في  مطلق الزمان والمكان   .
    كذلك نفهم من السياق أن  علاقة مريم بالوحي  كانت  علاقة مباشرة ،  كتلك التي حصل عليها  النبي محمد  وغيره من سائر الأنبياء  ،    فالطريق  والسبيل  إلى ذلك واحد  وبه  تتحقق  نبوة  الإنسان  ،  وذلك السبيل أو الطريق  سماها  الكتاب  المجيد  -  الوحي   -   :  والذي هو   الوسيلة  السريعة  التي تأتي بالمعلومة  من الجهة المرسلة   كما تقول لغة العرب  ،  وأصله   :  -   من  وحى  أوحى إليه  ووحيت  إليه  ،  إذا  كلمته  عمَّا تخفيه عن غيره   -    ،  وهو   في  لغة  الكتاب المجيد   :  -   يعني  تلك  الواسطة  أو الوسيلة   التي من خلالها   يمكن إيصال  المعلومة من الله    لمن  أختاره من عباده   -  ،  ومعرفياً  لا يمكننا  تصور  الكيفية  ولا الطريقية  التي يتم  فيها   إيصال  تلك  المعلومة    ،    لكننا  يمكننا  تصور  المعنى  من خلال  طبيعة النصوص الحاكية عنه    ،    [  فيمكننا  مثلاً  -  تصور  الوحي  على إنه  إشارة  أو إيماء أو  سرعة  أو صوت  -    ]  ،    وهذا التصور رصدناه  في لغة النص  وفي  لسان الأخبار    ،  فالوحي بناءاً  على تلك الطبيعة  أما أن  يكون  :
    1 -   كلاماً مباشراً   كما في قصة موسى النبي  .
    2 -   أو يكون قولاً بلسان الملائكة كما في قصة مريم  العذراء  .
    3 -   أو  يكون  إلهاماً ورؤيةً    ، كما في قصة إبراهيم مع إسماعيل أو قصة  أم موسى  .
     وفي المعجم  المفهرس  وجدنا  إن  لفظ   -   الوحي -  وكذا  إشتقاقاته  لا يبتعد عن هذا  المعنى المتقدم  ،  بدليل    :
    قوله   تعالى  : -  يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً  -  الأنعام  112  ،   فصيغة   ( يوحي  )   وردت  بالمعنى  السلبي  للفظ  حين يدل  على التحريض والنزاع   وتأليب البعض على البعض الأخر ،   من خلال  الدس والتزوير والتشويه  والدعاية المضللة  ،  وهذا جهد الشيطان  وجنوده    .
    وقوله تعالى  :  -  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده  وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل  -  النساء  163  ،  وفي هذا النص   وردت الصيغة بالمعنى الإيجابي  ، الدال على الإشارة والتنبيه    .
     وقوله تعالى  : -  فأوحى إليهم  أن سبحوا بكرة وعشيا -  مريم  11  ،  ومعناها هنا دعاهم  أو أشار إليهم  .
    وقوله تعالى  : -  وأوحى ربك إلى النحل  -  النحل  68   ،  ومعناه هنا أي جعل أو صيَّر لدى النحل إرادة ذاتية تنطلق من فعل  ذاتي  بايولوجي  ،  وهذه  الإرادة  لها  علاقة  بالطبيعة التكوينية لعموم  الحيوانات فيما تأكل  وفيما تشرب    .
    وقوله تعالى  : -    وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى   -   القصص 7  ،   والمعنى هنا  جعلنا  في  قلب أم موسى السكينة والإطمئنان  ،  وقد عُرف هذا المعنى بالإلهام  الفطري المستند  إلى اليقين  ،   وقد عُرف الإلهام  بأنه من ألهم  الدال  على  :    [   وقوع  اليقين  في القلب  مما  يؤدي إلى الإطمئنان في العمل   ]   .
    وقوله تعالى :  - [  يومئذ  تحدث أخبارها *  بأن ربك  أوحى لها  ] -  الزلزلة  4 و 5  ،  والمُراد  من لفظ  -  أوحى -   هنا  بمعنى الأمر  الذي يكون  بعد الإخبار    .
    وأما قوله تعالى :  -  وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ  -  الشورى  51   ،  فهو يبين  لنا  درجات  و مراتب  الوحي  التي يمكن تصورها للبشر   وهي كالآتي  :
    1 -    الوحي المجرد   :  ومن مصاديقه  - الإلهام  -  الذي يقع  في قلب الإنسان   عن معرفة  ويقين   ،  فيطمئن إليه ويعمل بموجبه  كالذي حدث لأم موسى    -  ، ويدخل في بابه  الرؤية الصادقة التي حصلت لإبراهيم النبي  مع ولده إسماعيل  ، أو كالذي حصل  لزكريا مع قومه  حين أمرهم  بالتسبيح   بكرة وعشيا  .
    2  -   الوحي  من  وراء حجاب  :   ومعنى  هذا  وتجلياته  تظهر بالصيغة  التي  وقعت  مع موسى النبي   ،  وفيها  كان  الوحي  من وراء حجاب  بعيداً   عن الرؤية المباشرة لله  ، وقد دل على هذا قوله  تعالى :   -  ربي أرني  أنظر إليك !!  .... فكان الجواب  :  قال  لن تراني   !!!   ،  ولكن أنظر إلى الجبل  فإن أستقر مكانه  فسوف ترآني  ..   -  الأعراف 143   ،  والنفي هنا ورد لتقويم  المعنى  في قوله تعالى :  -  وكلم الله موسى  تكليما -  النساء  164  ،  فكان  الوحي  صوت  وكلمات  يسمعها موسى  في المقدَّسين    ،  فوق أحساس الكروبيين  ، فوق غمائم النور  ، فوق تابوت الشهادة   ، في عمود النار  ،  وفي طور سيناء وفي جبل حوريث في الوادي المقدس  في البقعة المباركة  من جانب الطور الأيمن   -  مفاتيح الجنان  ص  103  -   .
    3 -   وأما  الوحي بواسطة الملائكة  :  فهذا هو المألوف  في علاقة الله بأنبياءه  ، فالملاك أو الملائكة  كانوا  هم  الواسطة التي تنقل الخبر من الله  إلى من أصفاه الله  لذلك    ،  وهذه الصيغة وردت  في سياق القول التالي   : -  أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ   -  الشورى   51 
    *  *   * 


    بعد هذه المقدمة  نأتي  للتعرف على الطبيعة أو على المهمة التي يقوم بها النبي  ، وبعبارة  أدق :    
    هل  النبي    مفسراً  للوحي  أو  مبلغاً  له   أو مبشراً به ،   أم له مهمة أخرى   ؟   ،
      يقول الإمام علي عن السر من بعثة  الأنبياء    ،   قال  : -  إنما يبعثهم للناس  ليثيروا  فيهم  دفائن العقول  -   ..  فثورة العقل أو إثارة العقل  هدف مستقل بذاته  يقصده  الله  حين يبعث أنبياءه   ،  ولهذا ترآه  يقول  : -  أفلايتدبرون  القرآن  أم على قلوب أقفالها  -   محمد 24   ،  فالتدبر  :  في لغة النص هو تحريك  للعقل كي يلاحظ ويفكر ويستنتج  ويجتهد ويحكم  ،  والتدبر  (  هو إعمال للنظر )   سواء أكان ذلك الفعل  تجريدي  أو توعوي   ،  وإعمال النظر :  هو لفظ دال على  الإستنهاض  والتحفيز  للعقول   ،  لكي  تفهم  وتعي  الأشياء  بطريقة تتناسب  مع  ما يُصلح الحياة ويَّعمَرُها    .
      ونعود  للقول  في الجواب عن السؤال    :  -   من البدهيات  اللازم معرفتها  هو  (   إن  عقل النبي  عقلاً  متطورا  بالضرورة قياساً  إلى غيره  من العقول )   -  ،  ومادمنا  في صدد  الكلام  عن عقل النبي  فأول ما يتبادر  منه  إنه المفسر لما يأتيه  من وحي   ،   وهذا  في    -   العنوان الأولي   -   الذي يمكننا   فيه وصف  النبي  ودوره    ،   إذن   [   فهو   مفسرٌ لما يوحي به  الله  إليه  ]   ،  وهذا  النبي  يكون مبلغاً أو مبشراً أو نذيراً  لكن  في   - العنوان  الثانوي  -    ،  وهو في كليهما لا يكون     -  آمراً  أو  ناهياً  -   ،  أي لا يصح من النبي أن يقوم بدور      (   أفعل  أو لا  تفعل  )    ،  وهذا  المعنى  وجدناه  في الكتاب المجيد ،  إذ  ليس فيه لفظ أو معنى يدل  على أن النبي  كان  - آمراً أو ناهياً -   ،  لأن هذا الدور هو  من مهمات وإختصاصات الرسول  بصفته    (  حاكماً  )     ،   ولا يخالف  في هذا   إلاَّ  الجاهل  المُقصر   ،  ذلك  الذي يخلط  بين  النبوة  والرسالة  ،   كما يخلط بين النبي والرسول    ،     والخلط  أساسه  التماهي  في الدور في ذهن   فئة  من الناس  تتعمد  إغراق  الواقع   بين حاجات النبي ودور الرسول   ،     وإن دل هذا على شيء  فإنما  يدل  على جهل  في معنى   -  المعرفة اليقينية -  التي يحصل عليها  النبي  بالوحي  ،  والتي  يؤمن بها بعد إدراكها ووعيها  فتصبح  عنده يقيناً مطلقاً        .
    ومعنى  كون  النبي  مفسراً   ،  هذه  الجملة أو العبارة  هي  من لوازم  نصوص  الكتاب  المجيد  التي  توحي بذلك  كما في       :
     قوله تعالى   : -  (  قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاَّ نبأتكما نتأويله )  - يوسف 37  -  ،  فيوسف النبي  يقول  لمن حوله  أنا  قادر على أن أشرح لكما وأبين  ما تأكلانه  ،   وهذا المعنى من القول  هو ما  نسميه  ( بالتفسير )   - .
    و قوله تعالى :  -  (  قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم )  - التوبة  94  ،  وهذا القول  هو   (  تفسير للخبر ) ، ومعناها  :  إن  الله  قد أخبرنا  أو أطلعنا  على أخباركم   .
    و قوله  تعالى :  - (  قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) -  التحريم  3  ،   في هذا النص  هناك  مفردتين :
     الأولى  :  وردت  في  صيغة  الإستفهام  -  أنبأك  - ومعناه من أخبرك أو فسر لك   .
       والثانية :   وردت  في صيغة   -   نبأني -  والتي تعني  الخبر اليقين الصادق ، في كلا الحالين  وردتا  بمعنى (  التفسير  ) .  
    و قوله تعالى :  - (  سأنبك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا )  - الكهف 78  ،  ومعنى  -  سأنبك -  أي سأكشف لك أو أظهر لك  ،  والكشف والإظهار   هنا هو   بمعنى  (  سأفسر لك   )      .
    و قوله تعالى  : - (  قل أونبئكم بخير من ذلكم ) -  آل عمران 15  ،  والصيغة وردت في خطاب الجمع  ومعناها -   أدلكم أوأهديكم   -  وهي كذلك بمعنى  (  التفسير )   .
    و قوله تعالى :  - (  ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) – لقمان 15  ، والمعنى هنا هو التذكير أو إعادة المشهد والصورة التي كنتم عليها ، وهو أيضاً بمعنى  (  التفسير )    .
    وفي جميع هذه النصوص هناك معنا مشتركاً واحداً  ألاَّ  وهو (  التفسير  أو التبشير   )     ،
      قال تعالى  : -   ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ) – آل عمران 42  ،  و لفظ  - مبشرين  -  وردت في سياق  النص لتبين  لنا طبيعة التطور والتحول  الذي حصل  للإنسان  ،  وإنتقاله من حالته البشرية إلى حالته الإنسانية   ،  و  الجذر الثلاثي  للفعل  بشر صحيح  يدل  على البشارة  ، والتي هي الخبر المفرح السار   ،  والبشارة والتبشير  :  من الملازمة اللفظية   لحركة النقلة  التي حدثت للإنسان  ،  ومعها  كانت حاجة  هذا  الكائن الجديد   للتعرف على الأشياء   ، لذلك  قال تعالى في الجواب   : -  وعلم آدم الأسماء كلها  ..-   البقرة 31   ،  ومفهوم  عَلَّمَ  بهذه الصيغة تعني - التفسير  والشرح  -  ،  الذي يتناسب  وكل مرحلة من مراحل الإنسان   ،  (  فالنبوة )    أو  (  بعثة الأنبياء  )   كانت هي  الوسيلة التي  تُبشر في تحرير العقل  والإنسان  من كل ما يعيق حركتهما   ، وبهذا  المعنى تكون  - البشارة   -  جزءاً  من المعنى  الفطري للطبيعة الإنسانية ، وبما إنها  كذلك  فهي تعبر عن  -  المعرفة اليقينية  -  التي تتطابق  وتتناسب معها     .
     وهذا  المعنى يبحث في الفلسفة   بصيغة سؤال يقول   :  كيف يكون ذلك ؟    ،  أي كيف يكون التطابق ممكناً بين المعرفة الفطرية والمعرفة اليقينية ؟   
     وفي الجواب  نقول  :  [   المعرفة الفطرية هي  تلك  المعرفة  التي يحصل عليها الإنسان  ،  من النور الذاتي  و الذي يعتمد في الأساس على  نور الله  ]  ، وهذه المعرفة   عامة  من  حيث  كون  جميع الناس يشترك فيها    ،  لأنها تعتمد على مبادئ  مشتركة يؤمن  بها   و يعتنقها  أغلب الناس   ، لكن ليس جميع الناس  يعتنون بها  ،  ذلك لأن الكثير من  الناس إنما  يولعون  بالنوادر والعجايب والخوارق والمعجزات   ،  ويحتقرون  أو يزدرون   كل هبة فطرية  ،  وهكذا يكون  موقفهم  من النبي  حين  يتحدث  عن  المعرفة  التي  يحصل  عليها  عن يقين   ، مع إن  الواجب يقول   :  إن  للمعرفة الفطرية  الحق الذي  يفوق  أو يغلب  أية معرفة أخرى .
    ولتبسيط الفكرة  نقول   :   -  إن المعرفة الفطرية  هي    أثراً من آثار الطبيعة الإلهية  ،  والطبيعة الإلهية   هي أثراً من آثار الأوامر الإلهية  -   ،  ولكن  هل  تختلف المعرفة الفطرية  عن  المعرفة الطبيعية  ؟  ،   نقول   :  لا تختلف  المعرفة الفطرية   عن المعرفة الطبيعية   إلاَّ   في نقطة واحدة ،  وهي  :  -  إن   ما يحصل  من  المعرفة الفطرية  من معارف وعلوم  لا يمكن تفسيرها بقوانين الطبيعية  بالمطلق    -  .
       لكن  لأصحاب مذهب الإتحاد رأي في هذا  فهم  يقولون   :  -  إن  كل موجود في الطبيعة  هو عبارة  عن إتحاد  بين  الموجد المفيض والموجود الممكن -    ،  وبعبارة أوضح   يكون عندهم  :  -   كل  موجود في الطبيعة  المادية  لا يمكنه  الوجود أو الإدراك   بدون فيض الموجد وإرادته  -   ،  ومن طبيعة  الموجد المفيض  إن له  عدداً  لا متناه  من الأشياء والأحوال   الممكنة الوجود   ، و بناءاً  على هذا  فكل  حيز  ذهني  لا نهائي  يدخل في هذا المعنى   ، وبناءاً عليه  كذلك  تكون المعرفة الفطرية  من المعرفة الإلهية  ، ولكن  ليس كل  معرفة فطرية  هي  معرفة يقينية  ،  فما يحصل لبعض الناس من معارف وعلوم  فطرية لا يصح  أن نجعل منه   بقوة  المعرفة اليقينية التي تحصل عن طريق الوحي   ،  وإذا تبين هذا تسقط دعوى الكثير من الغنوصيين  أدعياء المعرفة الفطرية ويسقط  من الإعتبار مشاهداتهم وكيفياتهم وحالاتهم الذاتية  المُدعاة    .
       لكن  ما الدليل  على أن هذا  الإنسان مُدعي النبوة  قد حصل بالفعل على الوحي من الله  ؟    ،   ولماذا  لا يدخل هذا المُدعي  في ساحة أؤلئك  الذين يحصلون  على العلم  بالنور الفطري الذاتي  ؟  ،   مع تأكيدنا  إن ذلك  ممكناً وغير ممتنع  ، أعني  بذلك  جواز حصول البعض على هذا النور والعلم من غير وحي ،   وهذا القول :  ممكن في ذاته لكن إتصافه بالوحي الخاص وحالاته  فهذا  ممتنع  ،   أما  الإمكان  فيكون  من وجهين : 
    الأول  :   الطبيعة التكوينية   ، ونعني بها  التكوين والجبلة  الخاصة كالغرائز  ،  يظهر ذلك  في قوله تعالى : [ وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتاً ] -  النحل 68  ،  فالقدر المتيقن من لفظ  -  أوحى -  هو ليس الوحي  بمعنى الملاك أو الغمام ، بل  بمعنى  التكوين  والخلقة الطبيعية   لهذا الكائن  ،  وهذا الذي نسميه التقدير في عالم السنن  الطبيعية   ، كأكل البقر للعشب والحشائش دون  اللحوم   ،  والوحي هنا بمعنى الصنعة والخلق على نحو ما   .
    الثاني  :  الحس والخيال والتصور والكلام أحياناً  ، كما في قوله تعالى : - [  وأوحينا إلى أم موسى ]  القصص 7 ،  والوحي هنا لا بمعنى نزول الملائكة  بل بمعنى الإلهام والإلقاء في الروع على نحو يفيد اليقين ، وتعريف ذلك :  هو حس وشعور ذاتي مفيد للإطمئنان واليقين ،  يكون هو نفسه  أي الحس والشعور بمثابة الطاقة التي تجعل من تصل إليه واثقاً ومتيقناً ، بأن شيئاً سلبياً لم يحدث   ،  هذا اليقين متعلق بما تحصل عليه الفطرة من معرفة تكون يقينية عندها ، وبما إننا عرفنا وجوه الوحي وقلنا   :   -  إن واحدة منها هو الوحي  ،  الذي يكون بشكل إلهام ، لذلك نقول لا مانع من إعتبار ما حدث لأم موسى من فئة الوحي الذي حدث لكثير من الأنبياء ، وهذا المعنى لا ترديد فيه بعدما تبين لنا : - إن النبوة هي معرفة يقينية يحصل عليها الشخص من خلال الوحي -  ، وهذا بالضبط ما حدث مع أم موسى .
    والثالث  :  الرؤية االصادقة ،  والإبتداء  مع قوله  تعالى : - [  يا بني أني أرى في المنام إني أذبحك  .. ] -  الصافات 102 ،  وهذه الرؤية هي التصور  أو الخيال   الذي كان   بالقوة ،  ولكي يكون واقعاً  بالفعل  وحقيقة  ، قال في مقام الرد  : - [  قال أفعل يا أبتي  ،  ستجدني إنشاء الله من الصابرين .. ] -  الصافات 102  ،  ولو طبقنا النظرية الواقعية سنجد :  إن هذه الرؤية مجرد خيال ووهم ، لا يمكننا العمل بموجبها  ، لكن  هذا  الخيال وهذا الوهم كان هو الحقيقة من وجهة نظر المعرفة الفطرية  التي هي معرفة يقينية عند إبراهيم النبي ، ولكن مجرد الخيال والتصور كان بالنسبة لهما واقع وحقيقة ، ولهذا أمتثلا للفعل مصدقين الرؤية على أنها حقيقة لا وهم ، قال تعالى : - [ أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا  .. ] – الصافات 103  ، ولكن  هل الرؤيا  جاءت  في سياق نبوة إبراهيم أم كانت سابقة لها ؟  ، بحسب المعطى التاريخي لم تكن الرؤيا سابقة للنبوة ،  بل كانت في سياقها أو هي جزءاً من إيحاءاتها .
      ونصل هنا لحقيقة الإختلاف  بين  الوحي والبعث  ، وقد مر الكلام عن الوحي وطبيعته وأنواعه  ،  وأما  البعث  فقد ورد  في لسان العرب  بمعنيين  :
     أحدهما   :  يعني  الإرسال  كما في قوله تعالى : -  ثم بعثنا من بعدهم موسى -  يونس 75  .
      وثانيهما  :  بمعنى الإحياء بعد  الموت  ، قال تعالى : -  ثم بعثناكم من بعد موتكم -  البقرة 56   ، فالبعث هو حالة نهوض وإستنهاض  ، وهي تأتي بعد حالة الوعي والإدراك  ، وفي مسألتنا تأتي بعد الوحي أو الذي جاء به الوحي  ، والنبي حين يبعث إنما يقوم بدور المبلغ والشارح لما لديه من حقايق ومعارف  ،  لكن هذا الدور لا يسحب منه طبيعته البشرية لذلك يقول : -  إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي -  الكهف 110  ،  وأداة الحصر -  إنما -  تفيد معنى إن  له نفس الصفات المخلوقة كما هي لهم ،  لكن المميز له عنهم هو بهذا القيد أو قل بهذا التعريف : - يوحى إليَّ – وفي هذا القيد أو التعريف ورد ذكر قوله تعالى : -  وما ينطق عن الهوى * إنما هو وحي يوحى -  النجم 3  .
     وهذا المميز  قالت عنه الكلامية  بمعنى  (  العصمة  )  ،  والتي هي المنع  من الوقوع في الخطأ  ،  والمنع لا بد  أن يكون صفة ذاتية  ، عبر عنها الأصولي  : بالملكة التي تمنع صاحبها من إرتكاب الخطأ  ،  وهي بهذا المعنى لا تتعدى بالنسبة للنبي المعنى التشريعي وليس المعنى التكويني  ، أي إن النبي يكون معصوماً بذاته  (  تشريعاً )  حين يمتنع عن إرتكاب الخطأ  ،  ثم تأتي العناية الإلهية  كما يُفهم من قوله تعالى : -  والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا -  العنكبوت 69  ،  ولا يصح إعتبار قوله  - وما ينطق عن الهوى  -  بمعنى العصمة من الله ، بل المُراد   :  -  إن ما يأتي به النبي من الله لا يخطأ فيه ولا يتعمد ذلك ، بدليل قوله  :  -  إنا  نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون -   الحجر 9  ،  إذن فالنبي معصوم عصمة ذاتية تمنعه من أتيان الخطأ  ، وهذه متقدمة على الإصطفاء الذي يأتي لا حقاً ،  يعني لا يكون النبي مصطفا من دون هذه الضابطة الذاتية المانعة من إرتكاب المحرم والخطأ   .
    والنبي لا يوصف بالنبوة إلاَّ  بالوحي  ،  وليس من شرط أن يكون كل نبي مأمور بواجب -  الأمر والنهي - ،  لأن النبوة ليست قوانين لتنظيم حياة البشر ، بل هي دعوة لفهم الحياة دعوة مجردة  ، وحتى تكون تامة لازمها الصدق والمحبة والشمول ، لأنها في الواقع قضية ربانية خالصة في شروطها وفي فعلها وفي أدواتها وأهدافها ،  ولأنها كذلك :  نقول : -   بأن ما يحصل للفلاسفة والعرفاء من علوم ومعارف ، لا تؤهلهم ليكونوا أنبياء  -    ،   لا  في مجال التفسير والشرح والبيان ولا حتى في مجال التدبر وإعمال النظر ،   فالنبي  إنما يكون موظفاً  لإثبات الحق الذي ينفع الناس  ،  عن طريق الحوار والجدل بالحسنى  (   البرهان   )   ،   مستفيداً  بالقدر اللازم  من كل المراحل  التي يمر بها   من مراحل  تجريبية حسية  أوفيزيائية  مجردة  وأحيانا ميتافيزيقية مثالية    ، وتارةً   تكون عبر مكاشفات  غير مألوفة  أو متصورة  ،  ولكن كل ذلك  الفعل  ينتهي إلى الوحي  الذي هو دليل النبوة  الوحيد  ، وكل من أدعى  النبوة   أو يدعيها   فلا بد أن يكون له وحياً يتلقى من خلاله الكلمات  ،  التي كانت  بمثابة القول  التالي  : - وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن .. – البقرة 124  ،   أو بصيغة القول التالي   : - فتلقى آدم من ربه كلمات فتآب عليه  .. – البقرة 37  ،  والكلمات  جمع  كلمة  والتي  تكون  مرةً  على نحو  مكاشفة صورية وأخرى  على نحو  مكاشفة معنوية .
    والمكاشفة الصورية :  ونعني بها  هنا  ما يحصل عليه النبي في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس   .
    والمكاشفة المعنوية :   ونعني بها ما يطلع عليه النبي من معاني الغيب  ، وهي التي تجمع بين الصورة والمعنى لذلك تكون أعلى رتبةً وأكثر يقيناً .
    وفي هذا السياق جاء قوله تعالى : -  فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور – الحج 46  ،  وعبارة -  لا تعمي الأبصار – إشارة إلى معنى الكشف الصوري الذي يتم  عبر أو  من خلال الحواس الخمس   ،  وجملة  -  تعمي القلوب التي في الصدور -  دليل وإشارة رمزية لمعنى الكشف المعنوي  ،  والجملة  الخبرية جملة توضيحية   تتحدث عن مقام العقل أو ما يغذي العقل  ،  إذ الثابت  حسب أخر الدراسات  :  -  إن القلب هو من يعمل على  تفعيل القلب أو إغلاقه  -  ، ويكون هو المتعين  بذاته  بحسب هذا النص  دليلاً   ،  على أنه مكان وعي  وإدراك  المعاني  و الحقيقة من غير واسطة ، قال الملا صدرا في مفاتيح الغيب : -  أن قوة الوعي والإدراك الأصلية تفيض من القلب من غير واسطة  -   ،  والفيض الموجب هو الرؤية والوضوح والكشف دون لبس ،  وفي غير ذلك يكون العمى والضلال  والإنحراف   ، والكلمات  التي ينزل بها الوحي  لا بد ان تتناسب  سعةً وحجماً  مع من تتنزل عليه   ، وبما إن النص إستعار مفهوم القلوب في الكشف والرؤية الصادقة  ، فإن ذلك دليلاً  على أنه مكان   المعرفة الفطرية  وساحتها   .
     وفي  جميع  الاحوال  يمكننا وصف  الوحي  على إنه  حركة وعي في الارادة والقوة ،  تجلت لمحمد النبي بصيغة  متعددة   ،  وتجلت  لموسى النبي   بصوت خارجي  ، وتجلت  لعيسى النبي  بصيغة إتصال الروح بالروح ،  وقد عبر عن ذلك  بعض العرفاء بالقول  :  [  فعين النطق  منه  بعد الولادة هو تجلي لذاته الروحية في  كمال ذاته القدسية ]  ، وعبر عن ذلك بعض أهل  الإتحاد بالقول  :   [  إن  قدرة  التجلي  بين الوجود والحقيقة  واحدة في الأثنين ]   ،   ومنها  يمكننا  الإدعاء  :  - بأن علة النبوة علةٌ غالبة ، كما إن قدرة الله قدرة غالبة  -  .
    وفي هذا الإدعاء حرص منا على القول : -  وبما إننا نجهل حدود ذهننا ، لذلك فنحن  نجهل العلة الغالبة للنبوة  -  ،  ذلك إن  النبي إنما أدرك النبوة  بواسطة  الخيال الذاتي ، والذي هو الوحي الإلهي ، والنبي  حين يفسر هذا الخيال لنا  فإنه  لا يتحرك  في حدود ضيقه   ، بل يتعدى ذلك  إلى تفسير فكرة الله ومفهوم الله  وحدود الله  وطبيعة الله   ، فهو حينما  يبلغنا  أن  الله : -   يدآه مبسوطتان – المائدة 64  ، أو حين يقول لنا إن  : - الرحمن على العرش أستوى – طه 5  ،  صحيح إنه أستخدم  أو  أستعار إلفاظاً  على نحو مجازي  ،   لكنه  كان يستهدف  تقريب الذهن العام  لما يتصوره  ،  عن اليد  وعن العرش وعن الكرسي  ،  وكل ذلك  من أجل تقريب الذهن إلى كيفية أستخدام الألفاظ  وتطويعها  وبما يتناسب ومُراد الوحي   ، ونعود للقول :  بأن الله حين كلم موسى تكليماً ، إنما كان  صوتاً عبر عن روح الله  ،  الذي لم يكن سراً  كما إن النبوة ليست سراً   ، بل هي  كشف عن الحق المغيب الغير معلوم   ، ولذلك  كان  من مهامها إثبات حقيقة الملائكة  وحقيقة الجان  التي هي من الغيب  أو من الأسرار  ،  وهذا من أجل أن يتفطن الإنسان لما وراء هذا العالم  ، كما يفعل العلم الحديث في جانب حين يستطيع الجمع والتركيب للأشياء الغير مرئية فيجعل منها حقيقة عيانية مشاهدة ..

    آية الله الشيخ إياد الركابي

    26 ربيع الأول 1440
    الحلقة الأولى
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media