مأساة "المحاصصة" في داغستان
    الجمعة 23 فبراير / شباط 2018 - 21:53
    عبد الله حبه
    كاتب وباحث وأديب عراقي مغترب يقيم في روسيا
    لا توجد مشكلة مستعصية على الحل أمام السلطات الروسية، منذ أيام القياصرة والسوفيتات وحتى في أيام  السلطة الروسية الحالية، مثل مشكلة توزيع الكوادر الإدارية في جمهوريات شمال القوقاز الروسية . وجمهورية داغستان حيث يعيش أبناء 40 قومية، وأكثرها  باق حتى الآن بلا لغة مكتوبة، تشغل موقعا متميزا بين هذه الجمهوريات لكونها متعددة القوميات. فجمهورية الشيشان مثلا ذات قومية واحدة وجميع أهلها من الشيشان،وكذلك الحال في جمهورية الانجوش وجمهوريات القوقاز الأخرى . طبعا ما زالت باقية هناك رواسب الأنظمة العشائرية التقليدية فيها. وكانت داغستان خلال عدة قرون مسرح نزاعات مستمرة بين  أبناء مختلف القوميات بهدف السيطرة على مصادر المياه والمراعي . وكانت "الغزوات " بينها مستمرة بلا توقف وتراق فيها الدماء ويمارس النهب والسلب. وعندما أحتلت روسيا مناطق شمال القوقاز  في اواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر قامت بدور الوسيط في حل النزاعات بين هذه القوميات على أساس الوفاق والمصالحة. بينما حاول الإمام شامل (1797-1871) إقامة دولة موحدة في شمال القوقاز على أساس الشريعة الإسلامية بهدف تأسيس دولة ذات سلطة مركزية ، لكنه هزم وأستسلم الى القوات الروسية حيث كان مصيره النفي الى وسط روسيا ، ثم السماح له لأداء فريضة الحج حيث توفي في المدينة المنورة ودفن في مقبرة جنة البقيع الى جانب الصحابة وزوجات الرسول (ص).ويشير المؤرخون الى أن أحد أسباب هزيمة الإمام شامل كان ليس ملاحقة القوات الروسية له فقط، بل خيانة الأمراء  من الآفار والداغرين الذين خشوا ان يحتكر السلطة لوحده.  
    لقد وجدت السلطة السوفيتية منذ عام 1921 ان الأفضل من اجل إستتباب الإستقرار في داغستأن أن تواصل سياسة روسيا القيصرية في عدم التعرض الى التقاليد المحلية، ولاسيما الدينية، وعدم التعامل معها كما في بقية مناطق الإتحاد السوفيتي. ولو أن سياسة الإلحاد كانت تطبق شكليا على نطاق الدولة كلها. وأخضعت قيادة موسكو موضوع التعيينات في المناصب الإدارية الى مبدأ " المحاصصة" وعلى أساس الوفاق. وكان منصب رئيس الجمهورية في داغستان  يشغله بصورة دورية احد ابناء الآفار أو الدارغين وهلمجرا. ولكن السلطة السوفيتية فرضت رقابة صارمة على توزيع المناصب وفرضت أن يكون نائب كل رئيس جمهورية وكل مدير ادارة  في داغستان من ابناء روسيا او اوكرانيا او بيلوروسيا وغيرها للحؤول دون حدوث تناقضات ونزاعات داخلية. ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي  انشغل الكرملين في الصراعات الداخلية وفي الحرب الشيشانية ولم يبد أي إهتمام بما يحدث في داغستان .وظهرت الحاجة الى دعم الداغستانيين لدى قيام الشيشان بقيادة خطاب وباسايف بالهجوم على داغستان في عام 1999 ، وسلمت موسكو السلاح الى الداغستانيين لمساعدة الجيش الروسي في التصدي الى الزحف الشيشاني . ومارس الداغستانيون ولا سيما الآفار والدارغين دورا ملحوظا في هذه الحرب. ولكن بعد إنتهاء الحرب الشيشانية تركت السلطة المركزية في موسكو الوضع في جمهورية داغستان على حاله وبلا رقابة مما فتح الأبواب أمام نشاط العناصر الإجرامية وقوى الفساد التي تسللت الى  كافة مؤسسات الجمهورية من دوائر الحكومة الى الجامعات والمعاهد ودوائر الجمارك والضرائب والصحة وغيرها. وصارت المناصب تباع بملايين الدولارات ، فمثلا ان منصب وزير الثقافة يباع ب5 ملايين دولار ومنصب عمدة محج قلعة ب15 مليون دولار. كما لا يمكن عمل أي شئ بلا رشوة. وازدادت البطالة في اوساط الشباب الذين وضع بعضهم تحت تأثير المنظمات المتطرفة ومنها داعش. وأراد الكرملين إصلاح الوضع جزئيا بعد تنامي سخط الأهالي من تفشي الفساد فعمد الى تعيين الأكاديمي الداغستاني رمضان عبد اللطيفوف المعروف بنزاهته والذي كان يقطن بموسكو في منصب رئيس الجمهورية. لكن عبد اللطيفوف وقف عاجزا عن مواجهة نظام الوفاق على أساس " المحاصصة" الموروث منذ عشرات السنين. فإستمر الوضع كحاله سابقا.
    واليوم لدى إقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في روسيا قررت السلطات شن حملة واسعة النطاق ضد الفساد في كافة أنحاء روسيا الإتحادية وطالت مسؤولين كبارا في الاقاليم وحتى وزير التنمية الاقتصادية وبعض نواب الوزراء. وكان لا بد أن تطال هذه الحملة جمهورية داغستان - بؤرة الفساد. فصدر مرسوم رئاسي بإقصاء عبد اللطيفوف من منصب رئيس الجمهورية وتعيين الروسي فلاديمير فاسيلييف بدلا منه . كما تم إستدعاء  ارتيوم زدنوف المسلم  من جمهورية تتارستان لشغل منصب رئيس الوزراء، وهذه سابقة خطيرة بالنسبة الى داغستان . ويبدو أن الكرملين قرر إقصاء جميع الداغستانيين من المناصب العليا حتى تختتم عملية التطهير التي شملت إعتقال رئيس الوزراء عبدالصمد حميدوف ونائبه شامل ايسايف وأمين العاصمة محج قلعة وكبير المهندسين المعماريين في المدينة ومدير هيئة الضرائب ومدير الميناء وعددا كبيرا من كبار المسؤولين. وقامت أجهزة الأمن  القادمة من موسكو بحملة تحريات واسعة النظاق ومصادرة الوثائق في وزارة المالية ووزارة التعليم ودوائر الصحة في العاصمة والأقاليم لمعرفة مصير الأموال التي تقدمها موسكو سنويا لدعم الجمهورية والتي لا يعرف أحد مصيرها . علما إن الجمهورية تعاني مع بعض الاقاليم الروسية الأخرى من العجز المالي الدائم وتعتمد كليا على دعم الميزانية الإتحادية لها، لأنها لا تنتج  شيئا في الواقع . كما منع كبار الموظفين الداغستانيين من مغادرة روسيا . 
    ويعتقد المراقبون أن حركة الكرملين في داغستان خطوة تكتيكية قوية من جانب الكرملين، لكن لا تعرف حصيلتها الإستراتيجية . فإن المجتمع الداغستاني ما زال تحت وطأة التقاليد، ولا يتقبل التغييرات التي يجريها الكرملين إلا على مضض. فهناك الطالب يحتاج حين يدخل الى الجامعة الى دعم أحد الأقارب ولدى التخرج منها يحتاج الى الدعم لشغل وظيفة ما. وهنا تعمل منظومة المحسوبية بكل قوتها. إذا فالمصالح الفئوية لهذه القومية أو تلك يمكن أن تواصل فرض قوانينهنا على نظام مؤسسات الدولة حتى بعد تغير النخبة الحاكمة في الجمهورية . إن المصالح الفئوية باقية وستجدا لها شكلا آخر لفرض نفوذها.لاسيما إن نواب المسؤولين القادمين من موسكو لابد أن يكونوا من الأهالي المحليين أي من الآفار والدارغين واللزجين الذي سيواصلون "خفية" سياسة المحسوبية والفئوية ولكن على نطاق آقل.
    إن عدد سكان جمهورية داغستان ليس كبيرا وحسب الأحصائيات، فإنه يربو على ثلاثة ملايين نسمة. ويشكل الآفار الاكثرية ( 9000 نسمة ) والدارغين (600 ألف نسمة ) والقوميق (500 ألف نسمة )واللزجين ( 500 ألف نسمة ). 
    إن النظام الذي فرضه البلاشفة في عام 1921 حول تسليم دوائر السلطة الى العناصر القومية المحلية قد طبق بنجاح تحت الرقابة الصارمة للمركز. فقد كان الكرملين يراقب جميع تحركات المسؤولين المحليين ويجري التغييرات اللازمة عند الضرورة . لكن الوضع قد تغير في روسيا " الديمقراطية " الأكثر ليبرالية.
    ولا ريب في إن التغييرات الجذرية في دوائر السلطة في داغستان تمثل تحذيرا الى النخب الحاكمة في الجمهوريات والأقاليم الروسية القومية الأخرى بأنها يجب ألا تنسى وجود الكرملين الذي لا يرغب سوى بإستقرار الوضع وعدم حدوث إضطرابات جماهيرية، في الوقت الذي يشن فيه الغرب حملة لفرض الحصار على روسيا وتهميش دورها الى الصعيد الدولي، وجعلها مثل القلعة المحاصرة التي يوجد فيها دائما الطابور الخامس الذي يمكن أن  يفتح ابوابها أمام العدو في اية لحظة لدى حدوث قلاقل ما في داخلها.  
    ويعتقد  بعض المراقبين أن داغستان بحاجة ليس الى مكافحة الفساد فقط ، بل الى إستئصال  شأفة العقلية التقليدية في الخضوع الى  مصلحة عشيرة أو فئة ما وليس الى الوطن كله. لقد حاربت السلطات الفساد في داغسان سابقا مرارا . ففي عام 2013 زجت في السجن سعيد اميروف عمدة محج قلعة الأسبق ، ومن ثم اعتقلت موسى موسايف الذي حل محله بتهمة الفساد أيضا. وبرأيهم إنه يجب أن يكون هدف إحلال العدالة الاجتماعية القاعدة التي يرتكز عليها أي تغيير في نظام السلطة .أن الداغستانيين يتوقون الى التغيير ولكن لا يعرف مدى إستعدادهم للتخلي عن تقاليد الإنتماء القومي والفئوي. فالقوانين لا تطبق في الجمهورية بل تمارس تأثيرها أية مكالمة هاتفية من أحد ما الى المسؤول لكي يتخذ القرار المطلوب. إن مآساة داغستان تكمن في صعوبة إجراء اصلاحات جذرية فيها من دون المساس بمصالح حوالي 40 قومية لكل واحدة منها خصوصياتها وتقاليدها. ويجب البدء من التربية في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام وتوفير فرص العمل ببناء مشاريع اقتصادية ذات مردود لكي تتخلص الجمهورية من دعم المركز وتسلط اصحاب العقارات ومهربي الكافيار الأسود وغيرهم من العناصر الطفيلية، وخلق أجيال جديدة ذات نظرة أوسع وتفكير أعمق حول شكل العلاقات بين القوميات في دولة  مترامية الأطراف مثل روسيا الاتحادية.

    موسكو – عبدالله حبه 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media