صدام والفخ الأمريكي غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. الحلقة السابعة عشرة
    الأحد 25 فبراير / شباط 2018 - 10:13
    حامد الحمداني
    الفصل السادس:عاصفة الصحراء 

    العالم يحبس أنفاسه، والعراقيون يهربون من المدن: 
    بعد فشل اللقاء الذي تم بين طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف،أدرك الشعب العراقي أن الحرب أصبحت أمراً لا مفر منه. 
    كان القلق قد فعل فعله لدرجة أفقد الناس صوابها، فلقد أحس الجميع أن هذه الحرب لن تكون مثل غيرها من الحروب، كالحرب العراقية الإيرانية مثلاً، فالأمر هنا مختلف تماماً،  ذلك أن العراق لا يواجه جيش دولة واحدة، بل جيوش 28 دولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الجيوش، وعلى رأسها جيوش الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، بما تملك من أحدث أنواع الأسلحة، والتكنولوجيا الحربية التي لا يمكن بأية حال من الأحوال مقارنتها بما يمتلك العراق هذا البلد الصغير من بلدان العالم الثالث. 

    ولم يكن أحداً يشك بأن مسار الحرب هو بالتأكيد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وأن مصير الحرب قد تقرر قبل نشوبها، وأن كارثة كبرى ستحل بالعراق وشعبه، و مما أشاع القلق، بل والهلع في نفوس أبناء الشعب، وخوفهم من أن يلجأ صدام حسين إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، والبيولوجية في الحرب، لتردّ عليه الولايات المتحدة بالسلاح الذري والكيماوي، وكل الأسلحة الفتاكة الأخرى التي في ترسانتها، ولاسيما وأن صدام سبق أن استخدم السلاح الكيماوي ضد القوت الإيرانية في حرب الخليج الأولى، وضد أبناء الشعب الكردي في شمال العراق عام 1988، في حملة الأنفال السيئة الصيت، فما الذي يمنعه من استخدام أسلحته الكيماوية والبيولوجية ضد قوات الولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة إذا ما شعر أن وجوده قد أصبح في مهب الريح؟

    ولذلك فقد سارع سكان بغداد وغيرها من المدن إلى مغادرتها هرباً من احتمالات الضربات النووية والكيماوية، وليبحثوا لهم عن مكان آمن. لقد كان منظر سكان بغداد، وهم ينزحون منها يثير الأسى والحزن في كل قلب، فلم يكن للشعب حيلة في ذلك، فهو شعب مسلوب الإرادة، وقد تسلطت على الحكم عصابة مجرمة، بالعنف والقوة، ونكلت به وبقواه الوطنية أبشع تنكيل، منذُ أن سطتْ على الحكم بانقلاب 17 تموزعام 1968، بوحي وتخطيط أمريكي، واشتدت حملات التنكيل الفاشية بعد أن سطا صدام حسين على الحكم، وقام بانقلابه على سيده [أحمد حسن البكر]، ليمتد تنكيله حتى بقادة حزبه، ناهيك عن الأحزاب الوطنية المعارضة لحكمه، لكي يفرض من نفسه أعتا دكتاتور عرفه العراق، وجعل من نفسه القائد العام للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبة عسكرية في العالم، وشن على الجارة إيران حرب كارثية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، بالنيابة عن الولايات المتحدة، حيث دامت 8 سنوات دفع خلالها مئات الألوف من خيرة الشباب العراقي إلى محرقة الموت، دفاعاً عن مصالح الإمبريالية الأمريكية في الخليج.

    ولم تكد تنتهي الحرب عام 1988، ويتنفس الشعب العراقي الصعداء، حتى بدأ صدام حسين يخطط لمغامرة جديدة، فكانت غزو الكويت، وظن صدام أن الولايات المتحدة ستسكت على مغامرته تلك، مكافئة له على حربه ضد إيران، فكانت حساباته خاطئة جداً، فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاتهمهم العلاقات مع صدام، بل إن ما يهمهم هو تأمين مصالحهم النفطية في الخليج، والحيلولة دون ظهور أية قوة تحاول الهيمنة على نفط الخليج، فكان لابد من تجريد العراق من أسباب القوة، وتصفية أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، بعد أن انتهت الحرب مع إيران، وأدى صدام المهمة.

     وهكذا نصبت الولايات المتحدة الفخ لصدام، وسهلت له غزو الكويت، ولم تحاول أن تنهره عن الإقدام على فعلته، رغم أن أقمارها التجسسية، ومخابراتها العسكرية كانت تراقب عن كثب كل تحركات قوات صدام قبل الغزو، وتنتظرها ساعة بساعة، وها هو العراق يواجه ذلك اليوم جيوش الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبكل ما تملكه من أسلحة فتاكة، إضافة إلى اشتراك قوات عربية، مصرية، سعودية وسورية، مغربية، ومن كافة دول الخليج، فلم يجد أبناء الشعب أمامهم سوى هجر بغداد، والمدن الأخرى لعلهم ينجون من الموت، كانوا يعدون الدقائق انتظاراً لوقوع الكارثة التي لم يشك أحد بوقوعها الوشيك.

    45 يوماً من القصف الجوي لكافة مرافق البلاد:
    في الساعة الثالثة من فجر يوم الجمعة المصادف السابع عشر من كانون الثاني 1991، انطلقت أكثر من 2000 طائرة حربية نحو 700 هدف، كانت القيادة الأمريكية  قد حُددته سلفاً، كما انطلقت الصواريخ البعيدة المدى من السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي وخليج العقبة، والبحر الأحمر.
     ففي أعالي البحر الأحمر كانت هناك حاملات الطائرات [ساراتوجا] و[كندي] و[تيدور روزفلت] و[أمريكا] وعلى ظهرها ما يزيد على 200 طائرة قادرة على الوصول إلى أي نقطة في العراق، هذا بالإضافة إلى الصواريخ البعيدة المدى من نوع كروز، الموجهة تلفزيونياً،التي كانت على متنها، والقادرة على المناورة لإصابة أهدافها بدقة، وكانت القواعد الجوية الأمريكية في [حفر الباطن] و[الظهران] و[الرياض] في السعودية، والقواعد الجوية في البحرين، وقاعدة [انجرلك] في تركيا، وقاعدة [ديغو كارسيا] في المحيط الهادئ، حيث تقف على أهبة الاستعداد طائرات B 52  القاذفة الضخمة، والمعدة للغارات البعيدة المدى، والقادرة على حمل كميات ضخمة من القنابل الفتاكة. 
    وفي الخليج كانت الولايات المتحدة قد عبأت كل ما أمكنها من القطعات البحرية، وحاملات الطائرات المجهزة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية بالإضافة إلى القاعدة الكبرى للإمبريالية، وأعني بها إسرائيل، رغم التعتيم الشديد على النشاط الإسرائيلي في تلك الحرب، بسبب ما يمكن أن تسببه من حساسية وهياج لدى الشعوب العربية، مما قد يثير متاعب جمة للجهود الحربية الأمريكية غير أن الذي لا شك فيه أنه كان لإسرائيل دور هاماً تلعبه فيها، وخاصة القصف الجوي، كما أن قواعدها الجوية كانت منطلقاً للطائرات الأمريكية للهجوم على العراق.

    راحت الطائرات الحربية الأمريكية والحليفة، وصواريخهم البعيدة المدى، تدك أهدافها المحددة سلفاً، بادئين بالقواعد الجوية، وأنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وقواعد إطلاق الصواريخ، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومصانع هيئة التصنيع العسكري، والمنشآت النفطية والمصافي، والطرق والجسور، ومخازن المؤن، ومعامل الأدوية، وشبكات الصرف الصحي،  والمفاعل النووي، وما يقرب من 12 مصنعاً للصناعات الكيماوية والبتر وكيماوية. 

    ثم توسع القصف ليشمل كافة المنشآت الصناعية المدنية، بما فيها مصانع حليب الأطفال، والنسيج، والسكر، ومصانع الأجهزة المنزلية، كشركة الصناعات الخفيفة، وخلاصة القول كان القصف قد شمل كل القواعد الأساسية للاقتصاد العراقي دون استثناء، ولم تسلم بقعة واحدة من بقاع العراق، من بطش الطائرات والصواريخ الأمريكية والحليفة، بل حتى الملاجئ المعدة للمواطنين،  فقد بدا واضحاً أن الحرب قد أعدت لا لتحرير الكويت،  بل لتدمير العراق تدميراً شاملاً، كما أشار بيكر في لقائه مع طارق عزيز في جنيف. أما عملية تحرير الكويت فكانت لا تتعدى كونها تحصيل حاصل.

      وفي الوقت نفسه كانت طائراتهم تتسابق لشن الهجمات الوحشية والهمجية على القوات العراقية في الكويت، وجنوب العراق دون هوادة، ودون توقف، منزلة خسائر فادحة بالجنود والمعدات، بعد أن تم إخراج القوة الجوية العراقية من ساحة المعركة، أصبحت القوات العراقية تحت رحمة نيران الطائرات الأمريكية والحليفة. فقد استطاعت الهجمات الجوية المكثفة، والمتتالية، من تحطيم أنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وأنظمة الاتصالات، لدرجة أصبح من المستحيل أن تحلق أي طائرة عراقية في الجو دون أن تكون معرضة للإسقاط .
     وهكذا أصبحت أجواء العراق، ومناطق تجمع القوات العراقية مكشوفة تماماً، وهدفاً سهلاً للطائرات المغيرة، واضطر النظام العراقي إلى إخفاء ما أمكن من طائراته بين الدور السكنية، والشوارع ليقيها خطر الدمار في قواعدها الجوية، واضطرت أكثر من 144 طائرة إلى الهروب إلى إيران، والهبوط في مطاراتها، وقد سيطرت عليها إيران فيما بعد، معتبرة إياها جزء من التعويضات عن تلك الحرب التي أشعلها صدام  ضدها.
    لقد وقع النظام العراقي، الذي يقوده صدام ، والذي جعل من نفسه قائداً عسكرياً، ومخططاً ميدانياً، وهو الذي لم يخدم حتى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش، بأخطاء جسيمة في كامل حساباته، فلقد استهان بقدرات الولايات المتحدة وحلفائها، العسكرية والتكنولوجية، واعتقد أن هذه الحرب ستكون كسابقتها حرب الخليج الأولى.

     كما اعتقد أن الحرب البرية ستبدأ في نفس الوقت التي تهاجم به الطائرات الحربية والصواريخ الأهداف المحددة لها، ولم يدرْ في خلده أن الحرب الجوية ستستمر 45 يوماً متواصلاً، قبل أن يبدأ الهجوم البري، ثم أن إنذار الولايات المتحدة لصدام، وتحذيره من مغبة استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، سيؤدي بالولايات المتحدة إلى الرد الفوري والسريع، وبالأسلحة غير التقليدية [النووية]، وبذلك  فقد صدام القدرة على استخدام هذا السلاح، الذي طبل وزمر له في كل خطاباته، وهو يهدد ويتوعد به، وظهر أنه لا يستطيع استخدامه إلا ضد شعبه في شمال وجنوب العراق، وهو لو فكر في استخدام هذا السلاح لكانت الكارثة التي ستحل بالعراق وشعبه ما لا يمكن أن يتصورها العقل. 

    لقد أخطأ صدام كذلك حين أعتقد أن الهجوم البري سيكون من السعودية والخليج نحو الكويت مباشرة، غير أن الذي حدث أن القوات الأمريكية والحليفة قامت بهجوم التفافي من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق، بغية تطويق القوات العراقية، وقطع طرق مواصلاتها، ومنع أي إمدادات عنها، وخاصة المياه والغذاء وبالفعل تمكنت القوات المهاجمة من الوصول حتى مدينة الناصرية، وحاصرت القوات العراقية بالجنوب وقطعت كل طرق المواصلات.

    استمرت القوات الجوية والصاروخية تهاجم المرافق الاقتصادية في العراق، المدنية منها والعسكرية طوال 43 يوماً، بمعدل أكثر من 1000 غارة جوية يومياً  عدا الصواريخ التي كانت تطلقها السفن الحربية الراسية في الخليج والبحر الأحمر. لقد كانت حرباً جوية رهيبة بكل المقاييس، لم يشهد لها العالم من قبل، وخصوصاً وأنها حرب يقودها هذا التجمع الإمبريالي الكبير، وبكل ما يملك من وسائل القوة، ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث، أبتلى بدكتاتور أهوج، لا يفهم غير لغة الحروب، والدماء والقتل ضد أبناء شعبه، مما جعل الشعب غير قادر على الاعتراض على خططه الهوجاء، التي ساقت البلاد إلى حرب مستمرة لسنوات طويلة.
    لقد وقع الشعب العراقي المنكوب بين فكي كماشة، صدام ونظامه الفاشي من جهة، والإمبريالية الحاقدة على العراق، والمصممة على تدمير بنيته الاقتصادية، وإفقاره وتجويعه حتى الموت، حفاظاً على مصالحها في الخليج من جهة أخرى، فالنفط بالنسبة للولايات المتحدة يستحق إبادة شعب بكامله دون وازع من ضمير، في عصر أصبحت فيه سيدة العالم دون منازع، ومستعدة لإنزال أشد الكوارث على رؤوس كل من يهدد، أو يحاول أن يهدد مصالحهم في الخليج.
    لم يسلم أي هدف من غاراتهم الوحشية مهما كان صغيراً، ووصل بهم الأمر أن أقدموا على قصف ملجأ العامرية في بغداد، وإحراق  حوالي 1000 مواطن، من النساء والأطفال والشيوخ، الذين لجئوا إليه هرباً من غاراتهم الوحشية الرهيبة، فكانت كارثة، وجريمة  إنسانية كبرى، ستظل وصمة عار تلاحق أولئك القتلة الذين طالما تبجحوا بالدفاع عن الإنسان وحقه في الحياة، وتمسكهم باتفاقيات جنيف فيما يخص حماية المدنيين أثناء الحرب، ونراها في ذلك اليوم وهي تدوس بجزم قواتها العسكرية كل تلك القوانين والأعراف الدولية، وتحيل أجساد أولئك المواطنين الأبرياء أشلاء متفحمة.

     إن كل ما قيل، ويقال عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ما هي إلا محض هراء، وإن من يملك القوة في عالم اليوم، لا تثنيه تلك القوانين والقرارات، والاتفاقات الدولية عن فعل ما يروق له، فالقوة، والمصالح الاقتصادية، ونهب الشعوب، هي فوق كل القوانين، وكل المعاهدات الدولية.

    في تلك الأيام الرهيبة، كنت أحد المواطنين العراقيين الذين سلموا مصيرهم، ومصير عوائلهم للأقدار، حيث كانت الغارات الجوية تتوالى على بغداد دون انقطاع، وكانت صفارات الإنذار ما تبرح تعلن نهاية غارة جوية، حتى تبادر إلى التحذير من غارة أخرى. 
    لقد ضاع الحساب، ولم نعد نميز بين نهاية غارة، وبداية غارة جديدة، واضعين أيدينا على قلوبنا، لا ندري متى ينزل صاروخ علينا، أو تلقي طائرة علينا قنابلها، وخصوصاً بعد أن قُصف ملجأ العامرية، وأُحرق كل من فيه، وبعد أن قصفت الطائرات سوق الخضار في مدينة الفلوجة، ومُزقت أجساد المئات من المواطنين الأبرياء بشكل رهيب، و كان الوضع مأساوياً بشكل فوق ما يتصوره العقل، حتى لكأن القيامة قد قامت في تلك الساعة.

    كان أشد ما يرهب الإنسان هو حلول الليل بظلامه الدامس، حيث قُطعت القوة الكهربائية منذ الساعات الأولى من الهجوم الجوي، وبدأ الناس يفتشون عن المصابيح النفطية التي كان الناس يستعملونها قبل أكثر من ثمانين عاماً، وحتى تلك المصابيح تحتاج إلى النفط الذي أصبح من العسير الحصول عليه، كما كان البرد قد شهر سيفه هو الأخر في تلك الأوقات من السنة، حيث بقي الناس دون تدفئة، هذا بالإضافة إلى فقدان الماء والغذاء.
     ومما زاد في الطين بله، تلف المواد الغذائية المخزونة لدى المواطنين في الثلاجات والمجمدات التي توقفت عن العمل، بعد تدمير محطات توليد الطاقة الكهربائية، فقد دمر القصف الجوي محطات الطاقة الكهربائية بصورة جزئية أو كلية، ولم تنجُ من القصف سوى محطة النجيبية، التي تنتج 200 ميكاواط.
     أما المحطات التي دمرت فهي: 
    1 ـ محطة الناصرية          2 ـ محطة خزان سد سامراء      3 ـ محطة سد الموصل               
    4 ـ محطة سد دوكان         5 ـ محطة خزان سد حديثة        6 ـ محطة التاجي الغازية
      
      7 ـ محطة النجف                8 ـ محطة الموصل الغازية     9 ـ محطة خور الزبير          10 ـ محطة صلاح الدين       11 ـ محطة بغداد الجديدة       12 ـ محطة الدورة 
     13 ـ محطة بيجي                 14 ـ محطة الدبس               15  ـ محطة الحارثة 

    واستمرت الهجمات الجوية على المدن العراقية، وكافة المرافق الاقتصادية لمدة 45 يوماً، ألقت خلالها الطائرات ما يزيد على 130 ألف طن من القنابل والمتفجرات، من أحدث وأفتك ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية. لقد أرادت الولايات المتحدة أن ترهب العالم أجمع، بما تملكه من الأسلحة الفتاكة التي جربت على رؤوس أبناء الشعب العراقي لأول مرة، لكي تقول للعالم أنها أصبحت سيدة العالم أجمع دون منازع،  وأن لا أحد يستطيع الوقوف بوجهها، أو يعارض سياستها في الهيمنة على مصائر الشعوب. 

     لقد أرادت الولايات المتحدة بشكل خاص إرهاب الشعب العراقي، ولإحداث أبعد التأثيرات النفسية فيه، وإفهام النظام العراقي أن من يحاول التحدي، أو التعرض للمصالح الإمبريالية في الخليج  سوف يتعرض إلى كارثة لا أحد يعرف أبعادها.

    لقد تعرضت خطط الولايات المتحدة في إحداث الدمار الشامل في العراق إلى انتقادات شديدة في جميع أنحاء العالم، واستقبلتها الشعوب قاطبة بشعور من الاستهجان والغضب، ووصل ذلك الغضب والاستهجان إلى شعب الولايات المتحدة نفسها، حيث وجهت الانتقادات لاستمرار القصف الجوي طيلة 45 يوماً، في حين كان  القصف قد حقق أهدافه خلال الأيام الثلاثة الأولى من بداية الحرب، وقد رد وزير الدفاع ديك تشيني  على تلك الانتقادات، في مؤتمره الصحفي الذي عقده في 11 نيسان 991  قائلاً:

    { لا ينبغي أن يراود أحدنا الشك في أننا فعلنا ما كان لابد لنا أن نفعله!!. لقد كنا نريد أن ُنحدث أكبر قدر من التأثير على المجتمع العراقي، وكنا نتمنى لو لم نفعل ذلك !!، ولكن إذا كان علينا أن نحقق أهدافنا بأقل ما يمكن من الخسائر في الأرواح الأمريكية، فلا أظن أنه كان أمامنا خيار آخر!!، ولو كنا قد اكتفينا بالحد الأدنى من استعمال القوة الجوية لكان عدد العائدين من أفراد قواتنا العسكرية أحياء أقل من  العدد الذي عاد إلينا بالفعل}.(1)
    أي كذبة مارسها ديك تشيني في تبريره لما حدث، وأية وقاحة مارسها فهل كان ضرب ملجأ العامرية، وإحراق 1000 مواطن مدني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، عملا من الأعمال العسكرية حقاً!!؟

    أما قائد عاصفة الصحراء، مجرم الحرب الجنرال شوردزكوف الذي لا يقل عن مجرمي الحرب من جنرالات النازية فقد كان  أكثر منه وقاحة واستهتاراً، حيث قال في حديث صحفي في 13 آذار 1991 ما يلي: { إن أهداف الضرب الجوي للعراق جرى توسيعه، وهذا صحيح، ولكن التدمير لم يلحق بالأبرياء!!، فالشعب العراقي ليس كله بريئاً لسببين، السبب الأول أن كثيراً من أفراده تحمسوا لغزو الكويت، والسبب الثاني إن الشعب العراقي قابل بحكم صدام حسين}.(2)
    ولقد كذب [شوردزكوف] في كلا السببين، وتجنى على الشعب العراقي، وعلى الحقيقية، فما كان الشعب العراقي يوماً راضياً عن حكم الدكتاتور الأرعن، ونظامه الفاشي، وحروبه المجرمة، وظل  يعاني طيلة حكمه أبشع أنواع البطش والإرهاب والاضطهاد.

    لقد تمادى هذا الجنرال الفاشي في وقاحته، لدرجة أن دعا إلى ما أسماه الحاجة إلى تحديد معنى جديد للمدنيين الأبرياء!!. وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل:أليس هذا الجنرال صورة حقيقية لمجرمي الحرب النازيين أبان الحرب العالمية الثانية؟ والذي يجب أن يعاقب على جرائمه بحق الشعب العراقي، والتي يفاخر بها علناً؟
    أليس من العدالة أن يقف جورج بوش وديك شيني وكولن باول وولفتز وأضاربهم من صقور البيت الأبيض المسؤولين عن تلك الحرب الظالمة كمجرمي حرب، ويحاسبوا على الجريمة التي اقترفوها بحق الشعب العراقي المظلوم؟ 

    الطائرات تركز هجماتها على القطعات العسكرية:
    بعد أن استطاعت الطائرات المغيرة، والصواريخ، تدمير القواعد الجوية العراقية،  وقواعد إطلاق الصواريخ، وقواعد الرادار وطرق الموصلات، وقطعت الاتصالات، وأخرجت القوة الجوية من ميدان المعركة، أخذت تركز هجماتها على القطعات العسكرية المحتشدة في الكويت، وجنوب العراق.

     كان النظام العراقي قد حشد ما يزيد على 50 فرقة عسكرية، من مختلف الأصناف، معززة بما يزيد على 4000 دبابة، و3000 مدفع ثقيل، وما يزيد على 10000مدفع مضاد للطائرات، أقامها حول مواقع قواته، بالإضافة إلى 400 قاعدة لإطلاق الصواريخ، وما يزيد على 700 طائرة من مختلف الأنواع.

     كما أنشأت القوات العراقية نظاماً دفاعياً، وحواجز يمكن أن تتحول إلى جحيم من النيران، لكن القوات العراقية تبقى عاجزة عن مجابهة قوة عسكرية جبارة كالتي تملكها الولايات المتحدة وحليفاتها، وبما تملكه من مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، والتي استخدمت لأول مرة.
    كانت القذائف تنهال على القوات العراقية من الجو دون توقف، بعد أن سيطرت الطائرات الأمريكية والحليفة معها على جو المعركة بشكل مطلق، مستهدفة كل الاستحكامات العسكرية، وملاجئ الجنود تقطعت السبل بالقوات العراقية بعد أن قُطعت المواصلات، نتيجة قصف كل الطرق والجسور التي تربطها بالعراق وبذلك انقطعت كل الإمدادات الغذائية والمياه، وأصبح الجيش كله في موقف صعب للغاية.
    لقد كانت خطة الولايات المتحدة تقتضي بعدم الالتحام بالجيش العراقي عند بدء الحرب، لتفادي وقوع خسائر بشرية في صفوف قواتها، وقوات حليفاتها، اعتمدت على السلاح الجوي لإنزال أكبر الخسائر الممكنة بالجيش العراقي وإنهاكه، وإضعاف معنوياته إلى أبعد حد ممكن، ولتدمير كل ما أمكن تدميره من معداته، لكي يصبح الهجوم البري قادراً على إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية بأقل ما يمكن من الخسائر.

    وخلال تلك الضربات الجوية التي دامت قرابة الشهر والنصف، لم تخسر القوات الأمريكية والحليفة سوى 32 طائرة فقط، فقد كانت السيادة الجوية لها دون منازع  وكانت عمليات القصف بالصواريخ تجري من ارتفاعات عالية، لا تستطيع الدفاعات الجوية العراقية وصولها، بالإضافة إلى تدمير أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات في الأيام الأولى من الحرب، مما جعل الطائرات المغيرة في مأمن من أي تهديد أو خطر الإصابة.

    كانت أعصاب صدام حسين  وكبار قادته العسكريين تكاد تنهار في تلك الساعات الحرجة، فقد كانوا يتوقعون التحام القوات البرية ببعضها في أول أيام المعركة، مما يفقد القوات الأمريكية والحليفة إمكانية استخدام السلاح الجوي ضد القوات العراقية، أو على الأقل يمكن أن يحد من تأثيرها.
    لكن الحرب الجوية وحدها استمرت لأسابيع، وأضطر صدام حسين إلى لإيعاز لبعض قاطعاته العسكرية للهجوم على مدينة [الخفجي] في السعودية في محاولة لرفع معنويات جنوده التي أنهكها القصف الجوي لأسابيع من جهة ، ولكي يجبر القوات الأمريكية والقوات الحليفة على الاشتباك بالجيش العراقي من جهة أخرى.

    وتقدمت بالفعل القوات العراقية، تحت وابل من القنابل والصواريخ، نحو مدينة الخفجي واحتلتها، واضطرت القوات الأمريكية والحليفة إلى القيام بهجوم معاكس مستخدمة شتى أنواع الأسلحة المتطورة، واستطاعت إخراج القوات العراقية من الخفجي، منزلة فيها خسائر فادحة في الأفراد والمعدات. لم يكن الهجوم على الخرجي سوى عملية انتحارية قام بها نظام صدام، غير مبالٍ بأرواح جنوده الذين ساقهم إلى حرب لا يرغبون فيها، ولا يؤمنون بها، ولا قادرين عليها.

    إن الجيش العراقي، والحقيقة تقال، جيش شجاع بكل معنى الكلمة، والجندي العراقي على كامل الاستعداد للدفاع عن وطنه مهما غلت التضحيات، إلا أن صدام حسين ساقه إلى حرب عدوانية غير مبررة، ولا مصلحة للعراق فيها، مع الجارة إيران، استمرت ثمان سنوات، ولم يكد الجيش يجر أنفاسه بعد تلك الحرب المجنونة، حتى أقدم على اجتياح الكويت، وضمها للعراق بالقوة، متحدياً الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين نصبوا له هذا الفخ القاتل، ليتخذوا من الغزو ذريعة تمكنهم من تدمير العراق، وجيشه أبشع تدمير.

    لقد أقدم صدام حسين على فعلته هذه دون أن يحسب أي حساب لاختلال مراكز القوة في العالم، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، ودون أن يحسب حساباً للمعطيات الدولية الجديدة، وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم، تستطيع فرض إرادتها على كل من يحاول تهديد مصالحها بقوة السلاح، وبشكل خاص في منطقة الخليج التي يخرج منها نصف بترول العالم، وتحتوي على أكبر احتياطيات النفط في العالم أجمع. حاول صدام  إدخال الجماهير العربية في الحرب كطرف رئيسي، عندما أقدم على ضرب إسرائيل بصواريخه بعيدة المدى، لكي يجر إسرائيل إلى حرب مكشوفة، ولكي يحول الحرب من حرب عراقية إلى حرب عربية.

     فقد وجه صدام حسين 39 صاروخاً من طراز[سكود] إلى إسرائيل، غير أنه فشل في خططه هذه،  فقد استطاعت الولايات المتحدة أن تمنع إسرائيل من الانجرار إلى الحرب بصورة مكشوفة، لكي لا يؤدي ذلك إلى هيجان الرأي العام العربي، ويحرج الحكام العرب الذين شاركوا الولايات المتحدة في العدوان على العراق، وقد يتحول الهيجان إلى ما هو أبعد من ذلك وربما يؤدي إلى قلب تلك الأنظمة التي شاركت  في الحرب ضد العراق.

     ورغم أن الجماهير العربية، والحقيقة تقال، كانت قلوبها مشدودة إلى جانب العراق، إلا إنها لم تستطع أن تفعل شيئاً، بعد أن أخذتها المفاجئة، والاستعدادات التي أتخذها الحكام العرب لقمع أي تحرك ممكن في مهده، خوفاً من تطوره، وأصيبت الجماهير العربية باليأس، وهي تراقب سير الحرب الجوية، عبر شاشات التلفزة لأول مرة في التاريخ ، لحظة بلحظة، وترى الطائرات المغيرة وهي ترسل من أعالي الجو صواريخها الموجهة بأشعة الليزر، إضافة إلى الصواريخ التي تطلقها السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي، وخليج العقبة، وشواطئ إسرائيل، والموجهة إلكترونياً، لتصيب أهدافها بدقة متناهية.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media