علاقة الأداة (لن) برؤية الخالق تعالى
    الخميس 15 مارس / أذار 2018 - 07:39
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    (1)
    سبب هذه السطور رسالة من السيدة (سعاد بنت سعيد الدغيشية) وهي طالبة عمانية تحضر رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية في ماليزيا في موضوع (توظيف معايير النص عند روبرت دي بوغراند في التوجيه العقدي والفقهي للمذهب الإباضي، دراسة نصيّة) وفحوى سؤالها المتعلق بالموضوع: هل يفيد حرف النفي (لن) النفي المؤبد مما استدلت به بعض فرق المسلمين في نفي رؤية الله، اعتمادا على آيات منها (لن تراني) في حين لا يرى الدكتور فاضل السامرائي ذلك بدليل (فلن أكلم اليوم إنسيا). على ما جاء في رسالتها.
    ثم تسألني رأيي في الموضوع.
    (2)
    قبل معالجة هذه القضية أحب بيان نقاط لا بد من ملاحظتها في هذا الموضوع وغيره، وهي:
    أ- قرأت هذه الخلافات في كتب الأقدمين. وصار المعاصرون يرددونها. وألاحظ في البرامج الدينية المتلفزة، محاضرات أم حوارات، أن الضيف حين يوجه له سؤال يرتجل الإجابة بطريقة توحي بأنها الإجابة الوحيدة الصحيحة. ولا أقصد هنا النحويّ الكبير الدكتور فاضل السامرائي، بل هي ظاهرة عامة نلاحظها حتى عند من لا علاقة له بالنحو ولا معرفة له باللغة معرفة تؤهله للجواب. فكأن كلمة: لا أعلم، أو سأعطيكم الجواب غدا، أو في الحلقة القادمة، لا وجود لها في ثقافته. بالرغم من أن نصف العلم في كلمة: لا أعلم.
    ب- وتحضرني بهذه المناسبة حادثة ذات دلالة: فقد كان أحد الشيوخ القدماء يجلس على الدرجة الأولى من درجات منبر في جامع يلقي فيه دروسه ومحاضراته. فسأله أحد طلابه يوما، وقد أعجب بعلمه: لماذا لا ترقى المنبر فتجلس في أعلاه بدلا من الدرجة الأولى الواطئة هذه؟ فأجابه: إن جلست في أعلاه، فأين سيجلس من هو أعلم مني؟
    ج- الرأيان في كون (لن) تفيد النفي المؤبّد أم لا تفيد، مذكوران في كتب القدماء، ولا جديد فيهما لدى المعاصرين. وسنرى، هنا، شيئا من الخلل في فهم وظيفة (لن) في الآيات الكريمة وأساليب العرب.
    (3)
    أما عن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، فقد اختلف فيها الناس، من غير نفع ولا فائدة. وكثيرا ما قلت وما زلت أقول: دعوا عالّم الغيب (بفتح اللام) لـ(عالِم الغيب) بكسرها. فماذا ينفعكم استمرار الجدال فيها، حتى وصل الجدال إلى خلافات لا تُحمد عقباها؟
    ومن ناحية أخرى، فإن موضوع رؤية الله وموضوع (لن) لا علاقة بينهما، ولا يصح اتخاذ معاني (لن) وتوظيفها لإثبات الرؤية أو عدمها. ذلك أنّ فهم التنزيل العزيز يتوقف عند معاني الألفاظ ودورها في الجملة، بلا حاجة إلى خيالات البشر فيما وراء ذلك مما يسمونه التأويل وتأويل التأويل الذي يدخل في باب الخيال الأسطوري، أو الخيال التأويلي الذي وصل إلى أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن لكل ظاهر منها سبعة وسبعين ظاهرا وباطنا.
    وسننظر الآن في دور (لن) هل هي دالة على النفي الأبدي المؤبد، أم على نفي محدد الوقت.
    (4)
    اتفق الطرفان على ما قاله الخليل بن أحمد (تـ 175 هـ)، حسب رواية سيبويه (تـ 180هـ أو ما حولها) من أن (لن) نفي مؤكد للفعل المضارع، وهو الفعل الدال على الحاضر والمستقبل. وتفيد نصب الفعل. مثاله أن تقول لصاحبك: لن يزورك أخي. فالزيارة لن تقع في مطلق الزمان. فإن قلت: لن يزورك أخي اليوم، فقد حددت مدة الامتناع عن الزيارة. والفعل منصوب في الحالتين.
    الأداة (لن) تدل على ذلك، والسياق يحدد مدة النفي. وعلى هذا استعمالات التنزيل العزيز. فلننظر في هذه الآيات:
    أ- (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (سورة الحج 73).
    فمن الواضح أن هؤلاء لن يخلقوا ذبابا لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن حاول ليّ الآية فقد وقع في ورطة يحدها من الشمال الخيال الأسطوري، ومن الجنوب: الخيال التأويلي.
    ب- (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ) (سورة التوبة 80). المغفرةهنا ممتنعة عنهم تماما. وأفاد السياق أن (لن) هنا نفي مطلق غير محدد بزمن.
    ج- (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) (سورة البقرة 80).
    ذهب فريق من القدماء إلى القول إن (لن) هنا تفيد زمنا محددا، وإلا كان لا معنى لقوله (أبدا)، وتجرأ بعضهم إلى عدّه لغوا إلا إذا اعتبرنا (لن) دالة على وقت محدد وليس نفيا أبديا.
    وقد أخطأ القائلون بذلك، فلا هو لغو، ولا زيادة لا مبرر لها أو لا معنى لها. وخذ هذا المثال: قتلت المعتدي قتلا عنيفا. فأنت قد قتلته وانتهى الأمر، فهل قولك (عنيفا) لغو وزيادة بلا معنى؟ ألا ترى أنه وصف للمفعول المطلق، لتأكيده وبيان درجة الشدة فيه؟ واقرن هذا مع الآية (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر 30) أم ستقول إن (كلهم) هنا بمعنى (بعضهم) ثم جاءت (أجمعون) لتشملهم جميعا؟ وهذا ما لا يقول به من له أدنى معرفة باللغة.
    فـ(أبدا) في الآية أفاد تأكيد المعنى في (لن يتمنوه). اعربه كيف شئت، ولكن تلك هي دلالته وبعضٌ من وظائفه في الآية هذه وما شابهها.
    د- (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي) (سورة الأعراف 143). فأفاد السياق معنى الأبد في النفي. وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد من القول.
    هـ- (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) (سورة مريم 26) النفي هنا محدد بلفظة (اليوم).
    و- (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) (سورة القصص 17) أجاز بعض القدماء كون (لن) مفيدة للدعاء. ولا دعاء فيها، بل هو نفي مؤكد مؤبد وعهد من موسى لربه أنه لن يكون ظهيرا للمجرمين. 
    (5)
    نستفيد من كل هذا وما اتسق معه، أن (لن) لا علاقة لها بأبدية النفي أو عدم أبديته، بل هي تنفي الحدث نفيا مؤكدا، وتنصب الفعل. أما أبدية النفي أو عدم أبديته فيدلّ عليه السياق في التنزيل العزيز. وتضاف في غيره نيّة المتكلم، كالمثال الذي ذكرناه أولا: لن يزورك أخي، فقد تقصد عدم الزيارة في فترة محددة، أو تقصد امتناع الزيارة أبدا، وذلك بناء على سياق حوارك مع صاحبك، كأن يكون صاحبك قد قال لك: فليزرني أخوك اليوم ومعه الكتاب. فقولك: لن يزورك أخي، يحتمل أن تقصد المدة التي حددها صاحبك (اليوم). فإن كان صاحبك قد ارتكب ما يستوجب مقاطعته نهائيا، فإن قولك ذاك نفسه دال على أبدية نفي الزيارة.
    (6)
     (ملاحظة مهمة)
    هذا الموضوع لا علاقة له برؤية الخالق تعالى أو عدم رؤيته. وأرفض الدخول في مناقشة الخلافات بشأن عالَم الغيب، مكتفيا بالمعاني الواضحة البيّنة لألفاظ التنزيل العزيز. فهدف الموضوع محدد بأن الأداة (لن) تنصب الفعل وتفيد نفيه الذي قد يكون أبديا وقد لا يكون. والحَكَم في تحديد ذلك هو السياق. ولقد أجاد الخليل بن أحمد فيما نقله سيبويه عنه من أنّ (لنْ) تنصب الفعل، وهي نفي مؤكد له. أما رأيه في أنها متكونة من (لا + أن) فقابل للجدل والحوار. وتلك هي مهمة اللغويين والنحويين الحاذقين.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media