أنا والمخطوطات واللغة
    السبت 21 أبريل / نيسان 2018 - 11:11
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    هذا العنوان مصوغ على غرار (أنا والعذاب وهواك). والعنوانان متطابقان. فضمير الابتداء واحد في العنوانين. والمخطوطات في الأول تطابق العذاب في الثاني، واللغة في الأول تطابق الهوى في الثاني.

    ولكني سأترك الـ(أنا) والهوى، لأتحدث عن الجامع بين المخطوطات والعذاب. وأضع مع العذاب، محاولات العثور على نسخة من أي كتاب نافد من المكتبات. وربما لا يدرك بعض قراء هذه الأيام ما وجه الشبه الجامع بين العذاب، من جهة، والمخطوطات والطبعات النافدة، من جهة ثانية.
    ولتوضيح ذلك لا بأس أن أعود إلى الـ(أنا) لا حبّ ذات، بل تجربة عمل.

    [[article_title_text]]
    دخلت المدرسة الابتدائية في الخامسة من العمر وبضعة شهور، تجاوزا على النظام الذي كان يحدد عمر الطالب ما بين السادسة والسابعة. وكان هذا بناء على أني كنت أحفظ بعض سور القرآن الكريم. ومنذ الصغر هيّأ لي عمي، رحمه الله، الذي أشرف على تربيتي سبيل حب القراءة، من القرآن إلى مجلات الأطفال المنشورة باللغة العربية الميسرة، مما أعانني على تأليف أول كتاب لي، وكنت في الصف الأول المتوسط، بعنوان (العقل يدعو للإيمان) الذي ما زالت نسخ منه في مركز الوثائق العراقية، كما شجعني حب القراءة على كتابة نصوص من الشعر والقصص القصيرة، في تلك الفترة.

    آنذاك كانت الدراسة الابتدائية ست سنوات، والمتوسطة ثلاث سنوات، ثم تأتي الإعدادية ومدتها سنتان، تؤهلك بعد الامتحان الوزاري العام (البكالوريا) لدخول الجامعة. وكانت الدراسة الإعدادية بفرعين: العلمي والأدبي. اخترت الفرع العلمي، وتخرجت بمعدل متفوق. ولم يكن من المتعارف عليه أن يذهب خريج الفرع العلمي إلى كلية الآداب أو الحقوق وما أشبههما. فما الذي حدث معي؟

    فاعتمادا على معدل النتائج الامتحانية قدمت طلبا للالتحاق ببعثة هندسة النفط، رُفض، كما رُفض طلب التسجيل في الكلية الطبية، لأسباب خارجة على المعدل (لا خارجة عنه، بل عليه) حُوّلت إلى كلية الهندسة فرع الهندسة الكهربائية، ثم فُصلت بعد أقل من شهر. وكان نظام جامعة بغداد يقتضي عدم قبول الطالب في أية كلية إذا كان مفصولا من كلية أخرى.

    وبعد شهرين قضيتهما تحت وطأة الشعور بالظلم، حدث ظرف معين في العراق، جاءني، إثره، صديق عزيز كان طالبا في السنة الرابعة في كلية الآداب، اقترح علي التسجيل في الكلية، برغم قاعدة عدم قبول الطالب المفصول من كلية أخرى. إذ كان يعرف من يستطيع فعل ذلك. ونظرا لكذا وكيت، دخلت كلية الآداب من الشباك لا من الباب.

    هذه مقدمة ضرورية لبيان المهاد الذي سرت عليه وأوصلني إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية، مما يسوغ ما قد أفاجئكم به هنا حين أخبركم أني كنت أكره الدراسات اللغوية والنحوية، التراثية خاصة، كرها شديدا، وما كنت أطيق أن أقرأ شيئا منها، وترافق هذا مع حب عارم للأدب من شعر وقصص وروايات.

    قيّض الله لي أستاذَ نَحْوٍ تمكن بحذاقة من أن يحول كراهيتي لتلك الدراسات إلى حب عميق، هو الأستاذ الشاعر المرحوم إبراهيم الوائلي، ومنعا للإطالة سأكتفي بهذه الإطلالة، وأعبر سنوات العناء، لأنتقل إلى موضوع العنوان.

    في مرحلة الماجستير كانت علاقتي الأولى مع المخطوطات. حيث حققت مجمل اللغة لابن فارس (صدر عن الألكسو في خمسة أجزاء) ومنذ ذلك الوقت أدركت مدى صعوبة الحصول على نسخ المخطوطات، في عالمنا العربيّ خاصة.

    كانت نسخة مكتبة متحف بغداد التي يعود تاريخ نسخها إلى سنة 446 هـ، هي النسخة الأم. طلبت تصويرها، ولم يكن جهاز التصوير حينها في المتحف قادرا على تصوير ما يتجاوز حجم بطاقة تهاني الأعياد (14سم×12سم)، أو هذا ما قيل لي وقتها، أي إن كل صفحتين تصوران معا بذلك الحجم، فيكون حجم الصفحة 7 سم × 6سم، وكان علي أن أقرأها بإمعان وتدقيق. ولم يكن أمامي، حينها، حلّ آخر.

    ثم راسلت متحف لندن للحصول على نسخة ابن الخشاب التي يعود تاريخ نسخها إلى سنة 550 هـ، وهي جميلة رائعة الجمال، خطا وضبطا. وكذلك راسلت مكتبة جستربيتي فحصلت على نسخة من القرن الخامس للهجرة. بقيت نسخ القاهرة، راسلت وطلبت، وأعدت المراسلات ولم أحصل على جواب. وكان أحد الأساتذة يملك مصورات من إحداها، وعدني بتوفيرها لي، (ولكنّ أكثر إيماض البوارق خُلّبُ) ليفاجئني أثناء المناقشة باعتراضه على ذكر تلك النسخة في حواشي تحقيقي للمجمل، مقرا أنه لم يوفرها لي، ومتسائلا: فمن أين حصلت عليها؟ فأجبته: وفرها لي الأستاذ المشرف. ولكنه ظلّ بين مصدّق مكذّب.

    [[article_title_text]]
    ففي تلك الآونة علمت أن أستاذي الكبير المشرف على الرسالة الدكتور أحمد مطلوب كان مزمعا على السفر إلى القاهرة، فسألته إذا كان بالإمكان تصوير ما طلبت، فتفضل هذا الأستاذ النبيل بتوفير صور نسختين.

    معاناة الحصول على مخطوطات مجمل اللغة لم تكن شيئا مذكورا أمام معاناتي في الحصول على مخطوطات أخرى، مثل مختصر العين للإسكافي، وكتاب الماء لأبي محمد الصحاري. خاصة إذا علمنا أنه في تلك الفترة لم تكن أجهزة الحاسوب قد ظهرت، ولا الهواتف النقالة، ولا الشبكة العنكبونية، ولا فهارس المكتبات المنظمة، فكان لا بد من السعي الجاد والجهيد للحصول على مخطوطة من المخطوطات. وأحيانا يذهب كل ذلك السعي هباء إذ تكون المخطوطة التي سعيت إليها لا تستحق بذل جهد للحصول عليها.

    ولقد أوضحت في مقدمة مختصر العين، وكتاب الماء، شيئا من صعوبات الحصول على النسخ المخطوطة، لذا سأكتفي بعرض سريع للجهد الذي فرضه عليّ كتاب الماء من أجل الحصول على نسخ من مخطوطتيه اللتين اطلعت عليهما صدفة، أو قل بتقدير العزيز العليم.

    ويكفي من أجل توضيح ذلك أنّ أول لقاء لي مع مالكهما كان في غرداية على مسافة 550 كيلومترا تقريبا من وهران، وبعد الاتفاق صرت أقطع أسبوعيا، أو كل أسبوعين، ولمدة شهور عديدة مسافة 250 كيلومترا ذهابا إلى تيارت ومثلها إيابا، لمتابعة النسخ والمقابلة، وكنا، أنا ومن معي، نبيت من حين لآخر في بيوت أصدقاء كرام في تيارت أو تيهرت أو في غليزان، حتى ننجز أكبر قدر ممكن من النسخ والمقابلة مع الأصل.
    ومما هوّن عليّ تلك السفرات خاصة في موسم نزول الثلج على جبال أطلس بكثافة تمنعك من معرفة أين ينتهي جانب الطريق وتبدأ الهاوية، أن أصدقاء أعزاء كانوا يزاملونني لتخفيف ضجر السياقة المنفردة، منهم الأستاذ أحمد بلبشير الذي أصبح فيما بعد عضو المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) والأستاذ عبد ربه ختير، وهو من (قدماء المجاهدين) أي الذين شاركوا في حرب التحرير. وصحبني عدة مرات الأستاذ الدكتور شريفي عبد الواحد. ولا أذكر عدد المرات التي صحبني بها الأستاذ الدكتور بريهمات عيسى. وأما الذي كان يلازمني فيها، فهو الدكتور سالم بن عمار.
    أرأيتم الآن العلاقة بين العنوانين أعلاه؟ فلا أرى وجها لليأس والإحباط بسبب كثرة العراقيل في طريقك وأنت تحاول الحصول على مخطوطة أو كتاب نفد من المكتبات.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media