وليمة أسماك هاتف الجنابي في انتظاركم
    الأثنين 21 مايو / أيار 2018 - 14:46
    د. مؤيد عبد الستار
    تحدثت بهذا القدر الى نفسي 
    الى نبتة بالغة بين الصخور
    كانت براءة الاطفال
    تحجب هذا القابع في منتجع العقل
    طالما كان يبلع افكاره مخافة الهتك:
    الآتي  ( -   ) الماضي  ....
    من  قصيدة بورتريه 
    اعادة قراءة قصيدة هاتف الجنابي امر مألوف لانها لا تقدم نفسها بسهولة لمن يريد الاحاطة بكنهها ، عليك تناولها باناة ورفق فوراء الكلمات التي أمامك وهي مرصوفة على الورق بكثافة ظاهرة، أبعاد بحاجة الى استشراف آفاقها التي تتطلب البحث عن منابع الفكرة ، المغامرة ، التي يـبغـي الشاعر اللعب على اسرارها بهدوء غريب يغمر مناخ القصيدة ليقدمها الى القارئ كي يفتح امامه مرافئ غير مأهولة تسمح باكتشاف اللامكان الذي ينطلق منه الشاعر وغالبا ما يكون الوطن المقصي في اعماق الذاكرة والحاضر في كل مكان .
    (  سـُئلتُ وما زلت أُسأل : 
    من أين أنت 
    skad pan jest ?
    وكنت وما زلتُ أُجيب 
    من اللامكان )
     الديوان ص 24 
    اللامكان عند هاتف الجنابي ، مكان محفور في كهوف  الذاكرة ، كان يعيش في اركانه يوما ولكنه ضاع الى الابد ، غادره الشاعر قسرا او اختيارا لانه اصبح لا يطاق ، فلا طرقاته سالكة ولا حدائقه غناء ولا أرضه اهلا للخصب .
    فيه لا تستطيع النوم ، و لاتستطيع السير بقامة شامخة ، ولا تتحدث بلسان طليق .
    ( نومي يتقطع حتى اني لم ابرح ما اعطت لي اليقظة 
    من سمع يخدشني ، نظر يحبسني داخل منظور واحد 
    طرقات هوجاء وضوء يخدعني ، عشاق صرعى باسم الحب 
    واخبار عن قتلى بالمجان ، وآثام تزداد ، واحياء 
    يصطفون طوابير على ابواب موصدة 
    بحثا عمن يفتحها ، ثمة من يتراجع منسحبا : لا أدري أين ؟) 
    الديوان ص 19 بورتريه 2 
    هذه هي الطرقات التي غادرها الشاعر ، هي وجميع ما حولها تتجلى في ثنايا قصائده ،
    ترسم خارطة اللامكان الذي اصبح نائيا يمتد على مساحة المنفى او المهجر او المكان الثاني الذي وجد فيه الشاعر نفسه سائحا دون قصد .
    ( غريبا تجئ وهكذا ستعود ،
    بحثنا طويلا في المنافي 
    عن لحن مقدس ، 
    عن بعض الحقول والبيادر ،
    عن خيوط تقطعت وانفاس 
    يغطيها الغبار،
    عن الجوري الذي زرعناه
    عن قبلات تركناها في سرر الليالي ...
    (من قصيدة كركوك)
    تعد قصيدة الطريق الملكي إحدى أطول قصائد ديوان وليمة الاسماك ، شيد الشاعر عمارتها من عدة فصول ، او اقسام إن شئت ، فهي تتالف من خمسة عشر فصلا ،  اعطاها ارقاما دون اي عنوان فرعي اخر ، لذلك تاتي الفصول مفتوحة على مساحة داخلية تعبر عن السياق العام للقصيدة وعن نظام يشمل الديوان كاملا :
    من اللامكان ، اقول ، يقهقهون
    ثم يدعونني لكأس كأنها مستلة  من دنان الالهة 
    ثمة انبياء تائهون ، منتفضون يشبهوننا،
    وملوك ينتظرون في محطات مهجورة .
    ما اكثر الانبياء في هذي البلاد ... ص 108
    البعد الصوفي عند هاتف الجنابي 
    لنشأة  الشاعر في مدينة النجف ، حاضرة الادب والشعر والفقه ، أُثر كبير في تكوين الابعاد الفلسفية والصوفية في شعر هاتف الجنابي لما لانتشار المجالس الادبية في المدينة وشيوع الثقافة الدينية المتمحورة حول المثل العليا للامام علي بن ابي طالب وزهده واستشهاده . 
    ولا ننسى ان مدينة النجف بؤرة تلتقي فيها ثقافات شرقية وآسيوية مختلفة ، من الهند والصين والباكستان الى ايران والمغرب والخليج . فالحياة الثقافية متعددة المشارب غنية بفلسفات الشرق وقيم التضحية والفداء والشهادة والزهد والتقوى .
    لا نعدم العثور على صدى هذه الثقافات والفلسفات والمؤثرات بين ثنايا قصائد الجنابي مع مسحة او غلالة من الثقافة الاوربية المعاصرة التي نهل من مصادرها حيث درس وعمل لاكثر من عقدين في جامعة وارشو في بولندا .
    ( تذكري أن الرؤية عادة سيئة 
    أضعف نقطة هي 
    أن يكون الشئ مرئيا ) ص 70 
    ولكي نكون اكثر انصافا للشاعر وطقوسه في الحياة والفلسفة نختار مقطعا جاء على غلاف المجموعة ونتركه دون تعليق  :
    هذي الليلة 
    قررت بأن ادعو البحر 
    أدعو أسماك البحر جميعا 
    أدعوها بعد الحفلة أن تأخذني 
    حتى جوف الحوت 
    كي اكتب قصة نفسي 
    كي اعزف لحني الموعود 
                                                * * * 
    وليمة الاسماك ، ديوان شعر ، هاتف الجنابي ، دار ميزوبوتاميا ، بغداد 2017
    [[article_title_text]]

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media