مطارحات فلسفية وعلمية عن الكون والله -1-
    الأربعاء 20 يونيو / حزيران 2018 - 05:35
    د. جواد بشارة
    معضلة الشر
    غالباً ما هاجم الملحدون أو غير المؤمنين غياب عدالة الله وبالتالي عدم كماله، من زاوية وجود الشر ومحاولة معرفة مصدره، هل هو " الله" أم كائن آخر يساويه قوة وقدرة ويعاكسه في الرؤية والهدف والغاية؟ وهنا لا يمكن لهذا الكائن المنافس، بأي حال من الأحوال، أن يكون " الشيطان" لأن هذا الأخير هو من صنع الله وخلقه كما يقول اللاهوتيون. فلو كان الله هو مصدر الشر فهو إله غير عادل و لن يكون كلي اللطف  أوعادل على نحو مطلق، فلو كان الله كلي الرحمة  وكلي القدرة وكلي العلم فلماذا سمح بكل هذا الكم من المعاناة والتفاوتات غير الضرورية بين البشر وكذلك الحيوانات التي تعيش على الأرض.  وأين قدرته الكلية ونصف سكان الأرض غير مؤمنين به؟ " الله اللاهوتي" مختفي عن مخلوقاته وهذا يشكل معضلة ويرهق قدرات ومقاربات وتبريرات اللاهوتيين عبر قرون من الزمن . سيرد قادة المؤسسات الدينية للأديان السماوية التوحيدية أنه يمكن رؤية الله في العالم المادي من حولنا من خلال تجلياته عبر خلقه ومخلوقاته والطبيعة والكون الذي يحتويهم، وبهذا الصدد قال القديس بولس:" فمنذ خلق الله العالم وصفات الله خفية، أي قدرته الأزلية وألوهيته واضحة جلية تتدركها العقول في مخلوقاته". وفي سورة " فصلت" في القرآن الآية 63 يقول القرآن :" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أولم يكف ربك أنه على كل شيء شهيد". ولكن كيف؟ لا أحد يدري. فإذا كان الله هو حقاً كما يقول عن نفسه في نصوصه  المقدسة التي يفترض أنها تنقل كلامه فإن صفاته الموصوف به فيها تتوافق مع وجود الشر لأنه المصدر الوحيد لكل شيء في الكون بما في ذلك الشر. من صفاته " الكمالية" أي إنه كامل، وبما أنه خالق للكون كما تقول النصوص، فيجب أن يكون صنعه وخلقه متقناً وكاملاً ،  والحال أن الكون المرئي ليس متقناً ولا كاملاً. تقول النصوص أنه متسامي ومتعالي، أي خارج الزمان والمكان، وفي نفس الوقت تقول أنه كلي الحضور، أي موجود في كل مكان وزمان ما يعني أنه داخل المكان والزمان وليس خارجهما وهذه مفارقة. وآخر مفارقة فلسفية هي: هل يستطيع الله خلق شيء أقوى منه وأعظم منه وأكبر منه و لا يستطيع  السيطرة عليه أي بإمكانه أن يفلت من قدرته وسلطته؟ فإذا كان الجواب بنعم فهو ليس كلي القدرة ولا مطلق القوة والقدرة وإن كان الجواب بلا فهو هنا أيضاً غير كلي القدرة . هذا جدل فلسفي يراد به إثبات ما لايمكن إثباته والأمر متوقف على التفسيرات ومعاني المفردات. وإن صفات الله هي ذات مستويين ، الأول بشري لكي تقرب الصور لإدراكاتنا فنضفي عليها صفات ذات فهم بشري مصاغة بدلالة وقيم بشرية يمكن إدراكها وتصورها ويسهل على الناس ، مهما كانت مستوياتهم، فهمها ، والثاني مستوى غير بشري فكيف يمكننا نحن البشر  القاصرين والفانين أن نعرف طبيعة وحقيقة صفات تكون خارج نطاق حواسنا المحدودة؟ 

    وكما سبق أن ذكرت في كتابي " إله الأديان وإله الأكوان" فإن هناك نموذج للإله الديني اليهو _ مسيحي _ إسلامي، وهو الله الخالق للكون ولكل شيء والحافظ له والمقدر له مصيره، وهو مهندس تركيبة الكون ومكوناته ومؤلف قوانينه الطبيعية لكنه يتدخل في مسارات الأحداث بما في ذلك انتهاك القوانين التي وضعها بنفسه للكون لإحداث المعجزات استجابة لتوسلات ومطالب بعض البشر المقربين منه كالأنبياء، وأيضاً هو خالق الحياة والبشر بالطريقة التي يوجدون عليها حالياً ومنذ البداية وللبشر مكانة خاصة عنده مقارنة بأنواع أخرى من الكائنات، ولقد خلق الإنسان من جسد وروح، الأول، أي الجسد،فهو فاني وله صلاحية محددة ومؤقتة، والثانية باقية وخالدة ووجودها مستقل عن الجسد وتحمل جوهر وسر وشخصية وهوية الفرد وذاتيته وهي التي ستتعرض للحساب والعقاب والثواب لأنها هي التي وراء ارتكاب الجسد للمعاصي. والحال أن الله هو مصدر الأخلاق والقيم البشرية ، الخير منها والشرير، ولقد أعلن عن ذاته ووجوده من خلال مخاطبة مباشرة مع البشر عن طريق أفراد مصطفين زودهم بنصوص مقدسة تنطق عنه وتنقل كلامه، وهو يساعد البشر على إيجاد الأدلة على وجوده إذا ما دب الشك في نفوسهم، التي هي من خلق الله نفسه. إلى جانب ذلك فهو في كثير من النصوص الدينية التوحيدية كلي القدرة وكلي الرحمة وكلي العلم رغم وجود التضارب المنطقي والمفارقة التي اشرنا إليها أعلاه. 

    غالبا ما تلجأ النصوص الدينية المقدسة إلى مسلمة تركيبة الأشياء وتعقيدها لا سيما الحياة والعقل  والذكاء  والتي لايمكن أن تنشأ بفعل الصدفة ، فالكون والكائنات الحية من التعقيد بمكان بحيث لايمكن أن تنشأ بأية طريقة آلية لذا لا بد أن يكون خلفها ما يعرف بــ " التصميم العظيم " أو " التصميم الذكي" الذي يمكن اعتباره بحد ذاته برهاناً على وجود " الله" . وقبل أن يدخل العلم حلبة الصراع الفكري كان الإيمان الديني قائماً على تقبل ما تقوله الكتب المقدسة وتعاليم الأنبياء والقديسين واللاهوتيين باعتبارها حقائق لا تقبل النقض أو المناقشة . ولكن عندما بدأ العلم يدحض عدداً من تلك " الحقائق" الثيولوجية، ككون الأرض مسطحة وثابتة ومركزاً للكون وإن الشمس تدور حولها ، حاول بعض رجال الدين اعتبار ما يقدمه العلم دليل على وجود كائن علوي متعالي ومتسامي وأسمى ما في الوجود حتى لو كان لا يعتمد بوجوده على المعلومات الحرفية الواردة في الكتب المقدسة والواصلة إلينا عن طريق " الوحي الإلهي". ويقول دعاة " التصميم الذكي" إن قوانين وثوابت الفيزياء والكون " مولفة أو مركبة ومعدة بدقة متناهية " كي يتيح المصمم الذكي للكون أن يحتضن الحياة ويحتويها، ولقد فشل طرح التصميم الذكي أمام الاختبارات العلمية الدقيقة واعتبر محاولة التفاف دينية على العلم. لقد وفر العلم كما هائلاً من الأدلة التي تثبت أننا لا نحتاج لافتراض وجود كيان مستقل كالنفس والروح أو العقل من أجل تفسير الحياة والوعي. 

    ومع تقدم العلم سوف يتم إثبات إن ما ورد في النصوص المقدسة من معلومات مخالف للحقيقة والواقع وبالتالي يحق لنا الشك في مصداقيتها، رغم الإدعاء بأنها منزلة من " الله" فهذا الأخير، عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، على اتصال وتواصل مستمر مع البشر، ونقل عبر بعض الصفوة المنتقاة منهم مقاربته عن الطبيعة والوجود والكون والحياة والموت وغير ذلك، والتي يفترض بها أن تكون حقيقية وصالحة لكل زمان ومكان ولا تخالف  أو تتقاطع مع المعطيات والمعلومات التي اكتشفها وسيكتشفها العلم لاحقاً.ولقد اتضح لنا على نحو جلي أن هناك اختلافات بين النصوص الموحى بها ونتائج العلم حول العالم الطبيعي وما أفرزه من حقائق تجريبية ومختبرية مثبتة، وتبين أن الكتب المقدسة تحتوي أخطاء فادحة حول الحقائق العلمية، إلى جانب خرافات تتعلق بأحداث أعتبرت تاريخية وقعت في سياق التاريخ البشري مثل خروج اليهود من مصر وحادثة فلق البحر بعصى موسى والأحداث المرتبطة بتاريخ يسوع المسيح وأتباعه وما اجترحوه من معجزات. فقصة الخلق على سبيل المثال حدثت قبل ستة آلاف سنة و رويت في العهد القديم في سفر التكوين والتي سرقها من الأساطير السومرية والبابلية واقتبسها القرآن بصيغته الخاصة في الآية3 من سورة يونس التي تقول: إن ربكم الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا بعد إذنه ذلكم ربكم أفلا تذكرون" وإن السماء ومحتوياتها هي مجرد سقف يغطي الأرض المسطحة الثابتة  التي تدور حولها الشمس والنجوم. في حين يخبرنا العلم وعمليات الرصد والمشاهدة الفلكية وعلم الكونيات أن الأرض نشأت بعد مرور تسعة مليارات من السنين بعد الانفجار العظيم الذي حدث قبل 13.8 مليار سنة وإن هناك مئات المليارات من السدم والمجرات  والنجوم والكواكب، وهذا يعني أن التصور الكتابي المقدس خاطيء كلياً حول هذا الموضوع. وهناك مواضيع أخرى سنتطرق لها لاحقاً كالكوارث الطبيعية التي تسبب الكثير من الدمار والمصائب والمآسي وبالطبع وجود الشر  والمعاناة التي لا يعرف أحد مالغاية منها.  وهنالك سؤال للذين يؤمنون بخالق حكيم خلق الكون لأجلنا ما فائدة العواصف في كوكبي الزهرة والمريخ الخاليين من الحياة، وما فائدة غلافه الجوي وما فائدة الأعاصير والبراكين في مليارات الكواكب المماثلة في الكون وما فائدة اصطدام الكواكب والنجوم والمجرات ببعضها، الفوضى أمام أعيننا، لكننا نختار تجاهلها.. وهي ثيمات سنناقشها في مقالات قادمة... 

    يتبع
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media