كانت مسيرة  حكام "وقادة" العالم الثالث, وخاصة حكام العالم العربى الذين قادوا معركة التحرر والاستقلال الوطنى محفوفة بالمخاطر, صعودا ونزولا وترتبط  بدرجة ونوعية علاقتهم مع الدول الاستعمارية, من ناحية اخرى فان هؤلاء القادة لم يكونوا رجالات دولة, يتمتعون بخبرة كبيرة ووعى ذاتى ومجتمعى متطور, بالاضافة الى ان اصولهم وتنشئتهم الاجتماعية كانت غالبا, مثقلة بتجارب اليمة  من حرمان وقسوة وقلة الفرص ولم تكن مشجعة ان ترتقى بهم لتجاوز صغار الامور والانانيات والصراعات العنيفة للانفراد بالسلطة, هذا بالاضافة الى احادية تكوينهم السياسى الذى يغلب علية العاصفة والاارادة بدلا من فكر سترايتيجى بعيد المدى.
ما زالت شعوبنا العربية تعيش ازمة حادة جدا مع القيادات السياسية السابقة والحالية, ولا يلوح فى الافق على المدى القريب والمتوسط ان تتحسن الحالة وتتبلور قيادات سياسية جديدة تخطط للمستقبل وتنقذنا من استمرارية التخلف والازمات وتضخم الانا.
 ما هى المعايير التى ناخذ بها , الاكثر ضرورة, بالنسبة للمعايير المعروفة اكاديميا فى  توصيف القادة واصحاب القرار والتى يجب ان تتوفر بهم, مثل الخبرة والثقافة الكبيرة وسمات من الشخصية الكرزماتية والتجربة والتسسل الحزبى والوظيفى  انى اطرح السؤال على القراء الكرام ان يعبروا عن ارائهم  ويضعوا المعايير فى تسلسل نحو الاهمية. انها عملية ضرورية للوقوف على درجة الوعى الذى نحن علية وما يجب ان يضاف ويتطور. فى اطار هذا المقال سوف اعرض عدد من الشخصيات التى كان لها والبعض منها مازال لحد الان نافذا فى الحكم,  انى اطرح ذلك كنموذج للتفكير والتقييم فى محاولة اولية عرض الاخطاء فى اطارها التاريخى وكذلك الانجازات : 

 الرئيس جمال عبد الناصر
الانقلاب " الثورة" التى قام بها عبد الناصر والضباط الاحرا عام 1952  انهت الحكم الملكى فى ومصر , وودع الملك فاروق وحاشيته مصر بكل احترام ولم يصيبه اذى. ان المجابهة مع الاستعمار بدات مباشرة بعد اول محاولة لتحقيق الطموحات, تسليح الجيش المصرى , بناء السد العالى, ووصلت المجابهة ذروتها فى " الاعتداء الثلاثى", من  ناحية اخرى عملية الاصلاح الزراعى وعملية التصنيع وبناء ادارة بيروقراطية جديدة تتفاعل مع توجهات حكومة الثورة بالاضافة الى عدوانية الاخوان المسلمين. ان المشكلة الكبيرة التى واجهتا حكومة الثورة  كانت القضية الفلسطينية وعدوانية اسرائيل وطموحاتها غير المحدودة, التى قادت الى حرب 1967 واحتلال اراضى فلسطنية ومصرية ومن ثم اعادة بناء الجيش وحرب 1973 باستعدادات جديدةوقيادة جديدة. ان النتائج تكاد تكون معرفة للجميع. كان جمال عبد الناصر كان قائدا كبيرا رغم الاخفاقات التى منيت بها مصر العربية, وبعيدا عما قام به من تصنيع واصلاح زراعى وبناء السد العالى...الخ. عاش عبد الناصر بسيطة لم تتجاوز حدود ما تقدمه الدولة كرئيس للجمهورية, ودخل ابنائه وبناته المدارس والكليات الحكومية وعاشوا الى حد كبير كمواطنين من الطبقة الوسطى ملتزمين بالاعراف والتقاليد بما تفرضه عليهم التربية وبما يتناسب مع مقام ابوهم كقائد ورئيس جمهورية.  لم يترك عبد الناصر عند وفاته ثروة وارصدة  فى البنوك, ولم تستلم العائلة سوى راتبه التقاعدى كما تقرره القوانين. كان عبد الناصر امينا وراعيا للمال العام , ولم تمتد يدة على المال العام لدغدغة اهواء ولرغبات مكبوتة, عاش حياة بسيطة بعيدة عن الفخفخة والابهة والعلاقات المشبوه. ان من اهم المعايير الذى نشخص بها القائد, السياسى  النخبة هى نوعية علاقتهم بالمال العام: ان  حجم ممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة عندما استلموا السلطة وحجمها عندما غادروا السلطة مهيارا مهما  يكشف عن  موقفهم من الوطن والشعب, ان امانة وحرص  عبد الناصر تؤهلة للقيادة رغم كل الفشل والاحباطات.
  للمقارنه الى حسنى مبارك التى تشير الى صورة مخالفة تماما, ان سلوكيات اولادة وجشعهم ومحاولاتهم المستمرة فى الاستيلاء على قطاعات اقتصادية, والصفقات التى عقدتها زوجته والعمولاته السياسية التى عقدها للتوسط للقذافى وبعض دول الخليج مع الغرب او دول العالم العربى لا يمكن ان تشير الى نفس ابية, خاصة االسماح لبيع ممتلكات ومصانع الدولة لشلته الفاسدة بسعر التراب. حسنى مبارك لم يكن عفيفا وامينا على المال العام فهو لا يمكن ان يكون جديرا بالقيادة.

 الزعيم عبد الكريم قاسم
ما زال العراقيون يذكرون عبد الكريم قاسم بشوق, يذكروا وينسجوا عنه قصصا ووقائع ترتقى به الى درجة المصلحين والقادة الشعبيين الكبار.  عبد الكريم قاسم وحركة الضباط الاحرار اسقطت الملكية وقام على اثرها النظام الجمهورى فى تموز 1958. لم تستمر زعامة عبد الكريم قاسم سوى اربعه سنين وستة اشهر  حيث تم قتل ه من قبل القوميين والبعثيين. فى هذه المدة القصيرةحصلت انجازات عظيمة وكثيرة شملت جميع قطاعات المجتمع: قانون الاصلاح الزراعى, قانون الاحوال المدنية لحماية المرأه, قانون رقم 80 لتاميم النفط العراقى, وبناء 2334 مدرسة ومشاريع اسكانية عديدة ومؤثرة ومن ضمنها  مدينة الثورة والشعب والشعلة  و23 مستشفى من ضمنها مدينة الطب و160 مستوصف, هذا بالاضافة الى السدود العملاقة والمبازل   , وليس اخير العديد من المعامل والمنشأت الصناعية والزراعية. ان ما تم تنفيذه فى هذه الفترة القصيرة يعتبر انجازا كبيرا عملت ايادى العراقيين الوطنية النظيفة, التى لم تلوث بعد, وبتأثيرالسلوك الديمقراطى وتواضع الكبار المجسم بشخص عبد الكريم قاسم الذى كان عفيفا نظيفا مخلصا للشعب والوطن قد افرز طاقات الشعب وامكانياته على العمل والاستعداد والتضحية. جاء عبد الكريم قاسم ببدلته العسكرية وقتله الجناة بزيه الرسمى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.
مما لاشك فيه فان الزعيم  ورفاقه من الضباط الاحرار كانوا على انتماءات سياسية وتوجهات وطنية غير موحدة التى انعكست بالضرورة على مسيرة الثورة وما اصابها من كبوات ونكبات, كما ان تطلعات الضباط الاحرار والموقف من الاستعمار, خاصة اصدار قانون تاميم النفط الذى ضرب مصالح بريطانيا وطموحات الولايات المتحدة الامريكية فى العراق عجل فى تكوين قيادات محلية , كانت اساسا متطلعة للانفراد بالسلطة فى تدبير الانقلاب من قبل القوميين والبعثيين فى عام 1963 والقضاء على الثورة وقتل الزعيم عبد الكريم قاسم. يبقى الزعيم عبد الكريم قاسم ذكرى حميمة عزيزة على الشعب العراقى وخاصة اولئك الذين عاشوا ايام الثورة وتفقدات الزعيم وتجولاته فى شوارع بغداد والمدن العراقية.    تشير الوثائق الرسمية الى ان مجلس قيادة الثورة, بعد سنين عديدة, قد اصدر قرارا باعفاء الزعيم عبد الكريم قاسم من بقايا سلفة مالية قدرها بضعة دنانير وعدم المطالبة بها. كان الرجل مثالا للاخلاق والنبل وكان حريصا فى الحفاظ ورعاية المال العام, لم يبنى له قصورا ولم تكن له ارصدة فى البنوك. ولانه امينا مخلصا كان قائدا وطنيا كبيرا, لقد احبه الشعب ليس خوفا منه وانما لاطلالة كارزماتية تبعث على الاطمئنان.    

     
د. حامد السهيل 11. 8. 2018