معاييرتقييم القادة والسياسيين - 2- بعض نماذج القادة العرب
    الثلاثاء 14 أغسطس / آب 2018 - 19:34
    د. حامد السهيل

    الرئيس صدام حسين 1937- 2003 – هجمة البداوة
    حينما يبدى الرئيس صدام حسين رغبته فى شراء  يخت حديث من احد الشركات الفرنسية, فهو لايدفع الحساب مثل بقية البشر الذى يفتح محفظته و يحرر شيكا معتمدا, وانما تقوم وزارة المالية بدفع الحساب, وكذلك يتم تجهيزه وعائلته بما يحتاجونه من ملابس وحلى وتحفيات حيث يتم دفع الحساب عن طريق السفارات او بعض الاشخاص المعتمدين, وعندما ابدت السيدة حرم الرئيس( ساجدة خيرالله طلفاح) فى التسوق فى محلات (هاروتس) الشهيرة فى لندن , على يغلق المول اثناء وجودها, فرضت ادارة هاروتس على ان يكون حجم التسوق لا يقل عن 20 الف باون استرلينى ولسويعات من الزمن, وافقت السيدة ساجدة وكذلك السفارة العراقية. لم يكن الرئيس صدام حسين حرامى او سارق, وانما وفقا لمفهومه عن القيادة ونظرته لنفسه والى العراق والعراقيين, فان الامر لا ضير فيه:  ان العراق الحديث من صناعته, ابداعه وعبقريته, والعراقيين الذين كانوا حفاة عراة, قد قدم لهم الاحذية والملابس وعلمهم اكل الطماطة وغسل الاسنان  بالاضافة الى الحروف الابجدية, وبذلك فان العراق والعراقيين, موارده وثرواته, تاريخه وحضاراته ملكه الشخصي يتصرف بها كما يشاء وحيتما يشاء. ان صدام حسين لا يختلف عن"القادة" والسياسين; الذين يطمحون ويعملوا للاانفراد بالسلطة والتحكم بها ,خاصة فى دول العالم الثالث, يفرضون افكارهم وتصوراتهم عن الخير والشر, عن الحياة والمستقبل.
    مع صعود نجم صدام حسين فى سلم السلطة فى انقلاب  تموز 1968 اصبح الشخصية الثانية فى التسلسل الهرمى بعد اللواء احمد حسن البكر المسؤل عن القطاع العسكرى لحزب البعث العربى الاشتراكى, الا انه عمل منذ البداية على بناء كتلته الخاصة به ( تنظيم حنين), وفى عام 1979  استلم رئاسة الدولة وازيح البكر من السلطة حيث كانت هذه الخطوة متوقعة وتعتبر تحصيل حاصل.  من العمليات الرهيبة التى افتتح بها رئاسته للجمهورية محاكمة كبار الرفاق الحزبين وتنفيذ حكم الاعدام بهم فى اتهام ملفق الذى كان هو فيه الحاكم والمدعى العام وقد نقلها التلفزيون بشكل مفصل. كان هذا الاجراء العنيف رسالة موجهة لكل المعارضين الذين ينظرهم نفس المصير.  مع صعود صدام حسين الى السلطة تعرف العراق الحديث على نموذج من القيادة  الفردية  الارهابية المؤطرة باجهزة امنية ومخابراتىة مجهز باحدث وسائل وانظمة العمل وتتمتع بصلاحيات واسعة وتعتبر اهم مؤسسات الدولة وتخضع له مباشرة.    مع تبعيث اغلبية الكليات, وتبعثيث الجيش واحقية البعثيين فى التوظيف تمت عسكرة المجتمع والسيطرة التامة علية, خاصة بالعنف وارهاب الدولة المبرمج تم  تصفية غالبية القوى السياسية المعارضة جرى تطويع المجتمع بحيث لم يحصل اى احتجاج ناهيك من بلورة اى مظاهرة ضد النظام, وليس هذا فحسب وانما تم احتكار الفكر والسلوك والمستقبل, وارتبط كل ذلك وارتبط كل ذلك بشخصه حيث كان على معرفة دقيقة بالدولة والمجتمع.
    كانت دوائر الدولة تعمل بشكل جيد ولم يكن المواطنملزما بدفع اتاوات لكى ينجر معاملاته مع دوائر الدولة, وكان الموظف على علم بانه مراقب من قبل الادارة بالاضافة الى ان المواطن يمكن يرفع شكوى الى السيد الرئيس وبذلك سوف تكون العواقب وخيمة جدا. بعد نجاح عملية تاميم النفط  انطلقت خطط تنموية واسعة ( التنمية الانفجارية) وشملت مشاريع متعددة فى مختلف المجالات, كما قدمت تسهيلات وقروض للمزارعين, وكذلك فتح المجال للراغبين باستيراد بضائع واستيراد معامل صغيرة ومتوسطة بقروض من الدولة, كان لهذه النشاطات تنوع موارد الدولة وتشغيل اكبر عدد ممكن من الايدى العاملة. لابد من الناكيد على مشاريع النقل والطرق السريعة ومشاريع الاسكان الحديثة, شارع حيفا والعمارات السكنية فى كرادة مريم وشارع ابو نواس, وليس اخيرا حى الكفاءات فى الغزالية والخضراء فى بغداد, كان الكليات والمعاهد العليا على مستوى على جيد وكان  طلبة الخليج والكثير من بلدان المغرب العربىيقصون الجامعات العراقية وما زالوا يتذكرون ايامهم فى بغذاد. لقد نجح صدام حسين فى بناء دولة قوي تحضى باحترام الدول وكان جواز السفر العراقى لايقبل الشك, هذه الدول كان يحمها جيش كبير قوى حديث ومدرب ومجهز الاسلحة الحديثة ومن اقوى جيوش المنطقة.  
     الخلفية الاجتماعية الاقتصادية لصدام حسين
    ان الاصول الاجتماعية الاقتصادية التى ارتبط بها صدام حسين كانت قاسية الى حد كبير, ان مدينة تكريت فى الثلاثينيات من القرن الماضى لم تتوفر فيها ثروات طبيعية  معتمدة على الزراعة بألاساليب القديمة , ولم يعيش السكان فى بحبوحة, انما فى حالة من الفقر والعوز المستمريين, عدا بعض العوائل التى امتلكت اراضى زراعية شاسعة  والذين انخرط العديد منهم فى السلك الوظيفى الحكومى بمختلف صنوفه وتدرجاته, لم تكن (قرية العوجة)  موطن ولادة صدام حسين احسن حالا من بقية الفلاحين فى مدينة تكريت بل كانت فقيرة جدا ولا تتوفر فيها مقومات الحياة من الماء والكهرباء وطرق المواصلات. توفى والده  قبل سته اشهر من ولادتة وعاش يتيما لا يعرف حنان ورعاية الاب ودف العائلة. ان الاراضى الشاسعة القاحلة المحيطة بتكريت والتى تعيش فيها عشائر تنظم حياتها الاعراف والقيم البدوية المثقلة بأحكام قديمة مسبقة مثقلة بمفاهيم القوة واخذ الثأر والشرف والشجاعة وبقايا حملات الغزو القائمة على السلب والنهب, فى هذه الاجواء نشأ صدام حسين, وقد تولى واجبات عائلية لا تتناسب مع عمره وكان طريق ذهابة الى المدرسة الابتدائية التى انتهى منها عام 1955 محفوف بالخطر لفقدان الامن وكثرة قطاع الطرق والسلابة. كان عليه ان يثبت وجوده فى هذه الاجواء العنيفة والا فانه سوف يلقى مصيرا وحياة بائسة وربما يفشل ويكون اداة طيعة لهؤلاء العتاة. مما زاد الامر تعقيدا ان امه قد تزوجت ثانية وانجبت ثلاثة اخوة له, ولكنه لم يكن على وفاق مع زوج امه. انتقل الى بغداد ليكمل تحصيلة الدراسى وعاش فى جانب الكرخ بمساعدة خاله خير الدين طلفاح, فى المدرسة الثانوية تعرف على افكار حزب البعث وانضم الية.
    فى عام 1959 كانت قيادة الحزب تخطيط لعملية اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم اثناء مروره فى شارع الرشيد, وكانوا يبحثون عن شباب اوقياء شرسين ومستعدين لاطلاق النار على الزعيم الذى كان انذاك يتمتع بشخصية وولاء كبير من قبل الجماهير, لقد وقع اختيارهم على صدام حسين الذى سبقته سمعته المجربة باستخدام القوة والعنف والصلابة لتكملة الفريق المكلف بالهجوم. ان العملية لم تنجح وتم اعتقال المنفذين ولكن صدام لم يجارى الاخرين وهرب لوحده, واستمر هروبه بمساعدة الحزب واخرون بتوصيله الى سوريه ومن ثم جمهورية مصر. لم يستطيع صدام حسين اكمال تعليمه فى مصر  وكان يغيب عن الانظار اسبوع او اكثر دون ان يعلم الاخرون شيئا عنه ولكنه كان يعيش دائما فى بحبوحة. لقد تم مقابلته من قبل الرئيس جمال عبد الناصر الذى قدمه لابنه : انه الرئيس القادم للعراق!!. ان وجوده ومعيشته  فى مصر ومقابلته لعبد الناصر تتحمل كثيرا من التسائل والتاويل.
    استطاع القوميين بقيادة عبد السلام عارف بالتحلف مع البعثيين  من اسقاط وقتل عبد الكريم قاسم عام 1963, ولكن عبد السلام عارف اختلف معهم وبدأت حملة اعتقالات للبعثيين وكان صدام من ضمن المعتقلين, ولكنه استطاع الهروب وبدا فى تنظيم الحزب من جديد. لقد استطاع البعثيون بالتعاون مع عسكريين موالين وبوعود كبيرة من تنظيم انقلاب عسكرى اطاح بحكم عبد الرحمن عارف, وبنفس الوقت تم التخلص من الضباط العسكريبن بعد بضعة ايام. استلم حزب البعث السلطة التى اخذ نفوذ صدام يتصاعد بشكل مستمر بحيث طغى على دور ووجود الرئيس البكر. منذ تموز 1968 عاش العراق ثلاثة عقود عصيبة جدا, ارهاب متواصل مبرمج, اعتقالات واسعة, وعود كاذبة وحربين طاحينتين وحصار مدمر, من ضمنها رئاسة صدام حسين  منذ .1979 واخيرا سقوطه بقوى التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة الامريكية. 
    اصبح صدام حسين رئيسا للعراق وعمره 40 سنه, فى عنفوان الشباب ومن خلفية اجتماعية واقتصادية بائسة ومشاعر مثقلة بالدونية وثقافة بدوية تمجد العنف واستخدام القوة, ومفاهيم  الشجاعة والاخذ بالثأر وفروسية الغنائم التى ليس لها علاقة بالحداثة  والتسامح ولغة الحوار وديمقراطية الحكم واتخاذ القرارات, وبه تجسدت الشخصية التسلطية العنيفة التى لا تقبل النقد بابسط صوره.  من هذه الخلفية حيث اصبح رئيسا للعراق, انه الامر الناهى وكلمتة التى  لها قوة السيف القاطع قام بما تعود علية وفرض نفسه فى المدينة الحضرية والعراق الواعد بالادوات التى كانت حاسمة فى سيرته الشخصية والحزبية الناجحة, انه  يشغل اعلى منصب ومكانة وشخصية فى الحزب والدولة, وبدأ يتبلور لديه بسرعة شعورا عارم بالقوة والتفوق والاهلية, وما يتمتع به الاخرون من مكانة انما انجازه الشخصى,  واوحى لنفسه ان نجاحاته وادواته السابقة سوف تؤهله لنجاحات لاحقة لما يتمتع به من تفكير ستراتيجى وعقل نافذ متقدم على الزمان والمكان. لقد تبلورت لدية النرجسية واصبحت حالة مرضية مزمنه, هذا بالاضافة لما اوحى له به وعاظ السلاطين من الكتاب والشعراء والسياسيين بانه الشخصية التاريخية والقائد الكبير والعبقرية الفذة وحارس البوابة الشرقية واخذ يتعامل مع من حوالية, وزرائه ومع اشراف مدينة تكريت بكبرياء واستخفاف, كما اخذ يتخلص من جميع الذين يعرفون ماضيه وكانوا يمدوه بالمساعدة المادية انتقاما لكرامته قائلا لهم: ها انا من انتم؟. والمثير فى الموضوع ان صدام حسين لم ينخرط طيلة حياته بعمل منظم او حتى فى عمل ما لبضعة ايام, كما انه لم ينجز الخدمة العسكرية الالزامية, ولكنه حمل اخيرا اعلى رتبة عسكرية فى الجيش العراقى( ( المشير الركن وقائد القوات المسلحة).
    مرحلة الحروب والكوارث
    وبدأت مرحلة الحروب والحصار  الكارثية المدمرة التى رافتها تنامى النرجسية والشعور بالعظمة والعبقرية والقائد الضرورة التى كان لها تاثيرا كبيرا فى اتخاذ قرارات مصيرية للدولة والمجتمع بينما كانت فى حقيقة الامر نابعة من العقل الباطن, لاشباع دفعات الغرور والتسلط والتى فرضت هذة القرارات والسلوكيات التى كانت تبدو واضحة فى يوميات صدام , فى طريقة جلوسة وحولية مجموعة من التابعية والمبهورين والسيكار الكوبى الارستقراطى بين اصابعه وقهقهته العالية والتى تمثل له سعادة غامره. تحت ضغوط هذه الاولويات لايمكن ان يتطور وعيا اجتماعيا وسياسيا نقديا يخضع القرارات لعدة اختبارات ومناقشات مع عقلاء ومسؤلين التى يمكن ان تخرج بحلول اخرى غير الحرب والاحتلال. لها السبب   النرجسية   بمغامراته وحروبه العبثية. كان صدام حسين كريما واحيانا كريما جدا, ولم لا والخزينه تحت يديه بدون حسيب ورقيب, طالما اثبتت على فعاليتها كدعاية شخصية محددة به ويتم تداول ماثره من شخص لاخر, وكذلك اطلاقه الايفادات والبعثات الدراسية التى تنجز فى جامعات اوربا وامريكا حول نظريته فى التربية والتنميه وغسل الاسنلن واكل الطماطم .  فى ساعات المزاج المريحة محاطا بالحسناوات يمكن ان ينقل انسانا الى مستوى اخر, لايمكن الوصول الية فى عشرات السنين من العمل الاجير الجاد والنظيف والعكس بالعكس , وليس هذا فقط فقد كان كريما مع الاردن والسعويه وقدم لهم اراضى عراقية, لكى ينتصر على اسطورة كريم العرب حاتم الطائى. من الاهمية بمكان التأكيد على  ان اى شىء يقوم به صدام حسين هو فى الحقيقة يمثل صراعا مستمرا من اجل الانتصار والتحكم بالماضى البائس والجوع القديم والدونية المفترسة للذات المعذبة, اما ما يلحق ذلك فهذا لا يتعدى ان يكون عمل ادارى روتينى, ومع كل ما قام به استمر على بداوته ( البداوة) ولم تسعفه حتى بعد ثلاثون عاما من الرئاسة, واستمرت  ثقافة النرجسية والتفوق دون التغلب على عدوه الباطن, وبعد حربين طاحنتين صرح انه  ما زالت توجد (كونتان – كونه بمعنى عركة) يجب تنفيذها. لم يكلف نفسه الوقوف بضعة دقائق للنظر الى البلد والشعب وما حل به من دماروذلك لانصرافه التام الى نفسه واستمرار وعيه المنحرف. ولا غراية فى اجابته على سؤال مراسل (السى ان ان) فى صباح عمليات تحرير الكويت والطائرات الامريكية تقصف بغداد فيما اذا يتصور الفوز على قوات التحالف, اجاب : نعم سوف ننتصر وذلك لان امريكا غير مستعدة للتضحية بـ 200 الف من جنودها, فى حين اننا مستعدون.!!  لم يكن صدام حسين قائدا كبيرا ولا سياسيا بارعا لانه اتخذ قرارات مصيرية قاتلة وعدم توفر القدرة كـ (قائد) على تقييم الامور بشكل عملى موضوعى وواقعى, كانت وظيفته رئيسا للعراق كبيرة عليه كثيرا ولم يستطيع تحملها, وكان الاجدر ان يكون رئيس عشيرة صغيرة او قائممقام مثلا..  لقد تم بناء حوالى خمسين قصرا فى غاية الفخامة والروعة, فى الوقت الذى كان العراق يعيش تحت وطئة الحصار الاجرامى, وكانت موارد العراق تنحصر فى اقتراح الامم المتحدة فى اتفاقية ( النفط مقابل الغذاء), ولما توجه النقد لها قال وزيره المفضل طارق عزيز, انها ملك الشعب, قصور الشعب. كانت هذه القصور منتشره فى المدن العراقية بالاضافة الى قصر عدى وقصر قصى..الخ, كانت هذه القصور مجهزة يوميا بوجبات الغذاء حيث يمكن ان يزور القائد الضرورة احدها, ولكن لايمكن ان يكون فى خمسين قصرا فى نفس الوقت, ولكن لا يسمح للموظفين والطباخين الاستفادة من الاطعمة التى سوف ترمى كفضلات. هذا الترف وهذا البذخ واللامبالاة فى الوقت الذى يقتات الشعب من البطاقة التموينية بصعوبات بالغة. ان هذه اللامبالاة تجاه الشعب وتبذير الثروة تعبير صارخ عن سادية صدام حسين والمتعة والاستأناس بعذاب الاخرين, لذلك فهو مثل بقية السلاطين والحكام الطغاة الذين يبذروا ثروات البلاد ويقودوها الى مصير بائس ومستقبل اكثر بؤسا وظلاما , انه ليس القائد الذى يبنى ويعمر ويفتح ابواب المستقبل مشرعة للخير والسلام.


    د. حامد السهيل

     12. 8. 2018 

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media