شيء من اللغة.. عن السؤال والتساؤل
    الأحد 19 أغسطس / آب 2018 - 14:27
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    علق السيد (Fahad Al-Saidi) من سلطنة عُمان على الحلقة السابقة من (شيء من اللغة) المنشورة في (الأخبار) بقوله:
     (بارك الله فيك أستاذنا على هذا المقال الرائع. وعلى هذا المنوال أرغب بالاستفسار عن كلمة أتساءل فقد ورد كثيرا في كتب الأخطاء اللغوية الشائعة القول بأن الاستخدام المشهور لها خطأ فهي تدل على المشاركة، من المفاعلة، فلا يصح أن تقول أنا أتساءل ما الذي حدث؟ من ناحية أخرى يكثر في اللغة الإنجليزية استخدام كلمة (wonder) والمعاجم تترجمها بـ(أتساءل). فما الصحيح في هذا الأمر وألا يصح أن نفترض أني أتساءل مع نفسي؟ وبارك الله فيك.
    * فأجبته بعجالة التعليق في التواجه بقولي:  )اولا لكم الشكر للتواصل العلمي النافع. وثانيا: إن (أتساءل) صحيحة فصيحة. ولا ضرورة للتشدد الذي لا مبرر له وستكون لها حلقة خاصة إن شاء الله.. أما    كلمة (wonder) فيغلب عليها التعجب مع التساؤل.
    ****
     
    هنا أنبه أولا إلى أن معالجة الجذر (س. أ. ل) استغرق خمسا وعشرين صفحة في كتابي (وسائل التطوير اللغوي) الذي كان اسمه السابق (منهج التنوير اللغوي). وربما يظهر الكتاب للقراء في أواسط عام 2019 أو أواخره إن شاء الله. لذلك فالجواب هنا مختصر جدا.
    ثانيا: إن الأصل في الجذر (سأل): الطلب، ومنه الآية: (وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ) وحين يطلب السائل جوابا، يستعمل (سأل) أيضا، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ). (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي). وبالتأكيد ثمة فرق بين سأل مع: عن، كما في الآية الثانية ومن غيرها كما في الآية الأولى.
    وقد اسشكل بعضهم على الآية: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) فذهب إلى تخطئتها، وقال: الصحيح: عن عذاب واقع. وذهب نحويون إلى أن الباء، هنا، بمعنى: عن، غير منتبهين إلى أنّ: سأل، هنا دالة على المعنى الأصل للجذر الذي هو: الطلب. فالمقصود بالآية طلب ذلك العذاب تحديا كما في الآية: (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) والتفت مفسرون قدماء إلى هذا المعنى.
    واعترض جهلة اللغة على الآيات: (إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ . فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ . عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) قائلين: كان الصحيح أن يقول: يسألون المجرمين ما سلككم في سقر؟ غير منتبهين إلى أن المتسائلين يعرفون جواب تساؤلهم، فهم لا يسألون وإنما يتساءلون، وأراد النص أن يوضح الحالتين، أهل الجنة وأهل الجحيم.
    هذه الآيات وغيرها تدلنا على أن السؤال شيء، والتساؤل شيء آخر، فقولك (أنا أتساءل عن كذا) كلام عام غير موجه لشخص معين. وسامعك لن يظن أنه معنيّ بالتساؤل. فلا مفاعلة فيه. ولا تجد فيه مفعولا. فكيف يدل على التفاعل أو المفاعلة؟ فهو كما لو قلت: أتمايل في مسيري، وأتماثل للشفاء، من الصيغة نفسها.
    * وفي التنزيل العزيز، وردت لفظة التساؤل من غير ذكر المسؤول، وإنما الدلالة العامة، كونهم يتساءلون ولا ينتظرون جوابا: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ). قد يتساءلون مع أنفسهم، أو مع أشخاص يتخيلونهم أو مع أشخاص حقيقيين. وليس في هذه الآيات طلب جواب، وإنما دلالة عامة ووصف عام وتصوير لحالهم.
    ويقترب من هذا الأسلوب كثير من النصوص الفصيحة، ومنها بيتٌ لجميل بثينة قال عنه نقاد قدماء: إن صدره بدويّ، وعجزه حضريّ:
    ألا أيها النوام ويحكمُ هبّوا
    أسائلكم هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟
    فجميل يدري أن من الحب ما قتل، ولكنه أحب أن يثير الانتباه إلى هذا المعنى بصياغة أدبية فنية راقية.
    فللمحبين مزيد الحب الذي يسعدهم.
    ونلتقي..

    د. هادي حسن حمّودي
    (باحث وأستاذ جامعي عراقي – لندن)
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media