معرض وكتاب عن فنان المعرفة ورائد المفاهيمية الايطالية جوليو باوليني
    الثلاثاء 1 يناير / كانون الثاني 2019 - 19:31
    موسى الخميسي
    شهد النصف الثاني من فترة السبعينات، ظهور تيارات جديدة في مجال الفنون التصويرية العالمية، وأبرزها تلك التيارات التي تقول بضرورة العودة الى العوالم الموضوعية وربط الفن بالحياة اليومية المادية الملموسة على صعيد الادراكات الحسية كالخداع البصري، والمفاهيم المتعلقة بالمحيط الحركي وتحول المواد الآلية والميكانيكية المتواجدة في الحياة اليومية الى طاقات فنية تعبيرية، والاهتمام بالأفكار الفنية بدلاً من الاهتمام بصناعة العمل الفني نفسه من أجل التعبير ومسايرة التيارات الحديثة للعلم والتكنولوجيا السائدة في الحياة الانسانية.

    وبعبارة أخرى توجهت لهدم حصن فكرة الفن للفن، وسعت لدفع الفن في الدائرة الانسانية  التي بدأت تحرز يومياً تطورات عظيمة تركت آثارها على تطور هذه الظاهرة. وقد دفع ذلك العديد من الفنانين المعاصرين الى الوقوف ملياً لاعادة النظر فيما أنتجوه من أجل التواصل مع ما أعلنته الضرورات التأريخية الجديدة، والتي تمثلت في الطموح العام للتحرر من مختلف مظاهر الشكل في انجاز العمل الفني والاهتمام بالأفكار والمظاهر التي تقف خلف حركة المادة في الحياة اليومية للإنسان. أي ان الفنان يتوجه لاستخدام كل ما من شأنه التعبير عن أفكاره والنزول بها الى ما يطلق عليه العديد من الفنانين الاوربيين والايطاليين بشكل خاص بفن الأفكار والعمل لخلق معادلة فلسفية متوازنة ما بين التطورات الحياتية من جانب، والعملية الفنية من جانب آخر.
    وأبرز هذه المدارس هي "حركة فلوكس" و"الشكلية الجديدة" و"الفن الاعتدالي" و"المفاهيمية" و"ما بعد المفاهيمية".. الخ. ويعتبر الفنان الايطالي "بييرو مانزوني" أبرز الفنانين الذين تابعوا أفكار الفنان الدادائي "مارسيل دو شان" في بدايات القرن الماضي والذي سعى لتحرر الفن من ايحاءاته ورموزه، والمطالبة بهبوطه من سلطته وادعاءاته وحواجزه ليظهر نفسه كنماذج وظيفة محددة لها، ولا رسالة سوى تحديد نفسه والاندماج الكامل بالحياة، وخلق رؤية جديدة تتخطى الفن التقليدي نفسه وتحوله الى صياغات نموذجية ساخرة يمكن التعبير من خلالها عن الأفكار التي تتخطى السلطة المدعية للفن، وتختصر المسافات، لأجل وضعه بصورة مباشرة مع نفسه وازاء العالم.

    وهذا المفهوم الجديد عبر عنه عدد كبير من الفنانين العالميين من أمثال نادمان وفوستيل ولونع وجوليو باوليني الايطالي الذي يعتبر أبرز الفنانين الذين جعلوا من العملية الفنية، معادلة تربط ما بين فكر الفنان والحياة اليومية، فالفكرة بالفن هي الهدف الاساسي الذي يقف في مقدمة ما يطلق عليه بالعمل الفني، هي الآلة الكبيرة التي تصنع الفن والتي من خلالها يستطيع الفنان تقديم ادراك جديد للعالم، ويقدم في الوقت ذاته صياغات جمالية تستمد أطروحاتها من الواقع الملموس المرئي، والمتمثل بالأفكار والصور واللغة والكتابة والآلات. والفنان الايطالي " جوليو باوليني" الذي  تقام له احتفالية كبيرة بمناسبة اقامة معرض لابرز اعماله في "مؤسسة كاريرو" العريقة وسط مدينة ميلانو، وصدور كتاب فني كبير يضم مجموعة من الدراسات تقيّم تجربته الفنية لعدد من النقاد الاوربيين  .   يعتبر الفنان باوليني من وجهة نظر النقاد، امتداداً للفنان "مانزوني" الذي ارتبط اسمه باسم الواقعية الجديدة التي كان يرمز اليها بما يقف من حقائق خلف المظاهر اليومية، والفنان "مانزوني" يعتبر هو الآخر امتداداً للفنان الدادائي "مارسيل دوشامب" والاثنان سعيا لتفجير الأطر الضيقة للمفاهيم الفنية التي كانت سائدة، وعبرا في موقفيهما وأعمالهما عن الرفض والتشويه، وقطع الجسور مع كل ما يرتبط بالحركة الفنية التقليدية، وذلك من أجل نزع الأقنعة عنها وتطهيرها داخليا.

    فن "باوليني" يطرح تساؤلاً كبيراً يتعلق بوظيفة الفن كطريق جديد للمعرفة، فهو يحاول أن يشرح التقابلات والتضادات ما بين المادة والشيء الحقيقي الذي يعيشه ويعتاده الانسان في حياته اليومية، وبين تمثيله الفوتغرافي واتجاهاته الفكرية، أي استقصاء الحضور المادي وانعكاساته على الادراك الحسي للمتلقي.

    فالعمل الفني هنا الى جانب كونه كناية للانتقال من فكرة ما أو شعور ما، فهو يقف على مبدأ الفهم والادراك، ويأخذ مكانته مما يحتفظ بالادراك المفهومي للشيء. وأغلب أعمال "باوليني" تقتصر على وسائل التعبير التي يحددها الفنان بالصور الفوتوغرافية والأوراق واللوحات غير المرسومة والتماثيل الجبسية التي تعود الى الفترة الرومانية القديمة، والنصوص المدونة... الخ. فهو يتلاعب بهذه الأدوات لتحديد معنى "مفاهيمي" جديد للفن يعتمد على التوثيق ما بين صورة الشيء أو المادة، وتحولاتها وانعكاساتها الى وسائل استعلامية تتطلب خلق لغة تحليلية جديدة تعتمد على الفكرة كأساس لبنية العمل الفني.

    والعمل الفني حسب "المفاهيمية conceptual لم يعد يرتبط أو يندمج بما تريده أساليب الرسم التقليدية، أو كما تريد أن يقوله العمل الفني، بل هي البحث عما هو خارج حدود طريقة العرض التقليدية المتمثلة بأشكاله وأساليبه وطرقه الاستهلاكية وأسواقه التصريفية للوقوف مع الرؤية الجديدة للواقع الاجتماعي المتغير، وهذه الرؤية كما عبر عنها "باوليني" نفسه تتحدد من الفكرة بالفن الى الفكرة نفسها والتي تحتفظ بالادراك المفهومي، وتمنح الفنان حرية خيالية كبيرة غير متملقة جمالياً يجد الفنان نفسه، وذلك من خلال ما يفعله ويعمله، ليس داخل صالات العرض التقليدية، وانما داخل الاطار العام للوجود الانساني.

    لقد لجأ الفنان "باوليني" الى التماثيل الرومانية القديمة ليجعل منها قاعدة أساسية لعمله تحمل صنعة المتقابلات المتماثلة، فالزمن لديه لا يمكن ان يتجزأ، بل هو يحمل توثيقاً مرتبطاً ومندمجاً بالحاضر كما يعكس في أعماله محاولات أخرى في مجال الفوتوغراف، والذي أصبح عنده وسيلة يهدف من خلالها لامتلاك الواقع وفضحه، وبالتالي معايشته والبحث في ثناياه عن مظاهر الحياة الاعتيادية للناس واستخدم أيضاً مجموعة من الاشارات العرضية والمقتنيات المتنوعة المستخدمة في الحياة اليومية كالوسائد والاطارات والكتب، وشظايا التماثيل المرمرية المتكسرة، والملابس، والأحجار واللوحات غير المرسومة، من أجل التدليل على أنه يسعى لبلوغ الزمن الجديد، واكتشاف لحظاته التي توقظ الماضي من خلال تثبيت أفكاره وقراءة ذاته في مرآة العالم.

    والفن المفاهيمي لا يختصر بما أوردناه، بل ان هذه الحركة تنوعت نشاطاتها في مجال اللغة، حيث ظهرت (جماعة اللغة) والتي جعلت من الكتابة والكلمة المنطوقة، وسيلة مرئية، كما ان جماعات أخرى ركزت اهتمامها على الجسد الانساني الحي الذي اعتبروه الوسيلة التي تلغي المسافات ما بين الانسان والفن، وعرفت هذه الجماعة باسم (جماعة فن الجسد)، كما برزت جماعات أخرى في استخدام الآثار والفوتوغراف وشكل الأرض وتضاريسها.

    إن فاعلية العمل الفني الجديد تعزى الى وسائل الاستلام والتوزيع التي يقوم بها جهاز فني متطور. وفي مطلع السبعينات برز هذا الجهاز الفني، وصلب عوده بفضل التيارات التجريبية بفروعها المختلفة. لقد أراد هذا الفن (المفاهيمي) ولا يزال ان يلفت الانتباه نحو عالمنا اليوم، وما يشهده من تفكك واسع النطاق في البنى الايديولوجية والمؤسسات التقليدية والفنون البصرية على اعتبار ان الممارسة (المفاهيمية) انتقادية، تنازعية، حيوية في تعاملها مع المؤسسات الجمالية للانتاج الفني. وان عطاء هذه الممارسة انما هي وأكبر من مجرد تداول لحاجيات جمالية فنية.

    التيارات الجديدة التي صنفت على انها (فن مفاهيمي) وتمثلت للمرة الأولى على نطاق واسع في المعرض الذي أطلق عليه اسم (مفهوم) وأقيم سنة 1969 في متحف ليفركوسن في المانيا، فهي تحارب التقاليد، وتحاول التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية، وتسعى من منطلقات فكرية خاصة للتخلص لا من الفن بحد ذاته، بل من أشكاله وطرق استهلاكه، ذلك لأن الواقع يصبح بالنسبة للفنان (المفاهيمي) هو المجال الأساسي لأي مقابلة جمالية، بعد ان اختصرت المسافة لأقصى درجة بين الفن والحياة وتحرر الفنان من كل الوسائل، وتوجه مباشرة لاكتشاف نفسه والعالم.

    جريدة الشرق الاوسط

    روما: موسى الخميسي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media