دفاتر من الأدب الجزائري القديم
    الأربعاء 9 يناير / كانون الثاني 2019 - 07:35
    أ. د. شميسة غربي
    جامعة سيدي بلعباس/الجزائر

    حين نتصفح تلك الدفاتر، نحلم بوضع اليد علىنصوص إبداعية؛ ترقى إلى مستوى الأدب البليغ واللغة المتألقة بقوانين عصرها،المحكومة بشروط الصوغ القديم؛ لا تحيد عنه قيد أنملة....كثيرة هي الدفاتر.... غيرأن الاختيار؛ يظلُّ رهين الأذواق، رهين الرؤى في محضن النقد المعاصر والذي غداأكبر هّمه؛ عرض "النص" على طاولة التشريح؛ بحثاً عن علة، يكتسي بموجبهاحُكماً نافذاً؛ إمّا الرّيادة وإمّا الاضمِحْلال....!   

    من وجدانيات أحمد المقري

    كَما جَالَ قَلَمه، جَالَت قَدَمه ...

    إنّه أحمد المقّري (-1041 هـ) متصدّر النخبة فيالقرن 11 هـ، وصاحب أوسع تأليف – على عهده – في الأندلسيات المعروضة في عشرة أجزاءوالتي وسمها – كما هو معروف- بـِ: " نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب و ذكروزيرها لسان الدّين بن الخطيب".

                    وَكَوْنْ هذا التَّأليف مؤسَّس في الأصل على تقصِّي سيرة الوزير لسانالدّين؛ لم يمنع كاتب السّيرة من الخوض في ملفّات متنوعة، فجمع وعرضَ، و أطنب وأسهم، و وصف و استحضر، و علّق و عقّب، واستحسن و اسْتساء، و اغترف من معين المنثورو المنظوم على السّواء، واهتم بالحدث، فتقصّاه، و بالموقف فناوشه، فإذا بالنّفحيعّج بالحركة ويَصْدَحُ بضجيج الاستطراد و كثافة الاستدراك ، يُنْطِقُ الأمواتبتوظيف أشعارهم وأنثارهم، ثمّ الترّحم عليهم، و يلج باب الأحياء، فينقل حركتهم ويدوِّن وجودهم في حياته. يقول عن المُسْتقبلين له عند دخوله دمشق:" ...وقابَلوني، أسماهم الله بالإحتفال و الاحتفاء، و عرّفني بديعُ بِرِّهِمْ فنَّالاكتفاء:

        غَمَرَتْني المَكَارِم الغُرُّ مِنْهم     وَتَوَالَت عَلَيَّ مِنْهَا فُنـــُونُ

        شَرْطُ إحْسَانِهِمْ تَحَقَّقَ عِنْدي                     لَيْتَ شِعْري الجَزَاءُ كَيْفَ يَكونُ؟

    وقابلوني بالقَبول مُغْضين عن جهلي:

        وَ مَازَالَ بِي إِحْسَانُهُمْ وَ جَمِيلُهُمْ              وَبـِرُّهُم حَتَّى حَسِبْتُهُمْأَهْلِي  

                    و يذكر المقّري من كان في طليعة المستقبلين أحمد بن شاهين، شاعرالشام الكبير  (-1053 هـ) فيقول في بعض مايقول عنه: " صَدرُ الأَكابر، الأعاظم، الحائِز قَصَبَ السّبق في ميدانالإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصَّديق الذي بوُدِّه أغتبِطُ، و الصَّدوُقُ الذيبأسباب عهده أَرْتَبِطُ (...) الأجلُّ المولى أحمد أفندي بن شاهين، لازالتِالعزَّة مقيمة بِواديهِ، ولا بَرِحَتْ حضرته جامعة لبواطن الفخر و بواديه (...)فكم له – أسماه الله – و لغيره من أعيان دمشق لديَّ من أيادٍ، يعجزُ عن ِ الإبانةِعنها لو أرادَ وَصْفَها قُسُّ إيَّاد (...) فليتَ شِعْري.. بأي أسلوبٍ أُؤَدّيبَعْضَ حقِّهم المطلوب؟ أَمْ بِأيِّ لِسان، أُثْني على مزاياهم الحِسان؟ (...)فهُم الذِين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنُّوا مع نَقصي أنَّ بحْرَ معْرفَتي وافركامل، حسبما اقتضاهُ طبعُهُم العالي:

        فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ          مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي

    فَمُتَعَيَّنُ حَقِّهِم لا يُتْرَك، و حُبُّهُملا يُخالَطُ بِغَيْرِهِ و لاَ يُشرَك، وَ إِن أطَلْتُ الوَصْفَ فالغاية في ذلك لاَتُدْرَك..."

                    وَ المُتأمل في هذا المقتطف، يستشعِرُ ثنائية الجمْع بينَ عرضِالحدَث و استدعاء الصورة الجمالية لِتَغْليفِ – إن جاز القول-  هذا الحدث الذي يُسْبِغُ عليه الكاتب حلّة منالاحتفالية والترحيب بِضَيْفِ دمشق –بلبل تلمسان- و إذا بالصورة المنتقاة لترجمةالحبور تَرْفُلُ في فنيات البديع والبلاغة، وَ تُبْحِرُ في غَوْر التَّشْكيلالجمالي و كأنِي بصاحبها يَأْبى إِلاَّ أن يقتسم هذه الحفاوة ، مع الكلمة الرقيقة،و العبارة البهيجة، فيستدعيها لتشهد - بدورها – كرم المضيف، و شهامة المُعْتَنِيبالغريب و طقوس إجلال هذا الوافد على بلاد الشام، وإذا بالصُّورة تَنْساب فيتَمَظْهُرٍ خَطِّي بَديعِ التَوْزيع، قَمِين بالمُدَارَسة و التَّدبُّر....  .

    بداعة التوزيع :

                    ماَ مِنْ شكِّ أن القارئ ليس أمام نَثْرٍ عادِي، و لا أمام أداءٍأُسْلُوبي هشّ... كما أنه ليس أمام نُتُوءٍ فنِّي في تاريخ الصِّياغة العربيةالقديمة... فطالما امْتَلَكَ مُماَرِسُوهَا صَهْوَة الأداءِ، وكانوا فُرسانالبلاغة و عُمَدَاء فنون القوْل بِمُخْتلف أَنْسِجَته و في محاولة لمقاربة هذاالمقتطف، يقف القارئ على شكل مُوَزِّعٍ ما بين طول في الفواصل تارة، و قِصَرٍ فيهاتارة أخرى، ويَخْتَزن طولهما و قِصَرُهُما على السواء، شحنة تصويرية يحرِّكُهانَسيجٌ سرديٌّ فَضْفاضٌ قائم على:

    أ- البِنْية الإجلالية:

                    اكْتَسَحَتْ هذه البِنية سِعة المقتطف، و اتخذت شكلاً حلزونيا يبدأبتوظيف التّبجيل وينْتَهي بِأَحَقِّيةِ التَّمجيد...

    يقول المقّري مُبَجِلاً أحمد بن شاهين: "صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قَصَب السّبقِ في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم..."

     حَوَتِ الفاصلتان إِكْبَاراً و تَعظيماً، تلاهُماَ تَصْنيفٌ لِنوعيةالنُبوغ، ثمَّ تحديد لنوعية العلاقة الجامعة بين الرّجلين: "الصّديق الذيبِوُدِّهِ أَغْتَبِطْ، والصَّدُوق الذي بأسباب عهده أرْتَبِطْ ..." وكاَنِّيبالمقّري يَفْتَتِحُ تصعيدا حِكائِياًّ لما هو كائن و لما سيكون بين الَّرجُلين منتواصلٍ أوجبته وحدةُ النبوغ؛ فكلاهما أديب ... و أوجبه اجتماع الرَّأي حول عظمةأحد أعلام القرن الثامن الهجري: الوزير " لسان الدين بن الخطيب" فابنشاهين اقترح و طلب ثمَّ ألحَّ على ضرورة إعادة إحياء سيرة لسان الدين، و المقرِّيتباطأ بدايةً  ، لكنه لم يَلْبَثْ أَنْجدَّ وانطلق  فجاء النفح "باقة"تُزَيِّنُ صدر القرن الحادي عشر للهجرة، و تَسْري نفحاته إلى يومنا هذا... إنهأريج الخزانة العربية عامّة و الخزانة الجزائرية خاصّة...

                    و يَسْتَرْسِلُ الكاتب مُوَظِّفاً بِنْيةَ الإجلال التي تقتضيالدُّعاءَ للممدوح: " لا زالتِ العزَّةُ مُقيمة بِوَاديه، و لا بَرِحَتْحَضْرته جامعة لبواطن الفخر وبَوَاديه". و يكتمل الشِّقُّ الأوّل من بنيةالإجلال – و الذي كان محوره أحمد بن شاهين- بِشِقٍّ ثانٍ: أعيان دمشق الذين ساهمواو شاركوا في الاحتفالية بِبُلْلِ تلمسان، فأكرموه و أجلُّوه حتّى وجد نفسه عاجِزاعن سُبُلِ شُكرهِم: "ولِغيرهِ من أعيانِ دمشق لديَّ من أيادٍ، يَعجِزُ عن الإبانةِعنها لو أراد وصفَهَا قسّ إياد (...) فليتَ شِعري بِأَيِّ أسلوبٍ، أُؤَدّي بعضحقِّهم المطلوب؟ أم بأيّ لسان، أُثْنيِ على مزاياهم الحسان؟..."

                    و هكذا طفِق المقّري في تشخيص فِعلِ الاستقبال الحسن، فتسلّل الوصفإلى السّرد لِيُكوّنا معًا وَحْدَة حكائية مُؤَسَّسة على الصِّياغة المُميَّزة، ومُدعَّمة بفلتات شعرية، جادت بها قريحة المقّري و هو في قمة الانفعال تُجاه منأَكرموا وِفادَتهُ:

        فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ          مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي

                    إنَّه تصاعدٌ يُحمِّل البِنية الإجلالية دلالة فوق دلالَتها، ويتشعّب بها – ربَّما- إلى أمرٍ يَحُزُّ في نفسية هذا الكاتب، خاصّة عندما زارالمغرب الأقصى، و لم يرُقْه المقام فقال: " إنَّهُ لمَّا قضى المَلِكُ الذيليس لعبيده في أحكامه تعقُّب أوْ رَدٌ، ولا محيدَ عمَّا شاءهُ سواءٌ كرهَ ذلكَالمرءُ أَوْ رَدَّ؛ بِرِحلتي من بلادي، و نُقلَتي عن محلِّ طارفي و تلادي، بقُطرالمغرب الأقصى، الذي تمَّت محاسنه لولا أنَّ سماسِرة الفِتَن سَامَتْ بَضاَئعأمنِهِ نقصاً، وَطَماَ به بحرُ الأهوال، فاستَعْمَلَت شعراء العَيث في كامِلروْنَقه من الزخارف إضماراً و قطعاً و وقصا  (...) و ذلك أواخر رمضان من عام سبعة و عشرينبعد الألف، تاركاً المَنْصبَ و الأهل، والوطن و الإلف..."                

    كما يبدو فالإسْتياءُ واضحٌ من وضع غامض، امتعضمنه الكاتب، عكس ما وجده في دمشق التي أحبها و أحب أهلها حبا صافيا " و حبهملا يخالط بغيره و لا يُشْرَك، و إن أطَلْتُ الوصف فالغاية في ذلك لاتدرك"     ويسترسل المقَّري فيحكائيته، فيأبى إلا أن يفتح نافذة المفاضلة بين المغرب والمشرق بالبديهة، و دونأية خلفية مسبقة، و كأنه يعزف فقط على وَتَرِ "لا كرامة لنبي في قومه "فيقول: فهم الذين نوَّهوا بقدري الخامل، و ظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كاملحسبما اقتضاه طبعهم العالي"      

                    يتسلل سؤال مشروع: هل لم يُنْصَفِ الرجل في بلده؟ هل لم يعرفالمغاربة قدرَهُ؟ وكأنِّي بالمقَّري – رغم نبوغه- يرمز ضمنيا إلى أنه لا يدانيحلبة الفطاحل من المشارقة، وأنه لولا شهادتهم فيه لظل خامل الذكر مغمورا... و تلك– لَعَمْرِي- قِمَّة التواضع عند صاحب النفح ... ألم يقُل في موضع آخر من النفح:

        وَلَكِنْ قُدْرَة مِثْلِي غَيْرُ خَاِفَية                وَ النَّمْلُ يُعْذَرُ فِي القَدْر الذِي حَمَلاَ

    ب- البنية الوصفية:

                    كما اعتنى المقري بأهل الشام و أعيانها، التفت إلى طبيعة دمشق،واستعذب جمالها و أطلق العنان لقلمه واصفا: "... دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء و الحياء و الاحتشام، والأدواح المتنوعة، و الأرواح المتضوعة (...) والأظلال الوريفة، و الأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مَبْسَمًا والندى ريقه، والقضبان المُلْدُ  التي تشوق رائيها بجنةالخلد (...) و رأينا من محاسنها ما لا يستوفيه مَن تأنَّق في الخطاب، و أطال فيالوصف وأطاب، و إن ملأ من البلاغة والوطاب  ..."            

                    و كأن الوصف نثرا، لم يكفه، فحاول أن يلخِّص محاسن دمشق مرتجلا لعدةأشعار أجتزئ منها بالآتي:

        قَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي الشَامِ حَبْرٌ               كُلَمَا لاَحَ بَارِقُ الحُسْنِ شَامَه

        قُلْتُ مَاذَا أَقُولُ فِي وَصْفِ قُطْرٍ              هُوَ فِي وَجْنَةِ المَحَاسِنِ شَامَه                     

                    و ينزع المقري في محكياته الشامية إن صح القول – إلى سرد بعض مننشاطاته أثناء إقامته بتلك الربوع، فيقول:" و كنا في خلال الإقامة بدمشقالمحوطة ، و أثناء التأمل في محاسن الجامع و المنازل و القصور و الغوطة، كثيرا مانَنْظِمُ في سلك المذاكرة دُرَرَ الأخبار الملقوطة، و نتفيأ من ضلال التبيان معأولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، و نشرب من سلسالالاسترسال، و نتهادى لباب الألباب، (...) ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلامو الحديث شجون، و بالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، على ذكر البلاد الاندلسية، ووصف رياضها السندسية (...) فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، منالفيض الرحماني..."  "    

                    يُسْتخلص من هذا المقتطف جنوح المقري إلى المتعة الذهنية القائمة علىالمشاركة العلمية في مجالس دمشق و المُعْرِبة عن كفاءة الرجل في تنشيط مثل هذهالمجالس، خاصة حينما خاض في أخبار الأندلس و أشعار الاندلسيين و عرج على لطائفلسان الدين شعرا و نثرا، فبهر به الجلساء، و كان هذا كافٍ لُيجِلُّوهُ ويُنَوِّهُوا بذكره من ناحية، و ليطلب منه شاعر الشام "ابن شاهين" تدوينسيرة الوزير لسان الدين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. يقول المقري: " ... وأسرُدُ من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلَّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة و تقتضيه، و تميل إليه الطِّباعالسليمة و ترتضيه، من النظم والجزل، في الجد و الهزل و الإنشاء، الذي يدهش بهذاكره الألباب إن شاء، و تصرفه في فنون البلاغة حالَيْ الوِلاية و العزل (...)فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماءهم، لهِجوا به دون غيره (...) و علِق بقلوبهم، وأضحى منتهى مطلوبهم (...) فطلب مني المولى أحمد الشاهيني (...) أن أتصدى للتعريفبلسان الدين..."   "                

    بهذا التكليف، و بهذه المجالس يسطع نجمالمقَّري في الأفق، ويحسب له ألف حساب وحساب... و مع ذلك نتساءل: هل كان الرجلسعيدا بكل هذا ؟ و هل صفيت مشاربه، فاطمأن إلى الناس و إلى الحياة اطمئنان الحالمالمتنعم؟!

    لا أظن... فالنَّغص موجود، و النكد يخترق نطاقالكتمان... يقول المقَّري متفجعا:  "وأنى يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، و نبتْ جنوبُه عن المِهادِ،وسدَّد نحوه الأسف سهمه، و شغل باله ووَهْمَهُ، و بثَّ في قلبه تبريحا، و عناء لميجد منه إلا أن يلْطُفَ الله تسريحا، فما شام بارِقةَ أملٍ إلا في النادر، ولا وردمنهل صفاء إِلا و كدَّره مكر غادر، و قد كثر الجفاء، و برِح بلا شك الخفاء (...)والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل (...) و داء الحسد أعيا الأول والآخر، و قد عظُمالأمر في هذا الأوان و كثُر المزدري والساخر (...) وليت شعري علام يُحْسَدُ منأبدل الاغتراب شارته (هيئته) وأضعف الاضطراب إشارته، و أنهل بالدموع أنواءه، و قللأضواءه، (...) و شتان ما بين الاقتراب و الاغتراب (...) فذاك تسهل غالبا فيهالأغراض و المآرب، و هذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب..."  "                              

        يَا رَبْ نَفِّسْ هُمُومِي                وَاكْشِفْ كُرُوبِي جَمِيعًا

        فَقَدْ رَجَوْتُ كَرِيمًـا                   وَقَدْ دَعَوْتُ سَمِيعًــا  "  "             

                    لعل "الفجيعة" في هذا المقتطف بادية جلية، فجيعة النفسالإنسانية حين يستفحل أساها، حين تدقها مطارق الغدر و المكر، و تهشمها على مراياالزمن، و دون سابق إشعار: فالمقَّري مهموم مكلوم، شاك على القرطاس بعضا من منغصاتعيشهِ، و إن سكت من منغصات عيشه، و إن سكت عن تعيين سببها في البداية، و اكتفىبتصوير الحال: (السهاد، الأسف، الانشغال، التبريج، الكدر، الجفاء) إلا أنه لا يلبثأن يشخصن هذه المنغصات:

    •             افتقاد الصديق الحق

    •             استفحال الحسد

    •             شيوع السخرية و الازدراء

    و كلها – لعمري- ما اجتمعت على إنسان إلا وأقضت مضجعه، ودقت عظمه، إلا من رحم ربك... إنها ضريبة الإمتياز يؤديها المرء علىهذا النحو ... فإما يصمد ويواجه الإعصار، و إما ينهار و يفلت منه القرار، فيصبحصيدا لشماتة الأعداء ونكتة في أفواه السفهاء...  .

    جـ- بنية الوداع:

                    لم يكن وداع دمشق والدِّمَشْقيين بالأمر الهين، فقد أشجى قلب بلبلتلمسان، و هو الإلف المألوف في تلك الربوع... فراح يسكب على القرطاس أثر الحدث علىنفسه، ويتمثل بالغزير من أشعار غيره في مثل هذا الموقف: " ثم حضر بعد تلكالليلة موقف الوداع و الكل ما بين واجم وباك و داع، فتمثلتُ بقول مَن قلبه لفراقالأحباب في انصداع:

        وَدَعَتْهُمْ وَ دُمُوعِي                  عَلَى الخُدُودِ غِزَارْ

    و حُقَّ لي أن أتمثل في ذلك يقول العزازي            

        لاَ تَسَلْنِي عَمَا جَنَاهُ الفِـــرَاقُ     حَمَّلتْنِي يَدَاهُ مَالاَ يُطَــاقُ

        أَيْنَ صَبرِي أَمْ كَيْفَ أَمْلِكُ دَمْعِي؟           وَ المَطَايَا بِالظَاعِنِينَ تُسَاقُ                    

                    و ضاقت بي الرحاب، عند مفارقة أعيان الأحباب و الصحاب، وكاثرت دموعيمن بينهم السحاب، و زَنْدُ التذكُّر يقدح الأسف فيهيِّج الانتحاب (...) و تخيلناأن إقامتنا بدمشق، وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم، أو لمحة طرف(...) و طالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي (...) ثم أكثرت الالتفات عناليمين و عن الشمال (...) وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال (...) ثم استجدبي السير إلى مصر واستمر..."          

    و فعلا غادر المقري "دمشق" و قصد مصرحيث سيشرع في تدوين سيرة لسان الدين... وظلت الذكريات الشامية عالقة بذهنه، متوهجةفي قلبه، و كثيرا ما لهِجَ لسانه – كما حكى ذلك – بقول القائل:

      وَ مَا تَفْضُلُ الأَوْقَاتُ أُخْرَى لِذَاتِهَا            وَلَكِنْأَوْقَات الحِسَان حِسَانُ      !!

                    وتظل محكيات المقري غزيرة، غنية، متنوعة ترقى بالمتن إلى أصولالتقعيد لموسوعة أدبية عربية، أبدعها واحد من أبناء هذه الأرض الطيبة... وقامت هذهالموسوعة على إفراز وضعيات، و رصد مواقف أسهمت كلها في اتساع دائرة الحكي، رغم أنهذا العرض المتواضع لم يتجاوز حدثا رئيسا ألا وهو تواجد المقري في دمشق و ما كشفعنه من علاقات وشيجة مع أهل الشام حيث طاب المقام، وجرى القلم بمجريات الأحكام...

    شميسة غربي/ سيدي بلعباس- الجزائر
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media