د. صادق السامرائي
هاتفني قائلا: الكتابة مضيعة للوقت , فالدنيا لمن وثب!!
قلت: الحياة مشارب ومذاهب!!
قال: مارس السياسة وتنعم بالفساد فهذا هو الديدن المنصور!!
قلت: الكتابة لا علاقة لها بهذا وذاك , وربما تكون مرضا يعاني منه الإنسان الذي يحاول أن يعيش بعقله!!
قال: دع الكتابة وتعال معي لنتنعم بما يدره الفساد!!
قلت: وهل هذا من أخلاقيات الدين والحياة؟
قال: أي دين أي حياة , إنها القوة والسيطرة وحسب , والفائز مَن يملأ أرصدته بأموال النفط المُشاع!!
إنتهى الحوار , وعدت إلى الكتابة , وتأملت ما قاله من كلمات مزعزعة وتصورات مروعة , ينطق بها إنسان من حملة الشهادات التخصصية العليا , وإحترت في أمر الناس من عامة البشر , وماذا عليهم أن يفعلون , فهل أن مصيبتنا في هؤلاء المتعلمين من حملة الشهادات والتخصصات , والذين مات فيهم الضمير والأخلاق؟!!
قلت لنفسي: الكتابة إدمان , وهي إدمان لذيذ , ولا فرق بين الإدمان عليها والإدمان على الكحول!!
كان لي زميل منهمك بتأليف الكتب , فيطبعها ويبذل مالا وجهدا ثم يركنها في مرأب البيت , فقلت له ذات يوم : إنك لمدمن حقا على الكتابة , فحدق بوجهي مستغربا , وهو يقول: ربما هذا هو الجواب على ما أقوم به , فلم أجني مالا من الكتب , بل هي خسارة متراكمة , لكن شعورا لذيذا يجتاحني وأنا أنظر إلى ما أصدرته من كتب!!
وفي واقع الأمر أن الكتابة نداء داخلي لا يُقاوم وعمل لا بد له أن يتحقق رغم أنف الكاتب , لأن الفكرة تهاجمه وتستحوذ عليه وتستعبده وتجبره على التعبير عنها والإنطلاق بها إلى حيث تريد , فتكون هي السيدة وهو العبد المطيع المستسلم المستلطف لإمتلاكها له.
ولا يمكن للكاتب أن يقول بأنه لن يكتب , لأن قرار الكتابة ليس قراره , وهذا يعني أن بعض الأشخاص يولدون وفي أدمغتهم مراكز متوقدة وقادرة على إستجلاب الأفكار والتعبير عنها , ولهذا تخترها الأفكار وتتوافد إليها بتواتر يتناسب وقدرات تمثلها وإنتاج ما يؤكدها ويمنحها الفرصة للتفاعل مع عناصر الحياة.
فالأفكار إرادات صيروراتية تبحث عن قدرات تؤهلها للتحقق والنماء , والإنتشار في أروقة الوجود المزدحمة بالكائنات المتنوعة الخصال والمواصفات.
وعليه فأن الكاتب بلا قوة على مقاومة الفكرة أو طردها , لأنها لا تزوره أو تتوطنه عبثا أو صدفة , وإنما إختيارا وبإندفاعية متوثبة لتحقيق كيانها وتجسيد فحواها , فهو المأمور وهي الآمر المطلق , الذي يمنحه الشعور بالعطاء المتميز الأصيل , وتلهمه ما لا يتمكن منه غيره , وتحفز في دنياه نبضات التلذذ بالمعنى المطلق للإحساس بأنه موجود وكائن دفاق.
ولهذا فأن الكاتب يكون مدمنا , بمعنى أنه يكرر فعل الكتابة , ويشعر بأعراض إنسحابية إذا لم يمارس عادته اليومية , ويكتب ما تراكم في مخيلته من ذخائر إبداع وعطاء فكري وأدبي وفير.
وعدت إلى الذي هاتفني وقلت: إن الكتابة نور , وما تنغمس فيه نار!!
وإن أثر النور خالد ولهيب النار خامد!!
فاكتب أيها القلم , لأن الوقت الذي لا تكتب فيه هو الضائع!!
د-صادق السامرائي