شيء من اللغة: التمني والرجاء والأمل
    الأحد 13 يناير / كانون الثاني 2019 - 22:34
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    يبدو أن بعض المتابعين والمتابعات فوجئوا بما قلته في الحلقة السابقة من أنني سبق أن تحدثت عن التمني، فلما لم يجدوا الحلقة الخاصة به في (الأخبار) طالبوني بنشر التمني مع أمنياتهم الطيبة. كما حداني أفاضل آخرون للحديث عن الأمنية والرجاء. فلا بأس بأن نتحاور معا عن هاتين الكلمتين الطيبتين وإن كان نوالهما عسيرا.
    ***
    تقول لمن لا تحب رؤيته: أرجو أن تبتعد عني. فأنت تطلب منه بلطف أن يبتعد عنك. ولو كنت متضايقا منه جدا، لقلت له: أتمنى أن تبتعد عني. فالتمني مبالغة في الرجاء. وفي الرجاء تنازل لا تراه في التمني. فحين تتمنى لصاحبك ذرية صالحة، فأنت تخاطب نظيرا لك. وأما الرجاء فأنت تهبط بنفسك قليلا لغاية تريدها. ولذلك لا تقول لابنك أرجوك، بل تقول: أتمنى منك كذا وكذا. أما إذا خاطبت أباك فلك الرجاء منه والتمني له ولك. وللحديث هذا صلة أخرى لاحقا.
    أما التمني نفسه فتعبر به عن استعظام ما تتمناه. وللتعبير عن ذلك أمامك عدة صيغ، نأخذ مثالا: نفترض أنك هتفت لصاحبك تعبر عن شوقك له، فتقول:
    * أتمنى أن أراك.
    * أو: أتمنى لو أراك.
    كلاهما تعني: أنك تريد رؤيته وأنت مستعظم لها، شغوفٌ بها. فالجملة الثانية تعني صعوبة ذلك الالتقاء، وأحيانا استحالته. والجملة الأولى حين تعتقد سهولة الالتقاء بينكما، مع الاستعظام والشغف في الحالتين.
    وفي الأمثال العربية (التمني رأس مال المفلسين).
    وثمة بيت شعر مشهور:
    ما كل ما يتمنى المرء يُدركه
    تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ
    فالشاعر يحتمل تحقيق التمني، أحيانا. ومثله تماما الشاهد النحوي:
    منىً إن تكن حقًّا تكنْ أحسن المُنَى
    وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
    وأعتقد أن الذي يُدرك كل أمانيه محظوظ. لأنّ بعض الأماني فوق الواقع. وبذلك يمكن استعماله مجازا للتعبير عن شدة الشوق والتعلق، حتى كأن المتكلم ليخال ما يتعلق به أو يشتاق إليه مما لا يمكن أن يتحقق، كما لو كتبت لأخيك المسافر بعيدا: أتمنى لو أراك اليوم. أو تكتب لصاحب تحبه جدا جدا فتقول له: أتمنى لو أراك. أو تقول لعالم من العلماء: أتمنى لو أحظى بأن أدرس على يديك. تعظيما للمعنى في الحالتين.
    ذلك أن التمني والأمنية والأماني والأمنيات والـمُنى.. وما إليها، كلها من الجذر اللغوي (م. ن. ى). وتتجمع تحته معان اعتبرها اللغويون متباعدة جدا. كاعتبارهم (المنيّة) بمعنى الموت، من هذا الجذر. وذهبوا إلى أن (المَنا) بفتح الميم والنون تعني القدَر.
    ومن هنا انطلقوا إلى القول: بأن التمني هو الأمل. وهذا غير صحيح. فالأمل شيء والتمني شيء آخر. وقد تحدثنا عن الأمل في الحلقة السابقة. فمن استعمالات العرب الفصحاء لهذا الجذر وما يُشتق منه نصل إلى نتيجة أن معنى المُنى والأماني والتمني يقترب من معنى الأمل ولكن يختلف عنه اختلافا بيّنا.
    التمني هو التطلّع نحو شيء (قد) يحدث في مستقبل تراه بعيدا وليس قريبا، وغالبا ما يريد به المتكلم التعبير عن استبعاد حدوثه أو اليأس من حدوثه، ولذا جاءت المقولة التي ذكرناها (التمني رأس مال المفلسين). فالمفلس أي الذي لديه فلسان أو ثلاثة هو فقير مدقع، فليس له من وسيلة لتحقيق ما يريد، لذا يجعله (أمنية) بعيدة عنه. والطالب الكسول الذي لا يدرس ليس لديه أمل في النجاح ولكنه (يتمنى) ذلك. فالنجاح عنده (أمنية) لا (أمل) فيه. ولكن، حتى الرجاء والأمل فيهما الراجح التحقق وفيهما العسير تحققه.
    والاستعمال الشائع لفعل التمنّي أن يأتي بعده (أنْ) فتقول لصاحبك: (أتمنّى أن أراك). وفي بعض الحالات يكون هذا الاستعمال مناقضا لمعنى التمني إذ ينقله إلى معنى (الأمل) فكأنك تقول: (آملُ أن أراك). والذي أقترحه عليك في حالة استبعاد احتمال رؤيته، أو في حالة المبالغة في بيان شوقك له أن تقول (آمل لو أراك) ليتلاءم ذلك مع المعنى الأصيل للتمنّي الدالّ على استبعاد حدوث ما تتمناه، قبل حصول تطور الاستعمال له على ما بينته في الفرق بين (أتمنى أن) و(أتمنى لو). كما في قولي الآن: أتمنى لو اتسع حجم الحلقة لبيان أمور أخرى.

    د. هادي حسن حمودي
    (باحث وأستاذ جامعي عراقي – لندن)
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media