عمر الكون ومعضلة الزمن 3
    الأثنين 21 يناير / كانون الثاني 2019 - 18:38
    د. جواد بشارة
    شكل الزمن لغزاً كبيراً ومحيراً لدى الكثير من رجال الدين والفلاسفة فالجميع كان يبحث في طبيعة الزمن وماهيته وأصله واتجاهه وتدفقه. وكانت المسألة الأساسية هي معرفة ما إذا كان الزمن هو خلفية مطلقة وثابتة للأحداث الكونية دون أن تؤثر الأحداث وتعاقبها على الزمن نفسه، باعتباره مستقلاً عنها وكأن له كينونة مستقلة. أو أن الزمن  ليس سوى مفهوم ثانوي أو مجرد تعبير لغوي ناجم عن الوعي البشري يمكن حرفه عن العمليات الفيزيائية، ما يعني أن هذا الوعاء يتأثر بالأحداث. فلو تبنينا الوصف الأول للزمن يمكن لنا أن نتحدث عن عملية " خلق الزمن الفيزيائي"  ومناقشة مسألة الزمن. والحال إن الحديث عن أحداث سابقة لخلق الكون وما يمكن أن يحدث " بعد اختفائه، لن يكون له معنى. فالزمن في هذه الحالة مفهوم يتعالى على الواقع، ليس له بداية ولا نهاية قابلة للتصور. وهذا الطرح ينتمي  للمفهوم الأفلاطوني عن الحقائق الأبدية أو الخطوط والمخططات المسيرة التي يستقي منها الواقع الزمني خصائصه. من هنا نجد أن هذا " الزمن" يتمتع بصفات تنسب عادة للكينونة الإلهية . أما المفهوم الثاني فهو مفهوم أرسطوطاليسي، ينتمي لكتابات فلاسفة الطبيعة الإسلاميين واستلهمها القديس أوغسطين وفيلون الاسكندراني وقالا بأن الزمن ولد مع ولادة الكون ولم يكن موجوداً قبل ظهور الكون لأن التفكير بذلك  يكون عبثي بقدر عبثية التفكير بمفهوم الــ "قبل " لأنه ذريعة أو حجة أو تبرير سكولائي قروسطي للالتفاف على صعوبة وغموض الألغاز المتعلقة بإشكاليات ماقبل  خلق العالم والنشاط الرباني قبل وخلال تلك الفترة ، إذ أن تلك المفاهيم تعتبر عامل الزمن بمثابة ظاهرة منحولة  ومزاحة وترتبط عضوياً بخصائص الكون وبالتالي فإن بداية الزمن هي اللحظة التي ظهرت فيها ثوابت  وقوانين الطبيعة من العدم في حالة من الاتقان القصوى، فآرسطو يعتبر المكان محدود في حين لايعدو الزمن أن يكون سوى " رقم" في حالة حركة  وبالتالي فهو لامحدود ، أي بإمكاننا دائماً أن نزيد ونظيف عليه وحدة قياسية للدرجة  أو المستوى الذي بلغه الزمن، خاصة وإن آرسطو يعتقد أن حركة الأجرام السماوية أبدية وفق تعريفه لمفهوم الحركة، فالزمن بالنسبة له هو أحد خصائص  الحركة . لا يجب أن ننسى أننا نقيس الزمن بالساعات اليدوية أو الجدارية وهي مصنوعة من المادة التي تخضع لقوانين الطبيعة. ونستخدم الحركات النظامية  المنتظمة سواء دورات الأرض  أو الكواكب وذبذبات رقاص الساعة وغيرها والتي تؤشر مرور الوقت . فلايمكننا إضفاء أي معنى للزمن خارج الأدوات والعمليات التي تقيسه أي تبني وجهة نظر عملياتية يعرف فيها الزمن من خلال طريقة قياسه. في حين أن هناك إمكانية لتحديد الزمن من خلال حركة الأشياء . في المفهوم الأول نعرف بالضبط أين نتواجد وإن الزمن ثابت لايتغير فهو نفسه في كل الأحوال والأوقات ، اليوم والأمس  ودائماً، في حين أن الفرضية الثانية أو المفهوم الثاني للزمن  تظهر تعاريف جديد ومفاهيم جديدة للزمن من شأنها أن تلغي مفهوم الزمن التقليدي، إذ أن المضمون المادي للكون  يعيق على نحو متنوع ، طبيعته ، وبالتالي ، في كون يتوسع ويتمدد، ويتغير باستمرار، يمكن للمفهوم العملياتي للزمن أن ينطوي على مفهوم حاذق وماكر  ومتقن  ومتنوع أو متغير.
    يقودنا ذلك إلى إمعان النظر في طبيعة الزمن وماهيته مرة أخرى، ومحاولة إدراك واستيعاب مفهوم المكان والزمن المطلقين، والنسبيين، أو الزمكان المطلق والزمكان النسبي. لم يغفل إسحق نيوتن عن معضلة الزمن . فصورة زمن " مطلق" ومتسامي غير مقيد بالأحداث الكونية ، لانهائي وثابت، يشكل أسس الوصف النيوتني للعالم. فعندما نعرف المعادلات التي تدير  التحولات  الزمكانية للعالم، عندها يمكننا تحديد كيفية وقوع الحوادث المستقبلية، إنطلاقاً من الظروف البدئية.
    الفهم الجديد للزمكان الآينشتيني، الذي حل بديلاً عن المكان  والزمن النيوتني ، قلب على عقب موقفنا من الشروط والظروف البدئية الأساسية الأولية للنشأة الكونية، وإمكانية وجود بداية للكون. وبفعل الجمع بين بنية الزمكان والمادة، فإن كل " فرادة" في المحتوى المادي للزمكان( على سبيل المثال، الكثافة اللانهائية للمادة التي تتجلى في المفهوم ألتقليدي  للبغ بانغ الانفجار العظيم) تشير إلى أن هذا الزمكان بلغ أوجه. وبات علينا أن نتعاطى مع " فرادات" للزمن والمكان ، بدلاً من " فرادات" في الزمان والمكان . بمعنى أن " الزمكان" الذي اقترحه آينشتين يغطي الكون المرئي برمته، على عكس النظرية النيوتنية عن المكان والزمان المنفصلين  والتي تصف وجود الأجسام والأشياء في مشهد ثابت لفضاء أو مكان خارجي . وتبعاً لذلك فإن " فرادات" النسبية العامة تمثل خواص أو خصائص  الكون المرئي بمجمله، وليس فقط موقع معين منه ، وفي لحظة زمنية من تاريخه.
    فلو درسنا الكون المرئي المتوسع والمتمدد حسب هذا الوصف الآينشتيني ونعرض ماضيه وتاريخه السابق فمن الممكن اعتباره ناجم عن " فرادة" وهذا الاستنتاج يثبت أن للكون المرئي بداية  وعمر محدد. إن هذه الخاتمة الاستنتاجية ، كأي حدس منطقي، تنجم عن عدد من الفرضيات التي تحتاج إلى فحصها وتدقيقها بعناية. إحدى تلك الافتراضات تقول أن " الثقالة " دائماً جاذبة . وإن نظريات الجسيمات الأولية المعاصرة تدرس عدد من أنواع الجسيمات المختلفة ، وأشكال متعددة للمادة، والتي لم يتم بعد التحقق من صحة هذه الفرضية حيالها. والحال إن نموذج " الكون التضخمي univers inflationnaire مبني على مطلب أن تكون تلك الفرضية غير صحيحة ففي هذه الحالة فقط إن فترة التوسع  التضخمي الهائل  القصيرة وما شابها من تسارع ، هي التي تتجلى ، وبالتالي فإننا  بتفادينا للفرادة يمكننا  التخلي عن مفهوم بداية للزمن لكن ذلك لا يعفينا من التفكير وتحديد الشروط الأساسية والظروف الأولية البدئية التأسيسية في لحظة ما من الماضي، لو تعين علينا أن نختار كوننا المرئي الحالي إنطلاقاً من تعدد لانهائي من العوالم الممكنة الناجمة كلها عن " فرادات خاصة بكل واحد منها " ، وحتى في حالة وجود " الفرادة" فعلينا أن نأخذ بالاعتبار أنها تختلف من عالم لآخر فهناك أنواع متعددة ومختلفة من الفرادات . فتحديد خصائص تلك الفرادة يعتبر من الشروط الأولية الأساسية التي يجب الإشارة إليها بحدود فضاءنا وزمننا في الكون المرئي. 
    عود  على بدء:
    هل نستطيع فصل الزمن عن عناصر الكون التكوينية الأخرى؟ ولو كان ذلك ممكناً فبماذا نفسر عمر الكون الذي يقدر حالياً بــ 13.8 مليار سنة ؟ فنحن نتأمل في هذا الأمر الذي نسميه " الزمن" دون أن نعرف على وجه الدقة أي نوع من الكينونات هو. هل هو جوهر؟ هل لديه وجود فيزيائي ملموس، سائل أو هلامي أو أي حالة أخرى؟ هل هو وهم أم حقيقة فيزيائية؟ أم هو مجرد نتاج لحالة سيكولوجية، أم بنية مجتمعية؟ هل هو ثمرة لــ اللاشعور أو اللاوعي ، أم مفهوم ثقافي أم جانب من جوانب السيرورة الطبيعية؟ 
    من يستطيع أن يؤكد ، إنطلاقاً من معرفة يقينية، أن الزمن  وعاء يحتوي وقوع الأحداث وتعاقبها، أم بالعكس هو نتاج وقوع تلك الأحداث؟ هل يتوقف الزمن إذا " لم يحدث أي شيء في الكون، أو لا يتغير أي شيء موجود؟ أم إن الزمن مستمر في مروره وتدفقه حتى لو لم يحدث أي شيء في الكون؟ وهل هناك إيقاع ثابت للتدفق الزمني أم يمكن أن يحدث تسارع زمني على غرار التسارع المكاني  في حالة التوسع والتمدد؟ وهل يمكننا أن نعتبر الزمن حقلاً من حقول العلم ومجال تخصصي علمي كما هو حال الفضاء أو المكان الهندسي؟ كيف يبدو الزمن للإنسان العادي؟ هل هو كما تصفه لغتنا اليومية أو كما نعتقد أننا ندركه ونفهمه ونعيشه، أو كما يفرض الزمن نفسه علينا حاملاً الموت والنهاية النسبية لكل واحد منا في أفقه ؟  هناك ثلاث فئات من البشر ممن تصدوا للإجابة على مثل هذه التساؤلات. العلماء والفلاسفة ورجال الدين. فقد استحوذ الزمن على لباب  واهتمام الفلاسفة منذ العصور القديمة إلى يوم الناس هذا، ومن هؤلاء آرسطو، والقديس أوغسطين، وكانط، و هوسرل، وبيرغسون، وهيديغر الخ ، ممن وضع أسس التفكير والتحليل والتعريف للزمن ومفارقته ، بيد أن الإكتفاء بما قدمه الفلاسفة بخصوص الزمن من نصوص  ومقاربات لا يحل مشكلة ومعضلة ومفارقات الزمن، خاصة وإن الفلاسفة ليسوا متفقين حول مفهوم الزمن وماهيته وطبيعته ، فلكل واحد منهم مفهومه وفهمه الخاص . بعضهم لديه خطاب يجعل من الزمن مجرد مبدأ للتغيير ، أو مغلف لايتغير  لأي تعاقب في الأحداث الخ ، البعض الآخر يعتبره كينونة فيزيائية مستقلة، أو مجرد منتج للوعي  والشعور  البشري. البعض يعتبر الزمن مجرد نظام  لــ " ما قبل وما بعد "، دون الإشارة للحاضر، و لا حتى لوعي المراقب  بل و لا حتى حضوره، الشيء الوحيد الموجود حسب منطقهم هو العلاقات الزمنية القائمة بين الأحداث وبذلك يبدو الزمن بمثابة نظام للتعاقب يستخدم التسلسل الزمني  الموضوعي على نحو نهائي وقطعي. فيما يعتبره البعض الآخر الزمن مجرد " معبر" للحظة معينة إلى لحظة أخرى  أي الناقل من الحاضر للماضي  ومن المستقبل للحاضر. أي تعاقب موضوعي للأحداث، وربما لن يكون فقد مجرد تسلسل زمني  فقط بل ديناميكية لا تتوقف يكون محركها  الشعور الذاتي. فالعلماء حددوا زمنياً عمر الكون بــ 13.8 مليار سنة وإن الكرة الأرضية تشكلت قبل 4.45 مليار سنة وإن ظهور الكائن البشري عل سطح الأرض يعود إلى 2 أو 3 مليون سنة ما يعني أن الكون كان موجوداً بدون أن يكون بحاجة لوجود البشر على الأرض  ومستقلاً عنهم وبالتالي فهو ليس بحاجة لوجودهم لكي يوجد خاصة وإن هناك فرضيات بخصوص وجود كائنات بشرية أو غير بشرية أخرى عاقلة ومتطورة منتشرة في أرجاء الكون ومنها ما هو قديم جداً يعود تاريخ ظهور إلى بضعة مليارات من السنين. فالأوميون ظهروا على كوكب أومو قبل البشر بخمسة ملايين سنة . تطلب الأمر كما قال الشاعر بول فاليري " عملية تنظيف  للموقف اللفظي أو الكلامي ، والتحول إلى لغة أخرى تتعاطى مع الزمن وهي لغة الرياضيات والفيزياء أي لغة العلم وأول من قام بذلك هو إسحق نيوتن الذي أدخل عامل الزمن في معادلاته الرياضياتية سنة 1687 وأصبح يعرف بالمتغير t في معادلات الديناميكية وأعطاه سمة " الزمن" ويقصد هنا به " الزمن الفيزيائي"  وليس الزمن النفسي أو الفلسفي أو اللغوي  أو الديني. وهو نفس المفهوم العلمي الذي قصده آينشتين في صيغته المعروفة بإسم ّ الزمكان l’espace-temps" وما علينا سوى إضفاء خصائص  فيزيائية لهذا المصطلح الذي نحته آينشتين واعتبار زمن الفيزيائيين هو الزمن الحقيقي وأكثر أصالة من باقي المفاهيم الزمنية الأخرى والأكثر اتصالاً وارتباطاً بالواقع الفيزيائي للعالم. وعلينا أن نفهم معنى تدفق ومسار الزمن وسهم الزمن أو اتجاهه وقابلية عكس الزمن وتحوله إلى مكان، وحقيقة الزمن خارج الأفق الكوني وفي الثقوب السوداء والثقوب الدودية، وذلك  في الحلقة القادمة.

    يتبع
     
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media